الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤوف مُسعد يشهد نُعاس البحر فيمشي فوق الماء

عدنان حسين أحمد

2021 / 3 / 19
الادب والفن


بشجاعة كبيرة وصراحة غير معهودة يستعيد الروائي المصري رؤوف مُسعد لمحاتٍ ومقاطع متناثرة من سيرته الذاتية التي انضوت تحت عنوان "لمَّا البحر ينعس" والصادرة عن دار "النسيم" في القاهرة. لا يسمّي رؤوف هذا الكتاب باليوميات أو حتى بالمُذكرّات الشخصية التي تُكتب بشكل متباعد نسبيًا وإنما يحلو له أن يسمّيها بالذكريات الناجمة عن فعل التذكّر الانتقائي لأحداث مهمّة بقيت عالقة في شريط الذاكرة ولا تقوى على مغادرته أبدًا. وعلى رغمٍ من بعض الأخطاء في الأسماء والتواريخ فأن ذاكرة رؤوف مُسعد متيقّظة وقادرة على فعل الاستذكار لأحداث وقعت على مدى ثمانية عقود. ما يهمنا في طفولته التي أمضاها في مدينة "ود مدني" السودانية أنه بدأ في الخامسة من عمره في الروضة والتحضيري، وفي السابعة شرع بالمرحلة الابتدائية التي أكملها بنجاح وهو في سنّ الحادية عشرة لكنه سيتعثّر في المرحلة الثانوية قليلاً ثم يلتحق بقسم الصحافة في جامعة القاهرة ويتخرّج فيها عام 1960، وكان ضمن دُفعته حمدي قنديل، وسامي خشبة، ويحيى مختار الذين تعيّنوا في الصحف ووسائل الإعلام الرسمية باستثناء رؤوف مُسعد الذي شعر بالإقصاء المُتعمَّد. تُرى، ما سرُّ تهميشه وإبعاده؟ هل لأنه كان شيوعيًا، أم أنَّ هناك سببًا آخر لتنحيته عن المشهد الثقافي والإعلامي في مصر؟
لا يتبِّع رؤوف مُسعد نسقًا خطيًّا في سرد الأحداث، فهو منذ بداياته الأدبية الأولى كان حُرًا، ومتمردًا على الأنماط السرديّة التقليدية لذلك فهو يتنقّل بين الأزمنة والأمكنة والأحداث، فلاغرابة أن يقطع سير الحدث ثم يعود إليه بعد مدة من الزمن. فقد نوّه عن اكتشافه الشيوعية في سنّ الخامسة عشر، ثم انتمائه بعد سنتين إلى تنظيم "طليعة العمال" لكنه لا يجد حرجًا في القول بأنه لم يقرأ أيًا من كتب ماركس ولينين ولم يفهم كتاب "المادية الجدلية" لجوزيف ستالين ربما لوعورة الترجمة أو لعدم قدرته على هضم الأفكار والمفاهيم الفلسفية آنذاك.
كثيرة هي الأسماء الأدبية التي تمرّ في هذه السيرة لكنَّ أهمّها على الإطلاق بالنسبة إليه هما صنع الله ابراهيم وكمال القلش فهو يعترف بالفم الملآن:(لولا وجود صنع الله في حياتي لما كتبت أصلاً، ولولا تشجيع كمال لما أنهيت "بيضة النعامة") وهذا يعني أنّ رؤوف مُسعد كان كاتبًا خاملاً وكسلانَ وقد عبّر عن هذا التقاعس والفتور حين قال:"كنتُ فاقد الثقة فيما أكتب. . . كنتُ أكتب ببطء. . . وأحيانًا بدون مزاج" والأغرب من ذلك أنه كان يطالب صنع الله وكمال دائمًا بقراءة ما يكتب وأن يعرف رأيهما في كتابته. وكان رؤوف وصنع الله لا يؤمنان بشيء اسمه الإلهام أو المَلَكَة الإبداعية، وإنما بالدأب، والانتظام، والمثابرة على الكتابة. وبفضل صنع الله الذي كان بمثابة السوط الذي يلسع ظهور الكسالى تعلّم رؤوف التأمل، والنظام، والانغماس في الكتابة الإبداعية التي يحبها ويؤمن بها لأنها تستغور أعماقه وتلافيف عقله. وسوف ينضمّ إلى هذه المجموعة في السجن عبدالحكيم قاسم ويؤسس الأربعة مجموعة متمردة على "الواقعية الاشتراكية" ويبدأوا بكتابة نماذج قصصية وروائية بنَفَس حداثي مغاير لما كان شائعًا في ستينات القرن الماضي. وسوف يتعرّف رؤوف لاحقًا على أدوار الخرّاط الذي كان منغمسًا بنظرية "الحسّاسيّة الجديدة" التي طبّقها على أدب السبعينات فأنارت لرؤوف بعض الجوانب المُعتمة في رؤيته الإبداعية وطبيعة الأعمال الأدبية التي يمكن أن يقدّمها للقرّاء العرب.
لم يَشهد رؤوف مُسعد التعذيب المُمنهج في السجون السياسية فبعد حادثة تعذيب شهدي عطية وقتله الذي أحرجَ الرئيس جمال عبدالناصر حين كان في زيارة رسمية إلى يوغسلافيا حيث وقف أحد نوّاب البرلمان ووجّه التحيّة إلى شهدي عطية الذي مات تحت التعذيب الأمر الذي دفع عبدالناصر لإرسال برقية عاجلة يطلب فيها وقف التعذيب والتحقيق مع الجلادين. ومن أبرز وسائل التعذيب التي كانت شائعة في زمن عبدالناصر هي الضرب، والإهانة، والعمل الشّاق بتكسير الحجارة، والهتاف القسري بحياة عبدالناصر.
يؤكد رؤوف بحسب تجربته كسجين سياسي بأن السيادة داخل السجن هي للأقوياء بدنيًا وللمتمكنين ماديًا فكلاهما يكسب الاحترام، ويحافظ على كرامته، أمّا الضعيف فيخسر كل شيء بما في ذلك "شرفه الذكوري" حيث يتم اغتصاب السجين في ليلته الأولى من قِبَل السجناء الأقوياء. وقد كتب صنع الله ابراهيم عن هذه الثيمة في رواية "شرف" لكنه حدّدها بسجين غير سياسي أتُهِم بالقتل دفاعًا عن "شرف مؤخرته". ويخلص رؤوف إلى القول بأنَّ القائمين على السجون المصرية في زمن عبدالناصر كانوا يحتقرون الإنسان سواء أكان سياسيًا أم غير سياسي، مُذنبًا أم بريئًا.
تحتفي هذه السيرة بعدد كبير من النساء اللواتي أحبّهن رؤوف وعاش معهنّ أحلى أوقاته لكننا سنختار اللواتي تزوجنَ منه ودخلنَ في رواياته بأسمائهن الصريحة أو المُحوّرة. فرؤوف، كما هو معروف لأصدقائه المقرّبين جدًا، لا يؤمن بديانة أو مذهب ورغم أنه ابن قسيّس بروتستانتي، لكنه سرعان ما أسلم حين طلبت منه السيدة إيمان فتحي قبل الزواج أن يتحوّل من المسيحية إلى الإسلام، وقد كتب عنها فصلاً في رواية "بيضة النعامة" أسماه "يمامة"، كما فشل في زيجته الثانية من بربارا البولندية، لكنه سوف ينجح مع بولندية أخرى تُدعى ميشا التي احتلت حيّزًا هامًا من الرواية نفسها. تتوالى النساء العابرات والمعجبات في حياته إلى أن تأتي آناماريكا، المرأة الهولندية التي أنجبت له يارا وديدريك وتحمّلته على علاته تاركة إياه منزويًا في مكتبه المنزلي، منقطعًا لكتابة القصص والروايات، وخوض بعض المنازعات الفكرية والثقافية في الصحافة المكتوبة.
يؤمن رؤوف بالحقوق الفردية والجماعية ويقاتل حتى النفس الأخير من أجلها وقد دفع ضريبة باهضة الثمن من أجل أن يعيش حياة حُرّة وكريمة حيث أمضى أربع سنوات في سجون عبدالناصر فلاغرابة أن يجازف بالسفر إلى "الأرض المحرّمة" ويقاطعه الجميع تقريبًا وعلى رأسهم صديقه الحميم صنع الله ابراهيم، بينما اكتفى القلش بمعاتبته على هذه الرحلة المتهوِّرة التي فتحت عليه أبواب الجحيم ولم تنتهِ تداعياتها حتى يومنا هذا.
يشتبك رؤوف مُسعد مع بعض الشخصيات الأدبية ويتهمها بالتناصّ مثل جمال الغيطاني في رواية "الزويل" وعلاء الأسواني في "نادي السيارات". ولم يرتح رؤوف إلى شخصيات ثقافية متعددة من بينها عبدالرحمن الأبنودي، ومحمود أمين العالم، ويوسف ادريس لكنّ موقفه النبيل يتجلى حين يقول لن أكتب عن الأموات منهم لأنهم لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.
يتوقف رؤوف مُسعد عند الكتاب الذي ألّفه مع د. نصر حامد أبو زيد واختلفا عليه فنشره رؤوف بعنوان "الإسلام لابني"، كما نشره في مصر بعنوانين مختلفين بعد أن انقطعت علاقته مع أبي زيد في حينه.
يعدّد رؤوف قصصه ورواياته التي كتبها في أمستردام وهي "بيضة النعامة"، "صانعة المطر"، "مزاج التماسيح"، "الإسلام لابني"، "السودان. . . قرون من القهر وستون عامًا من الحنين"، "في انتظار المخلّص"، "غواية الوصال"، "إيثاكا"، "زجاج مُعشّق"، أما "صباح الخير يا وطن: شهادة من بيروت المُحاصرة" فقد كتبها في القاهرة بتشجيع من صنع الله ابراهيم.
يُنهي رؤوف مُسعد كتابه ببيت شعري مقتبس من الشاعر البريطاني وليم إرنست هينلي الذي يقول:"أنا سيد مصيري . . . وأنا كابتن روحي". أما العنوان الشاعري "لمَّا البحر ينعس" فيعني أن المتصوفة المصريين الذين يجلسون أمام البحر (النيل) يعتقدون أنه ينعس في وقت غير معروف، ومَنْ يشهد هذا "النُعاس" تتحقق أمنيته كأن يمشي فوق الماء أو يكون في مكانين في وقت واحد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81