الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كورونا و السقوط في الماكدونالدية الكاملة

حازم معيوي

2021 / 3 / 21
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات


كثير من البشر يتسائل عن مرحلة ما بعد الوباء، وخصوصا بعدما شهده العالم من تغيير واسع النطاق في كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية و السياسية و الثقافية وغيرها، وما زال العالم يسأل! ما السبب وراء ذلك؟ ومن اين بدأ ؟ ومتى سينتهي؟ والاهم من ذلك وهو المراد من مقالتي هذه، طريقة تاثيره على سيرورة الواقع المعاش والعلاقات الانسانية بالاخص، كالاغلاقات المستمرة والحجر الصحي والمكاتب المنزلية و المسافات بين الافراد وفرض الكمامات الوقائية بحسب الشركة المصنعة حتى وصلنا الى منافسة الشركات الطبية في الدول المتقدمة على تصنيع المصل (اللقاح)، ومن يفرض نفسه بقوة اكبر، ينشر منتجه في اكبرعدد ممكن من الدول، وغيرها من القوانين الجديدة التي حملت في باطنها معان غير السلامة العامة و المحافظة على الصحة لمنع انتشار الوباء، ولو نظرنا بشكل اكثرعمقا لوجدنا انها عززت الفردانية بشكل او باخر،مما ادى لوجود مسافات اكبر بين الدول والسكان من نفس المنطقة السكنية، حتى داخل المنزل والعائلة الواحدة.
وبهذا الصدد، تتجسد الاثار الفلسفية في الحياة اليومية بقوة عبر الازمان وخصوصا ما يتبعها من ثقافة مراعية لتلك الفكرة، الطعام مثلا يعتبر من ابسط الاثار الفلسفية الثقافية وخصوصا في طريقة تقديمه واكله وتجهيزه مما يدل على فكرة سائدة او على الايدولوجيات المتحكمة في الفضاء العام في اماكن عدة حول العالم.
ومن اكثر الامثلة شيوعا، الامأكولات الغربية السريعة والمتمثلة بشطيرة "البرغر" وبالمعنى الادق هي عبارة عن فلسفة امريكية واضحة تعكس نمط الحياة اليومي، وتتميز بانها وجبة سريعة التحضير، فردية، ولا تختلف احداها عن الاخرى، وفي بعض الدول الشرقية والغربية يقابلها وجبة "السوشي" التي انتشرت بانتشار الفلسفات الشرقية واتجاه الناس لتعلمها والبعض يعاملها بروحانية على انها تمثل روح فلسفة اليوجا والاسترخاء وانها وجبة صحية في ان واحد. كلها منتجات روج لها مزامنة مع الاتجاهات الفكرية الرائجة، وهذه الرموز الثقافية لها دورها في التغيير الثقافي والمجتمعي، وايضا صورة واضحة لعولمة الحداثة التي تخلق نماذج خاصة بها وتعمل على نمذجة المحيط، ويتفرع منها نماذج مشابهة في مضمونها في العالم، اي تنشر هذه الافكار والثقافات للجميع.
كتب عالم الاجتماع جورج ريتز في كتابه ( ماكدونالدية المجتمع) The McDonaldization of society، ذلك النموذج الذي نقده وطرحه وناقش قيمه وقال: "الثقافة ستكون لها صفات تشبه المطاعم السريعة." نموذج سلسلة مطاعم ماكدونالدز والذي يعتبر كرمز ثقافي لظاهرة الاكل السريع، والذي وارى ان هذا بدوره يعمل على توقف التفكير والاحتمالية لدى الانسان لان جميع الزبائن سياخذون الخدمة نفسها وبالسرعة والكفاءة العمالية ذاتها. ولو نظرنا بتمعن لوجدنا ان الزي و النظام والتصميم واحد في كل الفروع، بحيث يتم اظهار السيطرة ويقلل تواصل الزبون مع الموظف باكثر من طريقة كالطلب عن طريق مايكروفون وانت بجانب سيارتك او الطلب الالي داخل الفروع من خلال الة تعطيك رقم طلبك ورقم طاولتك وانت عبارة عن رقم يتم مناداته لاخذ طلبه الموجود على الطاولة الرئيسية، ويمكنك رؤية الموظف فقط عند الدفع، وبهذا يتم صبغ نموذج والية مادية بحتة يعكس طابع المكان بالكامل، اي لا يوجد اي نوع من التواصل فيه ولا اي طابع انساني اوعقلاني.
ونتيجة لذلك تم التوسع في دول العالم بسياسة ماكدونالدزعابر القارات مع اسقاط قيمة الجودة و التركيز فقط على التوسع والانتشار والربح كما هو موجود في عالمنا اليوم. ومع ذلك تم محاربة هذا النموذج في مناطق عدة في العالم لعدم كفاءة الجودة وانتصارا لصحة السكان، وفي المقابل التركيز ودعم المطاعم التي تركز على الجودة بدلا من الكمية وبعدم سيطرتها على عمالها وجعل الخدمة قابلة للقياس والتوقع اي عقلانية اكثر وفيها تفاعل انساني اكبر.
والغريب ايضا ان هذه المبادئ انتشرت بشكل كبير حتى وصلت الى قطاعات اخرى كالتعليم والتسوق والسياحة و الشركات الكبرى والصغرى وغيرها، وهذه السيطرة الكاملة خرجت عن سياق المطاعم والاكل وتجسدت في كل قطاع كثقافة ربحية بحتة غير انسانية ويتم تكرارها دون وعي ولا يتم توقع مخاطرها.
فالعمال في الشركات يتبعون مهام محددة بشكل متكرر وبوقت محدد وكفاءة عالية متوقعة مسبقا وتحت سيطرة ورقابة تقنية كالكاميرات والة تحديد الدخول والخروج دون اي اعتبارات انسانية او حالات فردية وخاصة، والهدف الاساسي فقط يكون اتمام العمل في نفس اليوم وباسرع وقت ممكن، وبهذا يتم التخلص الشبه كلي والتحكم في العلاقات من خلال زيادة الاجراءات، والمثال الذي ذكرته سابقا لنموذج ماكدونالدز يوضح هذه العمليات بشكل واضح اي بكافة اشكال الخدمة الذاتية للزبون والتخلص من بقايا الطعام بنفسه وتعبئة النماذج الجاهزة وغيرها.
هذا النموذج لم يتفرد فقط في المطاعم بل انتشر ايضا في المحلات التجارية وخصوصا في البلاد "المتقدمة" اقتصاديا كالمانيا بشكل عام و وزادت بشكل كبيرمع بداية فايروس كورونا و الاغلاق الكامل، بحيث تقوم العاملة على صندوق الدفع من وراء حاجب بلاستيكي بحساب ما تم شرائه دون النظر اليك وتسألك بشكل محدد فقط بداية بـ "مرحبا ثم كيف تحب ان تدفع(بطاقة الكترونية او بشكل يدوي) ثم وداعا و يوم جميل" وتتكرر هذه الجمل بشكل عفوي مع كل زبون تماما كالالة والغريب ايضا انه حين يقوم الزبون بتوجيه اي سؤال خارج نطاق الشراء يتم وبشكل مباشر مناداته من قبل زبائن اخرين ورائه ليسرع! وحينها تدرك تماما ان هذه الثقافة سيطرت على عقول السكان وتعمقت في ثقافتهم واصبحت الحياة اليومية لهم تتصف بالسرعة دون مراعاة الفوارق الانسانية والشخصية بين الافراد. ومثال اخر يوضح السيطرة على عملية الاختيار العقلية من خلال فرض نوع معين من الكمامات الطبية (اف اف بي 2) في اوروبا حتى اصبح هذا النوع يفرض على الجميع ويتم معاقبة من يرتدي غيره بعد قرابة سنة كاملة واكثر من انتشار الوباء! في حين ان العديد من الانواع لها نفس الفعالية ودرجة الحماية.
قطاعات اخرى غرقت في هذا النموذج:
واستدل من كتاب"عولمة الحداثة وتفكيك الثقافات الوطنية" لاحمد زيد بحيث يصف فيه تأثير الماكدونالدية على التعليم بتعبير: ”إن الأساتذة نفسهم يشبهون عمال مطاعم ماك حيث يؤدون أعمالهم من أجل إعادة إنتاج المعرفة لا خلقها، وحتى الباحثون عن المعرفة يعملون على طريقة ماك في الحصول على المعرفة السريعة، وفي تنظيم البحوث بطريقة نمطية على المنوال نفسه الذي ينظم به عمال ماك شطائرهم”. وهذا يرتبط بشكل كبير مع ما يعيشه العالم اليوم من تغيرات وباء كورونا وكيفية اعادة هيكلة الامور بحيث يصبح الطالب كجهاز الحاسوب يعمل من خلال ملف فيه مهام وموعد تسليم ومحاضرة الكترونية واحدة اسبوعيا للاستفسار، وهذا معاكس تماما لنظام التعليم المتعارف عليه، كون النظام التعليمي خاصة التعليم العالي يخضع لمتطلبات التنبؤ والكفاءة والضبط.
مشكلة هذا النموذج في المجتمعات أنه لا عقلاني ويحاول تجريد العلاقات الإنسانية، وقدراتها على التواصل والتوقع، وتحجيم الاتصال المباشر بين الافراد، وينصب على جلب المكاسب لا على تكوين حياة لها أهداف محددة تختلف من شخص لاخر. بحيث في ايامنا الحالية نستطيع استقراء هذه الامور وبشكل واضح، اي ان الانسان اصبح فرديا بشكل اكبر في فترة الوباء من خلال التعليم الاكتروني و الشراء عن طريق الانترنت واستبدال الحياة الاجتماعية اليومية بحياة واقع افتراضي تعرض فيه ما تريد وتخفي ما تريد بما يتوافق مع يومك وكمية الاعجابات التي تتلقاها ويتفق تماما مع ما قام بالتعبير عنه جان بودريلارد عام 1981 من خلال مصطلح "المحاكاة" اوSimulation اي ان الانسان اصبح لا يكتشف العالم من خلال الواقع ذاته والحياة اليومية بل اصبح يكتشف كل شيئ من خلال الاعلام وطرائقه وبهذا يصبح الانسان مغيب وبشكل قوي، ووصف هذه الحالة بالواقع المفرط او Hyper reality.
فالانسان مع الوقت اصبح يشبه الالة وازاد التشيؤ شيئا فشيئا، بحيث لا يحتاج ان يلمس النقود، كل ما هو بحاجة اليه حاليا واكثر من السابق" كود" او رقم ليدفع مقابل ما تم شراءه، والمنتج ذاته يكون على شكل صورة غير ملموس، ولا يوجد شخص تتحاور معه، كل شيء مكتوب كمواصفات المنتج مثلا و الالوان البراقة التي في الغالب لا تشبه المنتج في شيء وبهذا يتم تعزيز الشراء و الربح والتخلص من الجانب الانساني التفاعلي تماما كالحوار بين البائع و المشتري. وهذه النقاط تشبه في صميمها الالية الماكدونالدية القائمة على الربح البحت والهدف الرئيسي هو زيادة الانتاجية لصاحب المنتج وعكس ايدولوجية التشابه العالمي(النمذجة)، وبنظري اصبحت هذه الوسيلة اسرع بكثير واسهل في تمرير اي ثقافة وايدولوجية معينة لدول العالم كافة من خلال منشور على صفحات التواصل الاجتماعي او برامج العولمة الاجتماعية الاخرى.
ويسميها جورج رترز (طرائق الاستهلاك الجديدة) وهي الأشياء التي يمتلكها الرأسماليون ويريدون منك أن تمتلكها في كل دول العالم، كالمحلات التجارية ، وبطاقات الائتمان، والمطاعم الرخيصة، ومواقع التسوق الإلكترونية وغيرها. بحيث يدفع الناس الى شراء ما يفوق حاجتهم واستخدام نقود لا يمتلكونها والسيطرة على العقول من خلال الدعاية والاعلان التي لا تقل عن طرق التلاعب النفسي بشيء وخلق الحاجات وتعزيز الثقافة الاستهلاكية، وتحويل كل شيء الكترونيا وعلاقته المباشرة بزيادة البيع.
وقد يعتقد البعض ان هذا النموذج فقط موجود في دول معينة و في مجالات محدودة، فالجواب هنا يكون لا، وجوابي هنا لا ينفي التفاوت بين قوة التطبيق والفكرة، لان الفكرة موجودة وتنتشر باختلاف طرق تطبيقها وامكانية العمل بها. هذا النمط اصبح متداخلا في الثقافة اليومية وطريقة التفاعل الانساني اليومي، بل هو تصميم ورسم لكيفية عيش الشعوب وهو نمط رأسمالي يتم الترويج له بشكل مستمر منذ القدم، بحيث يقوم على تغيير القيم والعادات حتى يتطبع الانسان بطباع هذا النموذج. ومن المؤسف ان كل ما يتعارض او يخالف هذا النمط يفشل بالضرورة بسبب رؤية نموذجا واحدا للنجاح والتنمية والتقدم وباهمال خصوصية الموقع الجغرافي والاختلاف الثقافي بين دول العالم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حلقة جديدة من برنامج السودان الآن


.. أطباق شعبية جزائرية ترتبط بقصص الثورة ومقاومة الاستعمار الفر




.. الخارجية الإيرانية: أي هجوم إسرائيلي جديد سيواجه برد إيراني


.. غارات إسرائيلية تستهدف بلدتي حانين وطير حرفا جنوبي لبنان




.. إسرائيل وإيران لم تنتهيا بعد. فماذا تحمل الجولة التالية؟