الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صالح حمدوني في نصوصه (زر في وسط القميص)

رائد الحواري

2021 / 3 / 21
الادب والفن


الأدب مهما كان الشكل الذي يأتي به يبقى جميلا، فإن أتقنت صياغته وأُحسنت لغته، بالتأكيد سيكون ممتعا للقارئ، وبهذا يكون قد أوصل إحدى مهامه، إحداث المتعة. قلَّة من يكتبون نصوصا نثرية، كما هو الحال في أدب الرسائل، لهذا أعتقد، أن من يُقدم على هذا النوع من الأدب يستحق التقدير، والتوقف عند انتاجه.

"صالح حمدوني" يقدم نصوصا بقالب أدبي جديد، حيث يُدخل اللَّغة المحكية في النص ويجعلها مكونا أساسيا فيه، ويصيغُها بأشكالٍ متعددةٍ، فمرّة تأتي من خلاله مباشرة، ومرّة يستحضرُ المرأةَ /المخلّص لتخرجه مما هو فيه من بؤس واغتراب، ومرّة يلجأ للمكان/لدمشق التي يعشقها فيتغزل بها وبجمالها، فيتحوَّل الأسى/السواد إلى لغة بيضاء وحتى ناصعة. فالمخفّفات: عناصر الفرح "المرأة، الطبيعة، الكتابة، التمرد" نجدها مجتمعة في "زر في وسط القميص"، وهذا بطريقة غير مباشرة ـ يخدم الفكرة التي يُراد تقديمها، فكرةُ الاغتراب/الضغط/الألم الذي علق (بالسَّارد) فيأخذه اللاشعور إلى أماكن/عناصر تمنحه شيئا من الراحة والسّكون، فيلجأ إليها، لأنَّها الملاذ الوحيد الباقي له.

العنوانُ

العنوانُ "زرٌ في وسطِ القميصِ" متميزٌ، لأنه جاء كشارح/كواصف للوحة فنية، حيث وُجد في مكان (خاص) وسط القميص، فالتركيز عليه وعلى المكان الذي هو فيه، يأخذنا إلى فكرة أنه الأهم، كما هو الحال في الآية القرآنية رقم 28 من سورة القلم: "قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ" فمكان زر "صالح حمدوني" يجعله أكثر حكمة.

بهذا يكون "الوسط" مكان جميل لتميزه، وأيضا يخدم الفكرة التي يُراد تقديمها، فوجوده في المنتصف يعطي القارئ فكرة أنه يعلم كل ما هو حوله/محيط به، لكن هناك فكرة أخرى يحملها المنتصف، وهي الحيرة،

وهذا أيضا جاء في الآية القرآنية 143 من سورة النساء " مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ" وهذه الحيرة بدأ بها الكاتب عندما استخدمها كمفتاحين للكتاب، جاء في الأول: " اكتب من دون كتب يصبح التاريخ معقود اللسان، والأدب أخرس، والعالم معوق، فالكتب محركات التغيير ونوافذ مفتوحة على العالم" ص3، وجاء في الثاني: "لا تكتب. إن شعوبا أخرى تستعمل الكتابة، لكن هذا الاختراع قتل الذاكرة لديهم، لأن الكتابة ليس لديها حرارة الصوت الإنساني، وعندهم يدّعي الجميع المعرفة، يا لها من معرفة تافهة، تلك المعرفة الجامدة في كتب صماء" ص5، بهذا المنتصف/(الحيرة) يضعنا "صالح حمدوني" وكأنه يقول: لا تعتمد على مقولات (مقدسة) لأن هناك (مقدس) آخر يتناقض معها، وعليك أيها القارئ أن تجد مكانك/طريقك الخاص بعيدا عما هو سائد.

من المفترض أن يوصل العنوان إلى المضمون/الشكل الذي يحمله، وهذا ما فعله "صالح حمدوني" في متن كتابه، فهناك أكثر من عنوان فرعي متعلق بالعنوان الرئيس: "انقطع زر في وسط القميص" وجاءت مقدمته بهذه الفاتحة: "الفرح ليس مهنتي، قال الماغوط، لكني في وقت الحزن الشديد، ولحظات القرف النهائي أتفتّت رغبة بممارسته" ص17، بهذا يؤكد الكاتب على عدم أخذ أي فكرة/ كلام على أنه مطلق، وأيضا يخدم فكرة ضرورة أخذ الحال/ الوضع الذي يقال في الكلام/ الفكرة، فما يصحّ الآن، أو في هذا المكان يمكن أن لا يصحّ في المستقبل، أو في مكان آخر، بهذه الحيادية والموضوعية علينا التعامل مع الأفكار.

وهناك عناوين أخرى تخدم فكرة الحيرة/ الوسط "تعال ... ولا تأتي" ص27، " لا عرفانة فل، ولا عرفانة ابقى" ص52، وهذا يأخذنا إلى متن النصوص وارتباطها بالعنوان، يقول في "باب الهوى" :

"أقف الآن في منتصف الليلة ال35 من سجني، على نافذة باب غرفتي الغربي في السجن،الثلج يهطل بغزارة في مشهد مهيب وهادئ، تنقصه موسيقى جنائزية.

أضواء أعمدة السجن الكاشفة على الأسوار تأتي من خلف المشهد، فتبدو حبات الثلج أكبر وأكثر خفة، هي الأكثر خفة في هذا الليل الطويل الثقيل" ص24، فكرة الوسط حاضرة من خلال "منتصف الليلة 35" وأيضا من خلال المشهد الذي أتى بصورة جميلة : " مشهد مهيب وهادئ، تنقصه موسيقى"، تتناقض مع فكرة السجن وليلية ثلج/برد، وهذا (التناقض) بين الصورة والفكرة يخدم فكرة (الحيرة) التي يريد إيصالها لنا، نلاحظ أن اللغة بيضاء وجميلة صدرت من رحم واقع قاسٍ، ولم يقتصر بياضها على الفكرة فحسب، بل نجده في الألفاظ المستخدمة أيضا : " نافذة، باب، مشهد، مهيب وهادئ، موسيقى, أضواء، أعمدة، الكاشفة، أكبر، أكثر، خفّة، حبات " وهذا يشير ـ بطريقة غير مباشرة ـ إلى الفرح الكامن في الكاتب رغم واقعه القاسي.

بهذا يكون وصف مشهد الثلج والألفاظ التي استخدمت فيه تمثل حالة تناقض/ حيرة مع الواقع السجن، وهذا يتماثل مع فكرة العنوان "زر في وسط القميص".

وفي "تعال... ولا تأتي" يتحدث عن فعل غير محمود اجتماعيا، "السُكر" لكنه يقدمه بطريقة (مغرية) كاشفا أهميته وضرورته :

"السُكر: أن تصير لك أجنحة، أن أراك في الغيم السماوي، أن تتلعثم اللغة بين شفتيك، أن لا تذكر بالضبط، أو تنسى بالضبط، أن تتشوش الرؤيا، فلا ترى إلا أنتِ. أن نشمّ رائحة ونتبعها، أن نحكي حكاية الغريب الذي فينا، الشّريد الذي فينا، أن نضحك حتى البكاء، أن نبكي حتى نضحك" ص32، في هذا المقطع يؤكد الكاتب على فكرة الوسط، الوجود بين متناقضين، لكن ما يميز طرحه، الطريقة التي قُدّم فيها. فهناك فعل مذموم/السُكر، جاء يحمل معاني نجهلها, فبعد قراءتنا لهذا المقطع تتولد فينا الرغبة لمعرفة/لتذوق هذه الوسطية الجميلة والضرورية لنا، فقد تحول الفعل المذموم إلى فعل جميل وشيق، وحتى ضروري، لأننا كلنا نعاني ما يعانيه الكاتب.

يقول في "مشكاة تهوم في التفاصيل" :

"أنا انطفاء الأشياء واشتعالها

انعكاس الندم على وجه قُدَّ من جبل

غياب الأشياء عن ظلها، ورق الحنين" ص59، التناقض حاضر في المقطع، لكن فكرة الكاتب عن المشكاة تبقى حاضرة من خلال: "انطفاء، اشتعالها، ظلّها" فهذه الألفاظ لها علاقة بالمشكاة، مما يجعل فكرة المقطع منسجمة ومترابطة.

المرأة

"صالح حمدوني" يتعامل مع المرأة على أنها المولدة لبقية عناصر الفرح/التخفيف، الكتابة، الطبيعة، التمرد، لهذا يضعها في مصاف الآلهة، ويقرنها بالربّة عشتار، يقول في "مثلك أنتِ هذا المساء":

"لشفاهك طعم آخر، لقلبك نبض آخر

يطلق الجسد إلى جنونه الأبدي

فيسقط عندك الكون

خذي روحي يا سيدة الكينونة

يا عتبة القديسين إلى بهاء الجسد

نولد من جديد كل ساعة، ومع كل شهقة يغار الزبد،

ويعلو موج صدرك

أي غياب في حضورك سيدة التفاصيل

يا نهر الأغنيات

يا تعويذة الغائبين

أمطري فصولا من الشهوة والغياب، ليخرج الربيع أخضرا يانعا في تفاصيل الجسد الإلهي

أمطري شوقا أمطري لهفة

ليصير للروح وجهها الإنسي

فاللغة مثلي تجتاحها الرائحة" ص9و10،

عشتار رمز الخصب والحب نجدها حاضرة بجلالها في هذا المقطع، فهي قرينة الطبيعة: "الكينونة، موج، نهر، أمطري، فصولا، الربيع، أخضر، يانعا" وهذا ما نجده في الأساطير السورية القديمة التي أقرنت خصب الطبيعة بالربّة عشتار، وبما أن الحديث يدورعن مقدس/ة، فكان لا بد من تناولها بهذه الكينونة: "الكون، الكينونة، القديسين، حضورك، تعويذة، الإلهي" وهنا تكون المرأة/عشتار قد اكتمل حضورها كرمز للخصب وكشيء مقدس.

لكن الكاتب كرجل يرى فيها جمال الأنثى/المرأة التي تمنحه الفرح واللذة، لهذا نجد رغباته من خلال: "لشفاهك، طعم، الجسد (مكررة)، شهقة، يعلو، صدرك، الشهوة، لهفة".

وبما أن الكاتب أديب، فهو يقدم جمالها والعاطفة أيضا من خلال: "لقلبك، روحي، سيدة (مكررة)، الكينونة، عتبة، بهاء، الأغنيات، وجهها، الإنسي" وهذا الجمال أُقرن بالكتابة/ بالفن، الذي نجده في: "الأغنيات، فاللغة" بهذا تكون المرأة باعثة لكل عناصر الفرح/ التخفيف وموجدة لها.

وفي مواضع أخرى نجد صوت الأنثى هو الحاضر كما هو الحال في "ناديت، والله يقترب":

"تمشي في دمي، أحس بخدر لذيذ

جسدي بين يديك، أتسلل فيك، يدك إشارة، جسمك هوية، روحك راية، خذني

تمدّد فيّ، أنا لك، لأجلك،

أحبك يا شغف الروح وشهوتها،

اصعد مراكبي يا تاج دمشق

يا راعي الغزالات والروح

اصعد وجدف لتتخلد النشوة فيّ

أنا مملكتك المزهرة،

طوّف بها يا نهرها وسيد البحيرات

يشتعل خصري بين يديك" ص63،

إذا ما توقفنا عند هذا المقطع نجده خارج من أنثى، والذي نجده في: "بين يديك، تمدّد فيّ، اصعد (مكررة) مراكبي، وجدف، النشوة فيّ، طوّف بها، يشتعل خصري" فبدا هذا المقطع قريبا من نشيد الأنشاد، كما أن حجم البياض الموجود فيه: "لذيذ، جسدي، يديك، إشارة، هوية، روحك، راية، أحبك، شغف، الروح (مكررة)، شهوتها، تاج، دمشق، الغزالات، النشوة، مملكتك، المزهرة، نهرها، البحيرات" يشير إلى أن الصّوت لأنثى، التي تنحاز للهدوء والنّعومة، على النّقيض من الرّجل الذي ينحاز للقسوة والشّدة.

أعتقد أنّ (تقمص) الكاتب لشخصية المرأة والحديث بصوتها وبهذا الشكل المقنع، ينمّ عن قدرات أدبية استثنائية، يمكن أن يبني عليها نصوصا وأنواعا أدبية أخرى، وهذا التمرّد على الذّكورة والتّحرر منها والذي جاء بصوت الأنثى المتحرّرة والرّاغبة بحبيبها ، والمعلنة مشاعرها وحاجتها الجسدية والعاطفية والروحية يعَدُّ العنصر الأخير من عناصر الفرح/التخفيف، كما أنه يضفي لمسة جمالية تنعكس إيجابا على المتلقي الذي يستمتع بما يُقدّم له، وبهذا تكتمل عناصر الفرح، المرأة، الكتابة/الفن، الطّبيعة، التمرّد/الثّورة.

التمازج بين الفصيح والعامي

هناك أكثر من مقطع استخدمت فيه اللّغة المحكيّة، منها ما جاء في: "مثلك أنتِ هذا المساء":

"كانت دمشق ملتقى الحب وبردى

كنت أذهب إليها وفي بالي حيفا

في بالي أن أعود إليك يانعا أخضرا مثل دالية

أن أمسح عن خدك غبار التعب

حيفا يا وجعي، وألقي ومفتاح المدن الجميلة.

كنت أخرج والحزن في خاصرتي

كنت أحمل عنك ملل الصباح

كنت أرى الأفق قنديل أغاني، فأغني لك:

"والله لزرعك بالدار يا عود اللوز الأخضر"

وأتعمد أن أغيّر في الأغنية، لتناسب اسمك، وأنا أتبع الرائحة

أصلا الدنيا مليانة صور وحكي

صور تبحث عن صور، جمل تعانق الكلام" ص7و8،

إذا ما توقفنا عند هذا المقطع نجد هناك تناغم بين الفصيح والمحكي، بمعنى أن المحكي لم يأتي مقحما في النص، بل جاء هكذا ببساطة، وهذا ما جعله مهضوما من القارئ التي وجده خفيف الظل.

من هنا نقول أننا أمام نصوص أدبية جديدة في شكلها، ممتعة في طريقة تقديمها، مقنعة في تقديمها للمرأة.

(الكتاب تحت الطبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن