الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هدايانا لأمهاتنا في عيد الأم… وهداياهن لنا!

فاطمة ناعوت

2021 / 3 / 24
حقوق الانسان


هذا "عيدُ الأم" المبهج. العيدُ الذي تسبقه جلساتُ التآمر ووضع الخطط الاستراتيجية التي يعقدُها الصغارُ لحبكِ المفاجآت وشراء الهدايا لأمهاتهم من أجل رسم الفرح على شفاههن. فعلنا هذا حين كنّا صغارًا، ويفعلُ هذا الآن أطفالُنا لإبهاجنا حين صرنا أمهات. ولا ننسى أبدًا تلك الهدايا التي جلبناها لأمهاتنا ونحن صغار. لأنها محفورةٌ في خانة "الذاكرة العميقة" التي تعبر فوق الزمن، وتتحدّاه.
أول هدية لأمي كانت في الصف الأول الابتدائي. وزّعت علينا المعلمةُ بطاقاتٍ ملونةً، وكتبتْ على السبورة: “إلى ماما الحبيبة، كل سنة وأنتِ طيبة.” وطلبت منّا أن ننقل المكتوب في الكارت، وعلى سطر التوقيع، نكتبُ أسماءنا بعد كلمة: “ابنتك المطيعة”. ولم أعرف معنى "مطيعة" إلا بعد سنوات. ولو علمتُها، ما كتبتُها. فأنا أبعدُ البشر عن الطاعة. فكنتُ طفلة مشاكسة كثيرة السؤال عن السبب. وكما حيّرتني كلمة "مطيعة" في كارت عيد الأم، حيرتني كلمة أخرى كنتُ أسمعُها كثيرًا دون أن أفهمها، أو أعرف إن كانت مدحًا أم ذمًّا. “لِمضَة". طوال الوقت كانت أمي تقول لي: “يا لمضة". حين أسألُ أسئلة وجودية كبرى لا تناسبُ طفولتي، كانت تقولها بنبرة عالية غضوب. وإن كانت راضية عني أو سألتُ سؤالا طفوليًّا لا إجابة له، ابتسمت بزهو وتمتمت بلحن رومانسي ناعم: “آه يا لمضاااا!” لهذا لم أحدِّد أبدًا، هل أفخرُ، أم أخجل من نفسي لأنني لمضة!
ثم توالت هداياي لأمي وتطورت مع مرور السنوات وبداية دخول ضيف جديد في حياتي: “الحصّالة”. تلك التي لم أنجح أبدًا في ملئها. قارورة عطر، مناديل مطرزة بورود، صباع زبدة كاكاو، بروش رخيص، وغيرها من أشياء أجلبها من بوتيك "عم يونان" أسفل عمارتنا. وكان الردُّ الدائم لأمي على هداياي وهدايا شقيقي: (مش عاوزة هدايا، انتوا هديتي، بس ذاكروا واطلعوا الأوائل وأنا أفرح.) لهذا، غالبًا ما كنت "أستعبط" وأسترد تلك الهدايا، بمكر الصهاينة، بعد مرور عدة أيام، مبررةً تلك "الخطيئة" لنفسي بأن ماما “مش عاوزة هدايا”. وماما واخدة بالها طبعًا ومتواطئة مع مكري الطفولي.
ثم دخلتُ في مرحلة جديدة من الهدايا التي لا تُحوجني إلى الحصالة الفارغة. القصائد. ورقة بيضاء منزوعة من منتصف كشكول العربي، أكتب فيها كام بيت مكسورين عَروضيًّا دون شك، ثم أزيّن حوافَّ الورقة برسم بعض الزهور الملونة والعصافير. ثم دخلت في مرحلة إهدائها كتبي مع إهداء رومانسي في صفحته الأولى، لو تصادف صدور أحد كتبي مع عيد الأم. ديواني الأول "نقرةُ إصبع" كان مهدًى لأمي في ترويسة الكتاب.
أما ماما، فكانت هداياها لنا مبتكرة وغير تقليدية. أول عروسة لعبة جاءتني في طفولتي، أهداها لي مستر "وليم"، مدرس الإنجليزية، في المرحلة الابتدائية. ولم أعرف أبدًا أن أمي هي التي اشترتها وأعطتها له ليهديها لي لكي أحبّه فأحبُّ الإنجليزية، إلا وأنا زوجة وأم. حين دخلت ماما عليّ يومًا وأنا أذاكر لابني "مازن"؛ ولم تعجبها عصبيتي وتوتري، فهمستْ في أذني: (اعملي زي ما كنت باعمل معاكي. اشتري هدايا وخلي المدرسين بتوعه في المدرسة يقدموها له، فيحب الدراسة ويتفوق. إنما العصبية دي هاتخلي الولد يتعقد!) وأفقتُ من الوهم الأكبر الذي عشتُ حياتي أحكيه لأصدقائي بأن المدرسين بتوعي همّا اللي بيجيبوا لي هدايا نظرًا لتفوقي! إنها الخدعةُ النبيلة التي نسجتها أمي طوال سنوات دراستي.
في عيد الأم، أهدي ماما "سهير" قصيدة، ليست مثل قصائدي القديمة على ورقة من كراسة قديمة لا تكلف شيئًا. بل كلفتني أنهارًا من الدموع، طفرت من عينيّ يوم طارت ماما إلى حيث تطير الأمهاتُ، ولا يعدن. كتبتُها حين دخلتُ بيتها بعد رحيلها فوجدتُ كلُّ شيء مُكفّنًا بالأبيض. فصرتُ "أخاف اللون الأبيض”:
وماذا أفعلُ بأكياس الأرزِ والسُّكر/
وبازلاءَ مجفّفة/
ورءوسِ ثومٍ/
عثرتُ بها في مطبخِك؟/
ماذا أعملُ بالثلجِ عشّشَ في أركان البيت/
بقطّتكِ البيضاء/
تُقعي في الصالة/
في صمتٍ تنظرُ إلى باب الشقة/
ترجُفُ أذناها/
مع كلِّ قدمٍ على السُّلّم؟/
ماذا أفعلُ/
بصورِ العائلة على الحائط الأبيض؟/
بالأبوابِ البيضاءِ المغلَّقةِ أمام قلبي/
بستارةٍ بيضاءَ ساكنةٍ/
لأن الشيشَ مُقفل؟/
بالسيارة البيضاء العجوز/
التي لم تعد تحت البيت؟/
بفوطةٍ بيضاءَ تحملُ رائحتَكِ/
بخُصلةٍ من شَعرِكِ بيضاءَ عالقةٍ بالمشط/
بشالِ حريرٍ أبيضَ جلبتُه لك من اليمن/
ليضمَّ كتفيكِ المُجْهدين/
بقطرةٍِ من ماءِ زمزمَ/
عالقةٍ في كأسِ غُسْلِك/
بوحشتي/
بخوفي؟/
هل أبيعُها وأشتري أقراصًا منومّة؟/
هل أقايضُ بثمنها على أبٍ قديمٍ/
نسيتُ ملامحَه،/
وأمٍّ/
تركتني وطارتْ/
ويدي لم تزل/
معلّقةً في طرفِ ثوبِها؟

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آلاف اليمنيين يتظاهرون في صنعاء دعماً للفلسطينيين في غزة


.. إيرانيون يتظاهرون في طهران ضد إسرائيل




.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون


.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة




.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟