الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أرض الظنون الشائكة

راتب شعبو

2021 / 3 / 24
الادب والفن


في سنوات العزل الطويلة في السجن، كان العالم الذي نعيشه مختزلاً إلى مسجونين وآخرين. الآخرون هم رجال الأمن على تدرج رتبهم ووظائفهم ومهامهم ونفسياتهم وأشكالهم ومنابتهم، وعلى اختلاف أنظمتهم بين فرع وفرع، أو بين سجن وسجن. في ذلك الزمن الممدد لم يكن ثمة آخرون، بالنسبة لنا، سوى هؤلاء. نحن وهم. مسجونون ورجال أمن. وكل رجل أمن، بحكم وظيفته في بلادنا، هو جلاد أو مشروع جلاد. وحين خرجت من سجني لم أتوقع أنني أحمل في داخلي هذا العائق النفسي الذي راح يصنعه خيالي ويحول بيني وبين الناس، ويسجنني من جديد خلف حواجز نفسية يصعب تخطيها.
في السجن كان يحول بيني وبين رجل الأمن، حاجز يصنعه خيالي حين يصور هذا الرجل وهو يجلد معتقلاً أو يهينه، فيكفّ حالاً عن كونه رجلاً طبيعياً يمشي في كوريدور السجن ويلقي التحية مبتسماً. هذه الابتسامة ليست سوى قناع لتكشيرته التي يشهرها في وجه ضحيته وهو يستعد لرفسها، وهذه التحية ليست سوى قناع لشتيمة مبتكرة يسمم بها روح ضحيته، لا أسمع صوت تحيته بل أسمعه وهو يهدد ويتوعد. وهذه اليد التي يلوح بها أو يمدها للمصافحة، تبدو في خيالي وهي ترفع الكرباج إلى أقصى ما تستطيع، وتنزل به على قفا قدمين مضمومتين لضحية.
ليس لهذا الحاجز "الخيالي" في السجن قيمة مؤثرة، فلا شيء يرغمني على نسج علاقة مع رجل أمن خارج علاقة السجين بالسجان. لكنني لم أنتظر، حين خرجت من السجن، أن يتناسخ هذا الحاجز بأعداد لا نهائية، فيحول بيني وبين الناس على تنوعهم.
خارج السجن، صار الآخرون كثيرين ومتنوعين، غير أن الغيمة السوداء لإولئك "الآخرين"، راحت تلقي بظلالها على كل آخر. الرجل السمين الأنيق الذي يتكلم بثقة وتراخ، يتحول حالاً إلى ضابط أمن يفتك بأعمار الناس ومصائرهم ويتمكن من سحقهم بالألم، بإشارة واحدة من عينيه. إنه لا يجلس إلى طاولة في مطعم، بل إلى مكتب في أحد فروع المخابرات الكلية القدرة. والرجل البسيط الذي تبدو عليه الوداعة، ليس، في الحقيقة، سوى الجلاد الذي يتحرك، على الفور، لتحويل إشارة عيني الضابط، إلى جحيم على ضحية تنتظر قدرها وهي مرمية على بلاط غرفة التعذيب. إنه ليس الأب الذي يلاعب ابنه في الحديقة، بل الجلاد الذي ينتظر الإشارة كي يباشر التعذيب. وهذا الرجل الوسيم الذي يجيد الاعتناء بهندامه ويبتسم للجميع، سوف يخلو إلى نفسه بعد قليل لكي يكتب تقاريراً تشي بالناس وتفتري عليهم، ويرسلها إلى ذاك الضابط المطمئن. والشاب النحيل الذي يوزع النكات والضحكات، ليس إلا ذلك الجلاد المعتاد على صرخات المعذبين المستغيثة فلا تترك فيه أثراً، بل يطيب له ممازحة الضحية بعد مشاركته في حفلة تعذيب طازجة. إنه ليس شارياً بريئاً ينقي البطاطا من بقالية الحي، بل جلاد يختار الكرباج الأنسب ليده. هكذا راح يحصرني خيالي في دائرتي الصغيرة، فيما هو يثابر على توزيع المهام الأمنية القذرة على "الآخرين".
ثم يعصف الزمن في سورية، ويوفر للخيال مادة لا تنضب لنسج الحواجز النفسية. كيف تضمن أن الشخص الذي يشاركك الهواء في صالة الانتظار، لم يكن شريكاً في مذبحة؟ والطبيب الذي يقدم لك النصائح، كيف تلجم خيالك عن تصوره منكباً على إعداد الحقن القاتلة لجرحى المظاهرات؟ هل سترى في سائق التكسي رجلاً طيباً يصل الليل بالنهار كي يطعم عائلته، أم سيقحمه خيالك في لوحة الرعب المتوالدة، فتراه يغتصب امرأة يشلها الرعب واليأس، أو قناصاً يتسلى في قطف أرواح أناس غافلين ومغفلين، أو خاطفاً يبتز عائلة المخطوف. وهذا الرجل الممتلئ الحيوي الذي لا يعرف الهدوء وهو ينتظر السرفيس، ألا يسهل تصوره وهو ينتزع السيراميك عن جدران المطابخ المهجورة؟ والطيبة الهادئة على وجه ذاك الرجل الستيني، تصلح لأن تكون وسيلة ناجعة لجر الناس إلى مكائد مصنوعة لاصطيادهم.
ثم هذه الكرسي التي تجلس عليها، هل هي أثاث بيت باعه الأهل بأي ثمن لتجميع مقدار فدية ابن مخطوف؟ أم أنها منهوبة من بيت فرّ أهله هرباً من الموت؟ هل هي نهاية خيط يقود تتبعه إلى جريمة تقود إلى جريمة أكبر ثم أكبر؟ وهذه المكتبة، وهذا البراد، وتلك السجادة .. هل هي بريئة من الظلال؟ أين أهلها؟ في أي أرض أو تحت أي أرض؟
اتسعت الجريمة حتى باتت تليق بالجميع، وتنثر الحواجز النفسية كالغبار، وتسمم النظرات، وتقتل اليقين الطيب، وتحبسك في أرض الظنون الشائكة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر