الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حِصار نصٌ فنتازي يُحطّم توقعات القارئ ويقترح سرديّة جديدة

عدنان حسين أحمد

2021 / 3 / 25
الادب والفن


يعرف المتابعون للتجربة السردية للقاص والروائي كريم شعلان مذ أصدر مجموعته القصصية الأولى التي انضوت تحت عنوان "عوانس" عام 1997 بأنه كاتب واقعي يستمد مادته الخام من الواقع ويطّعمها بنَفَس غرائبي أو سُريالي إن شئتم. وبهذه اللمسة السحرية لابد أن يتداخل الواقع بالحُلُم، وتمتزج الحقيقة بالخيال الأمر الذي يضطر القارئ لأن يصدّق الواقع ونقيضه، ويؤمن بحالتيّ النفي والإثبات، وقبل ذلك كله عليه أن يحلّق عاليًا ليصل إلى المدار الثالث الذي يرى فيه كل عالَم على انفراد لكي يتمعّن في هذه الخلطة السحرية التي قدّمها خالق النص السردي ومبدعه، وعندها فقط يستطيع أن يحكم على جودتها وتأثيرها على المتلقّي وهو يستقبل هذه الصياغة الجديدة للواقع العجائبي الذي ارتدى حُلّة أدبية قشيبة.
تندرج رواية "حِصار . . . حِكاية لم تحدث" الصادرة عن "دار الرافدين" في بيروت ضمن إطار "رواية السيرة الذاتية" التي تعتمد في بنائها السردي على الواقع المرصّع بالخيال، والعكس صحيح أيضًا على اعتبار أنّ المؤلف لا يخضع إلى اشتراطات "ميثاق السيرة الذاتية" التي يتطابق فيها المؤلف والشخصية والسارد إلى الدرجة التي يمكن فيها تذيّيل النص بعبارة "أنا الموقِّع أدناه"، ويكون أمينًا على مصداقية الوقائع والأحداث التي يدوّنها كاتب السيرة ولا يجنح فيها إلى الخيال والمبالغة المفتعلة.
لا يخلو هذا النمط من الكتابة من بعض المخاطر الجدّية لأنها تحتاج إلى نفس الموازنة التي يتوفر عليها الماشي على السلك المتوتر الذي يربط بين ناطحتيّ سحاب، وأنّ أي خطوة غير مدروسة قد تفضي بالبهلوان إلى كارثة لا تُحمَد عُقباها. هذا هو حال كريم شعلان وهو يُمسك بعصا التوازن المعدنية ويقطع المسافة الطويلة الممتدة بين برج الجملة الاستهلالية وبرج الجملة الختامية التي ينبغي أن يصل إليها بأمان.
تتألف رواية "حِصار" من خمسة عشر فصلاً تُهيمن فيها شخصية الراوي أو الكائن السيري الذي يسجّل حضورًا قويًا في النسق السردي الذي يحطّم توقعات القارئ ولا يستجيب لها لأنه ببساطة يقع في دائرة "المُغايرة والاختلاف". فالأحداث تسير بطريقة أفقية متصاعدة لكنها تتشظى بشكل عمودي وتُشعر القارئ بالسكونية والثبات مع أنها تندفع إلى الأمام بدليل أن الراوي يُحب، ويتزوج، ويتنظر زوجته الحبلى أن تضع مولودها الأول قبل أن تتعرّض العائلة برمتها إلى الهجوم الأخير الذي لا يُبقي ولا يذر.

تقنية عين الطائر

لا يهدف المؤلف إلى متابعة مثل هذه الخطوط السردية الواضحة على الرغم من أهميتها وإنما ينبغي على القارئ أن يمتلك "عين الطائر" التي ترى المَشهد البانورامي برمته من دون أن يتضبّب أو تفلت منه زاوية قد تُربك وضوح الرؤية الكلّية. وكأنّ هذه الرواية تريد أن تُحيط بكل ثيمة حدثت في زمن الدكتاتورية الذي طغت عليه الحروب الخارجية، واستبدت به النزاعات الداخلية، وتكرّس فيه الحصار، وتضاعفت في مدنه السجون، وتكاثرت فيه المقابر الجماعية، وأخذت الأزمات الغذائية والاقتصادية تنخر في عموده الفقري الذي سوف يتقوّض بمرور الأيام. وحين تكتظ السجون بالهاربين من الخدمة العسكرية يعفو عن بعضهم الرئيس ليحلّ محلهم هاربون جُدد يرفضون "خدمة العلم" ويفرّون إلى المقابر والأهوار النائية بعيدًا عن أعين الشرطة، والعناصر الأمنية، والرفاق الحزبيّين الذين يتصيّدون آناء الليل وأطراف النهار كل مَنْ ينهاهض مبادئهم وأهداف ثورتهم التي خدمت الجزء الناتئ من جبل الجليد فيما ظلت التسعة أعشار الغاطسة في الماء تعاني الأمرّين.
لا يمكن حصر الصور الغرائبية التي اجترحها الروائي كريم شعلان فهي كثيرة بمكان لأنها شغلت مساحة كبيرة من الرواية، كما أنّ أسلوبه الفكاهي تارة، والساخر سخرية سوداء تارة أخرى هو الذي منح النص السردي نكهة أخرى قلّما تجدها حاضرة في مدوّنة الرواية العراقية إلاّ ما ندر. أضف إلى ذلك لغته الجريئة، وتوصيفاته المكشوفة التي لا يمكن الاستغناء عنها في ظل الظروف المأساوية التي تعاني منها شخصيات هذا النص الروائي الذي يتمرد على ثيمة السيرة الذاتية لبطل الرواية والشخصيات التي تدور في فلكه وينفتح على سيرة وطن سُجِن على مدى 35 عامًا، وماتت شرائح متعددة منه ميتات كثيرة، تمامًا مثلما ماتَ بطل الرواية لمرات متعددة، ورآه شهود عيان وهو يُدفَن لأكثر من مرة سواء أكانت هذه الرؤية واقعية أم سُريالية.
تنتمي هذه الرواية لأدب السجون والمعتقلات التي يتعرّض فيها البطل والشخصيات المؤازرة للاستجواب، والتعذيب، والقتل الممنهج الذي يواجهه الجنود في جبهات القتال أو الموت المبرمج الذي يتعرّص له الأطفال الرُضّع بفعل الحصار سواء أكان لُعبة دولية أم محليّة.
يمكن اعتبار الجميع أموات أو عائدين من الموت في أقل تقدير، فعائلة الراوي مات منها الأب، والابن الأكبر الذي رآه أفراد الأسرة من النافذة مع الجثث المكدّسة في الشوارع والأرصفة والميادين. وربما يضطر بعض الناس لأن يأكلوا أبناءهم الصغار كما خطر ببال الأم التي قالت:"لِمَ لا نأكل بنتنا الصغرى اليوم؟ ثم استدركت وقالت:"لا . . مستحيل . .لا . . نموت من الجوع ولا نفكّر أن نأكل بعضنا". لم تأتِ هذه الفكرة جُزافًا أو عفو الخاطر، وأعني بها أَكَلة لحوم البشر، وإنما سوف يستثمرها الروائي كريم شعلان ويوظِّفها في روايته التي تتعالق بطريقة ميتاسردية مع "حصار الكوت" الذي دام لبضعة أشهر خلال الحرب التي اندلعت بين البريطانيين والعثمانيين فاضطر الناس إلى سرقة الأطفال وأكل لحومهم، كما لم تسلم الحمير والكلاب من الذبح لسدّ غائلة الجوع.

عودة الغائب المُنتَظر

ولو أعدنا ترتيب بعض الحوادث والشخصيات الروائية الرئيسة والثانوية لوجدنا نسقها التصاعدي واضحًا ومنطقيًا على الرغم من حيواتها وميتاتها المتعددة مثل الراوي وأسرته المكوّنة من عشرة أفراد سيموت منهم الابن الأكبر، ويواجه الأب مصيره المحتوم، بينما تطرح الأم فكرة أكل الطفلة الصغرى ثم سرعان ما تتراجع عنها ليواصل المتبقون منهم حياتهم القاسية والمروِّعة رغم المحن التي يعانون منها. يطلب الراوي من سرحان يد ابنته صفيّة التي يحبها، ولا يستطيع العيش من دونها لكن والدها يرفض هذا الطلب فيضطر الراوي لخطفها والهروب بها إلى ملاذ آمن فتحمل منه، وتقترح خزنة، خالة الراوي أن يطلقوا على هذا الطفل الذي لم يُولد بعد اسم "حِصار" تيّمنًا بالحِصار الذي يعيشه العراقيون من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. وقبل أن نصل إلى النهاية بقليل يشاهد الراوي شبحًا لرجل عملاق يتصوّره والد صفية الذي جاء ليغسل عاره، وينتقم لشرفه المستباح، فيهاجم خزنة وصفية، ثم يوجّه سلاحه إلى جبين الراوي ويرديه قتيلاً في الحال قبل أن يرى ابنه الذي تصوّره ذات مره بأنه الغائب المنتظر الذي سيقرّر مصيرنا جميعًا. تُرى، هل حدث هذا الهجوم على أرض الواقع أم أنه مجرد أضغاث أحلام؟
تَظهر براعة كريم شعلان في النهاية الذكيّة التي يرسمها لروايته الفنتازية حين يهمس الراوي في سره متسائلاً:"هل حدثت هذه الحكاية في زمني؟ وهل أحسبها ضمن ميتاتي الكثيرات في السجون والمقابر الجماعية والقصف العشوائي والحوادث العابرة؟ فأنا مازلت أنتظر هجومًا آخر يوقظني لتكتمل الحكاية".
لم تنتهِ تشظيات الراوي، هذه الشخصية التي أثقلها المؤلف بمحمولات أسطورية، فخالته خزنة تفكر أن تعرضه على سيد من نسل رسول الله كي يُخرج الشياطين التي تلبّستهُ، وسوف تتناسل في أعماقه، وتحوّل حياته إلى جحيم لا يُطاق، لكنه تملص من هذه الفكرة، وتذرّع بحيلِ شتى كي يبتعد عن هذه الخزعبلات الممجوجة، ويتفرغ للخطط الغامضة التي يرسمها سرحان المجنون.
تبدو شخصية الراوي إشكالية جدًا لجهة علاقتها العاطفية بأكثر من امرأة؛ الأولى هي زوجة جارهم الجندي الذي أكلت الحرب أطرافه، والثانية نديمة التي تنشد الوصول إلى الذروة وهي تشتم زوجها الضابط المُرابط على خط النار.
وبموازاة الراوي تقف شخصية إشكالية أخرى يُطلق عليها المؤلف اسم "راجح أو ناجح" وهو أحد المثقفين القدماء الذي يتأبط كتبه باستمرار وتصفه أم الراوي بأنه مجنون لأن داره مليئة بالكتب، وقد مات هو الآخر لكنه خرج بإجازة من المقبرة الجماعية وعاش بين الناس الذين يترجّحون بين الحياة والموت وينصح الجميع بأنّ الصمت هو السلاح الوحيد الذي يجعلهم ينتصرون في هذا العالم الذي "يُمثِّل فيه الكل دور الجلاّد والضحية"، هذه الفكرة المُرعبة التي سيتردد صداها على مدار النص الروائي لكنها ليست المعيار الوحيد لقياس نجاح النص السردي من عدمه ما لم نأخذ بنظر الاعتبار ثنائية المبنى والمعنى التي يعوّل عليها الروائي كريم شعلان في مقاربته الأسلوبية التي تهدف إلى كسر توقعات القارئ، وتحريضه للقبول بهذه المغامرة التي ترجّح الشكل على المضمون أو توفِّق بينهما في أقل تقدير.
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أنّ القاص والشاعر والروائي كريم شعلان المُقيم في تورونتو حاليًا قد أصدر خلال رحلته الإبداعية ثلاث مجموعات قصصية وهي "عوانس"، "أعباء"، "نص في الظلام"، وروايتين وهما "لميس" و "حِصار. . حكاية لم تحدث" ومجموعة شعرية تحمل عنوان "قُبلات"، إضافة إلى كتابين باللغة الإنكَليزية وهما "الفن التشكيلي العراقي في كندا"و "الشعر العربي في أمريكا الشمالية" الصادرين عن دار أوماغيت. ولديه مخطوطة رواية ومجموعة قصصية لم تريا النور بعد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن