الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماذا تعني الاشتراكية في القرن الحادي والعشرين؟

حازم كويي

2021 / 3 / 26
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


الجزء الاول
نانسي فريزر*

مرة اخرى يجري الحديث عن "الاشتراكية" في كل مكان. هذه الكلمة أُستُهجِنت لِعقود ومثلت فشلاً فظيعاً، وجرى أعتبارها من مخلفات الأزمنة الماضية.
كلُ هذاأنتهى. اليوم يرتدي السياسيون، مثل بيرني ساندرز والكسندر أوكاسيو كورتيز لقب "أشتراكي" بكل فخرٍ، ويَلقون الاستحسان، وأزداد الاعضاء الجُدد في منظمات مثل "الاشتراكيون الديمقراطيون في أمريكا".
لكن، ماالمقصود بالضبط بـ "الاشتراكية"؟ حتى لو كنا سعداء بالحماس الجديد، فلا يترجم تلقائيًا إلى مناقشة جادة للمحتوى.
إذن ما الذي ترمز إليه "الاشتراكية" اليوم بالضبط، وما يتوجب أن ترمُز إليه؟
بالنسبة لهذه الأسئلة، التي لم تصل بعد إلى إجابات كاملة، ومثلما أؤيد تحليلاً واسعاً للرأسمالية، أقترح فهماً شاملاً للاشتراكية، يتعارض مع الاقتصاد المشترك للنهج السابق. بما أنني لا أرى الاقتصاد الرأسمالي في عزلة، ولكن في سياق علاقته المتناقضة والمدمرة مع ظروفه "غير الاقتصادية"، فمن الواضح لي، أن الاشتراكية يجب أن تفعل أكثر من مجرد تغيير مجال الإنتاج. يجب أيضاً أن تحدث تغييراً جوهرياً من حيث المجالات والظروف التي تجعل الإنتاج الرأسمالي ممكناً في المقام الأول. إنني أتحدث عن مجالات التناسل، وسلطة الدولة، والطبيعة، وأشكال الثروة التي تقع خارج نطاق الوصول الرسمي لرأس المال، والتي هي مع ذلك في متناول يده، أو بعبارة أخرى: أنا مع الرأي القائل بأن الاشتراكية المعاصرة يجب ألا تلغي فقط الاستغلال الرأسمالي للعمل المأجور، كما يجب عليها أن تتغلب على استغلال مجالات الرعاية غير مدفوعة الأجر والسلع العامة، وأن تضع حداً لتخصيص الثروة الذي يقوم على مصادرة الأشخاص الذين يعانون من العنصرية، وكذلك الموارد الطبيعية .
والنتيجة، كما لوحظ، ستكون مفهوماً موسعاً للاشتراكية بشكل كبير، لكن التوسع لا يعني مجرد إضافة شيء ما.
لا يتعلق الأمر بإضافة بعض الجوانب والأبعاد الجديدة للمفاهيم التقليدية، ولكن بشكل أساسي تركها كما هي، بدلاً من ذلك تتمثل المهمة في مراجعة وجهات نظرنا حول كل من الرأسمالية والاشتراكية من خلال دمج التحليلات الهيكلية للجوانب التي يُنظر إليها عادةً على أنها ثانوية: على وجه التحديد الجنسانية، والعرق / الإثنية / البيئة والديمقراطية. إذا قمنا بذلك، فإن العديد من الموضوعات الكلاسيكية للفكر الاشتراكي تظهر فجأة في ضوء مختلف: الحكم والتحرر، الطبقة والأزمات، الملكية، الأسواق والاقتصاد المخطط، العمل الضروري اجتماعيًا، وقت الفراغ والقيمة المضافة الاجتماعية.
بالطبع لن أتمكن من التعامل بشكل شامل مع كل هذه الأسئلة في هذه المحاضرة، ومع ذلك سأعلق على ثلاثة من هذه الموضوعات. الحدود المؤسسية، القيمة المضافة الاجتماعية، والأسواق، ولكل من هذه الأمثلة سأوضح، أن المشكلة تأخذ شكلاً مختلفاً في اللحظة التي لم نعد نرى فيها الرأسمالية مجرد نظام اقتصادي، ولم تعد الاشتراكية مجرد نظام اقتصادي بديل، سيؤدي هذا النهج إلى مفهوم للاشتراكية يختلف اختلافاً كبيراً من ناحية عن الشيوعية على الطراز السوفيتي ومن ناحية أخرى عن الأفكار الديمقراطية الاجتماعية.
ومع ذلك، سأبدأ بالرأسمالية. بالنسبة لي هي نقطة البداية لأي نقاش حول الاشتراكية. بعد كل شيء، الاشتراكية هي أكثر من مجرد "ينبغي" أو حلم طوباوي.
إذا كنا نتعامل مع الاشتراكية في الوقت الحالي، فذلك لأنها تحتوي على إمكانيات حقيقية ومشروطة تاريخياً، وإمكانيات الحرية والرفاهية والسعادة للناس التي جعلتها الرأسمالية في متناول اليد، ولكنها لا تستطيع تحقيقها وبالتالي، فإن التحول إلى الاشتراكية هو رد فعل على أوجه القصور والظلم في النظام الرأسمالي، للمشاكل التي يخلقها يوماً بعد يوم، التي لا تستطيع حلها، ولأشكال الهيمنة البنيوية المتضمنة في النظام، والتي لا يمكن التغلب عليها بعبارات أكثر عمومية. تدعي الاشتراكية أنها قادرة على معالجة مظالم الرأسمالية فقط، عندما نحدد الديناميكيات الأساسية والهياكل المؤسسية للرأسمالية، نعرف أيضاً ما هو بالضبط الحاجة للتغيير، وعلى هذا الأساس فقط سنكون قادرين على تحديد الخطوط العريضة الإيجابية للبديل الاشتراكي. إذن ما هي الرأسمالية بالضبط؟
ما هي الرأسمالية؟
غالبًا ما يُنظر إلى الرأسمالية على أنها نظام اقتصادي يتميز بالسمات التالية: الملكية الخاصة والتبادل عبر الأسواق، والعمل المأجور وإنتاج السلع، ونظام الائتمان والتمويل، الأرباح، والفوائد، وإيجارات الأراضي. كل هذا يجد تعبيره في النقود ويتشابك بطريقة تجعل النمو الاقتصادي حتماً أمراً ضرورياً للنظام. من وجهة النظر هذه، فإن الرأسمالية مطابقة لمجموع الأنشطة والعلاقات والأشياء التي يتم تحويلها إلى نقود والتي تعمل على تجسيد أو إنتاج قيمة اقتصادية. دعونا نُسمي هذا المنظور الضيق أو المحدود للرأسمالية. إنه يتوافق مع فهم معظم رواد الأعمال والاقتصاديين العاديين، ولكنه يتوافق أيضاً مع الفطرة السليمة لمعظم المجتمع. هذه النظرة المحدودة للرأسمالية منتشرة على نطاق واسع لدرجة أنها تشكل تفكير بعض مُنتقديها.
"الماركسية التقليدية" هو مثال على ذلك. ينظر ممثلوها إلى الرأسمالية على أنها نظام للاستغلال الطبقي، في العلاقة بين الرأسماليين والعاملين بأجر في مكان الإنتاج. ووفقاً لوجهة النظر هذه، فإن العامل الحاسم هو العلاقة بين أولئك الذين يمتلكون وسائل الإنتاج باعتبارها ملكاً خاصاً لهم وأولئك الذين لا يملكون سوى قوةعملهم، وبالتالي يتعين عليهم بيع هذه "البضاعة الخاصة" للرأسماليين من أجل البقاء. هذه العلاقة هي نتيجة تعامل السوق التي يتم فيها تبادل العمالة مقابل الأجور. انها ليست تبادل تعادلي. على العكس من ذلك،رأس المال يدفع مبلغاُ يغطي تكاليف معيشة العمال،والساعات المتبقية من عمله "القيمة المضافة" لصاحب رأس المال .
الاستغلال الذي هو جوهر الرأسمالية، إنه السر وراء القيمة المضافة، والقوة الدافعة وراء المكاسب الإنتاجية والابتكار التكنولوجي. لكنها أيضاً مصدر الفقر وعدم المساواة الطبقية، ومحرك اللاعقلانية الهائلة، وهي ليست بأية حال من الأحوال مراحل عشوائية من البطالة الجماعية والأزمات الاقتصادية الدورية.
لا شك أن المفهوم الماركسي التقليدي للرأسمالية قد تم تضييقه. يركز المرء فقط على "المكان الخفي" للإنتاج ويُهمل النظر إلى الظروف الأساسية، يمكن العثور عليها في أماكن أخرى "غير اقتصادية" وحتى أكثر خفية. في الماركسية التقليدية يمكن القول أنه يلتقط غلاف المجتمع الرأسمالي، لكن خلفية الغلاف لاتهمها كثيراً، لذلك فإن تحليله ليس خاطئاً بالضرورة، ولكنه غيرمكتمل، ولإكمال الصورة والحصول على فهم أوسع للرأسمالية، نحتاج إلى التفكير فيما وراء المفاهيم السائدة، ولكن بمقاربات أبعد من الماركسية التقليدية. الهدف هو الكشف عن العلاقات والظروف الكامنة وراء الإنتاج الرأسمالي خارج المجال الاقتصادي وإدراجها في التحليل.
وأرى أن الشروط الاربعة التالية من بين المتطلبات الاساسية الحاسمة والتي بدونها لن يكون النشاط الاقتصادي الرأسمالي ممكناً.
الشرط الأول، هو وجود مخزون كبير من العمل غير المأجور المخصص لـ "إعادة الإنتاج الاجتماعي". ويشمل ذلك الأعمال المنزلية، ولادة الأطفال وتنشئتهم، فضلاً عن رعاية الكبار (العاملون بأجر، كبار السن والمرضى، أضافةً العاطلين عن العمل) ، أي جميع الأعمال التي تهدف إلى إنتاج الحياة البشرية والحفاظ عليها. بدون هذاالذي هو من "صنع الناس" لن يكون هناك "ربح" ، بدون هذا العمل الإنجابي لن يكون هناك "عمال"، لا "عمل"، لا إلزام اجتماعي، لا استغلال، لا فائض قيمة، لا رأسمال متراكم، لا ربح. لكن رأس المال لا يعلق أي قيمة على هذه الأنشطة، ولايقلق بشأن تجديد الموارد المطلوبة لها، ويتجنب بقدر الامكان دفع ثمنها.
الشرط الثاني، "غير الاقتصادي" للرأسمالية هو مصادرة الثروة الهائلة للشعوب المقهورة، وخاصة على الاساس العِرقي .
المجموعات السكانية، وتشمل هذه الثروة أشكالاً مختلفة من العمل التابع غير الحر، بدون أجر أو بأجر زهيد، ولكنها تشمل أيضاً الأراضي المصادرة، ونهب الموارد الطبيعية من معادن ومصادر الطاقة، والأعضاء البشرية، وكذلك الأطفال والقدرات الإنجابية. كل هذا يذهب إلى الإنتاج الرأسمالي، لكن رأس المال يدفع القليل أو لا يدفع شيئاً مقابل ذلك. اعتبر ماركس عملية المصادرة هذه بالفعل ضرورية لزيادة رأس المال في بداية تاريخ الرأسمالية، ولكن على عكس ما افترضه، لم يتوقف الأمر مع "نضوج" النظام. بالإضافة إلى استغلال العمل المأجور، لا يزال تراكم رأس المال اليوم يعتمد على مصادر الدخول المنخفضة التكلفة التي لا تنضب. وبدون مصادرة الأشخاص والمجموعات السكانية المقهورة بشكل خاص، لن يكون استغلال "العمال الأحرار" مربحاً. لكن رأس المال ينفي اعتماده على هذا النوع من الثروة ويرفض الدفع مقابل استخدامه وضمان تجديده.
الشرط الثالث، "غير الاقتصادي" للنشاط الاقتصادي الرأسمالي هو "الهدايا المجانية" المتنوعة أو المساهمات ذات الطبيعة غير البشرية،حيث توفر هذه الركيزة المادية التي لا غنى عنها للإنتاج الرأسمالي، أي المواد الخام التي يحولها العمل البشري، والطاقة التي تحرك الآلات، والطعام الذي يغذي أجسادنا بالطاقة ويبقيها على قيد الحياة: أي الأرض الصالحة للزراعة، الهواء، نحن بحاجة إلى التنفس ومياه الشرب والقدرة على تخزين ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للأرض. بدون هذه الموارد والظروف الطبيعية أو البيئية لن يكون هناك إنتاج اقتصادي أو إعادة إنتاج اجتماعي، ولا أصول يمكن مصادرتها، ولا عمالة حرة قابلة للاستغلال، ولا رأس مال ولا رأسماليين. لكن رأس المال يتعامل مع الطبيعة كما لو أنها ليست أكثر من مصدر لا نهاية له من الهدايا المجانية أو الموارد الرخيصة التي يمكن الوصول إليها في أي وقت، وفي المقابل فهي ليست مسؤولة للحفاظ عليها.
أخيراً، الشرط الرابع "غير الاقتصادي" للاقتصاد الرأسمالي، هو جميع المنافع العامة والبنى التحتية التي توفرها الدول والمؤسسات العامة الأخرى، وهذا يشمل الأنظمة القانونية التي تحمي الملكية الخاصة وتضمن العلاقات التعاقدية والسوق الحرة، الأجهزة القمعية التي تحافظ على النظام، وتقمع العصيان والمعارضة، وأمكانية نزع الملكية داخل وخارج التراب الوطني، نظام نقدي يخزن القيمة ويسمح بالمعاملات عبر المكان والزمان، البنى التحتية للنقل والاتصالات والعديد من الآليات للتعامل مع أزمات النظام.
بدون هذه السلع والخدمات العامة لن يكون هناك نظام اجتماعي فاعل، ولا ثقة، ولا تبادل، وبالتالي لن يكون هناك تراكم مستمر لرأس المال،الذي غالباً ما يكون معادياً للتدخل الحكومي ويميل إلى التهرب من دفع الضرائب الضرورية لتمويل السلع والخدمات العامة.
النقاط الأربعة التي ذُكرت هنا، هو شرط لا غنى عنه للاقتصاديات الرأسمالية، كل منها يشمل علاقات وأنشطة اجتماعية متنوعة وكذلك أشكال الثروة الاجتماعية، التي تشكل مجتمعة الشرط اللازم لتراكم رأس المال. فالمؤسسات الرسمية للرأسمالية تتطلب، العمل المأجور، ومجالات الإنتاج، والسوق الحرة، ونظام الائتمان المالي الموسع، والدعم الهائل من العائلات والمجتمعات والطبيعة والدول الإقليمية والمنظمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني. أخيراً وليس آخراً، يعتمدون على مجموعة متنوعة من أشكال العمل غير المأجور وبأجر منخفض، بما في ذلك العمل الجبري على نطاق واسع. إلى هذا الحد تعتبر كل هذه الجوانب جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الرأسمالي وعناصر مُكوّنة لها.
بعبارة أخرى، الرأسمالية هي أكثر من مجرد نظام اقتصادي، إنه نظام أجتماعي مؤسسي معقد، يخصص أماكن معينة للأنشطة والعلاقات الاقتصادية ويفصلها عن المناطق الأخرى "غير الاقتصادية"، على الرغم من أن الأول يعتمد على الأخير.
في هذه المرحلة نترك وراءنا المفهوم الضيق للرأسمالية كاقتصاد. إذا تم فهم الرأسمالية بدلاً من ذلك على أنها نظام اجتماعي مؤسسي، فإننا نصل إلى منظور أوسع، والذي بدوره، له آثار كبيرة على مشروع إعادة التفكير في الاشتراكية.
بادئ ذي بدء، مثل هذا التغيير في المنظور يوسع بالفعل فهمنا لما هو خطأ في الرأسمالية، بعد ذلك سيكون من الأسهل علينا فهم ما يجب القيام به لتغييره والتغلب عليه.
ماهو الخطأ في الرأسمالية؟
وفقاً للمقاربات الماركسية التقليدية، تتميز الرأسمالية بثلاثة عيوب رئيسية: الظلم واللاعقلانية وإنعدام الحرية. دعونا نلقي نظرة على هذه النقاط .
في المفهوم الضيق للرأسمالية، فإن أكبر ظلم لها هو استغلال رأس المال لطبقة العمال الأحرار والمحرومين من ممتلكاتهم. إنهم يعملون لساعات طويلة بدون أجر وينتجون ثروة هائلة لا نصيب لهم فيها. إن طبقة الرأسماليين هي التي تستفيد من عملهم، والتي تستحوذ على فائض القيمة من جهد العاملين، وتعيد استثمار الأخير لأغراضهم الخاصة، أي من أجل تجميع المزيد من رأس المال. والنتيجة هي نمو أسي لا يتزعزع لرأس المال، كقوة معادية تُخضع نفس العمال الذين ينتجون رأس المال لحكمها.
وفقا لوجهة النظر الماركسية التقليدية، فإن استغلال العمل المأجور في الإنتاج هو الظلم المركزي في الرأسمالية. مسرح الجريمة هو الاقتصاد الرأسمالي، وتحديداً مجال الإنتاج.
يقودنا هذا إلى النقطة الثانيةـ وفقًا لوجهة النظر الضيقة للرأسمالية، حيث تكمن لاعقلانيتها في ميلها المتأصل إلى إحداث أزمات اقتصادية. النظام الاقتصادي القائم على التراكم اللامحدود لفائض القيمة، الذي يتم تخصيصه بشكل خاص في شكل ربح، هو نظام غير مستقر بطبيعته، يؤدي السعي لتحقيق أقصى قدر من الأرباح عن طريق زيادة الإنتاجية بمساعدة التقدم التقني مراراًوتكراراً إلى انخفاض معدل الربح ويؤدي بانتظام إلى أزمات فيض الإنتاج والتراكم المفرط ومحاولاتها للسيطرة على هذه المشاكل.
بشكل عام، يمكن ملاحظة أن تطور الرأسمالية يتميز بأزمات اقتصادية تحدث بشكل دوري، من خلال دورات الازدهار والكساد، وانهيارات سوق الأوراق المالية، والذعر في السوق المالية، والبطالة الجماعية.
الرأسماليةـ وهذه هي النقطة الثالثة لنقد تحليلات الرأسمالية الحالية، التي يجب أن يتم سردها هنا، هي أيضاً بطبيعتها غير ديمقراطية بشكل كبير باعتراف الجميع، غالباً ما يَعُد بإجراءات ديمقراطية على المستوى السياسي، لكن هذا الوعد بالديمقراطية يُقوضه بشكل منهجي التفاوتات الاجتماعية والحكم الطبقي.
في الرأسمالية، على سبيل المثال، لا يكون العمل عادة مكاناً تُمارس فيه الإدارة الذاتية الديمقراطية، على العكس من ذلك، الرأسمال هو الذي يحدد والموظفون يطيعون.
ليس من قبيل المصادفة أن الرأسمالية تعزز هذه الشرور الثلاثة:
أولاً، تعيش الرأسمالية من الاستغلال المنهجي وقمع العمال المأجورين.
ثانياً، الأزمات الاقتصادية المتكررة المتأصلة فيهاهيكلياً.
وثالثاً، إنها غير ديمقراطية على الإطلاق من حيث أسسها.
على أية حال، فإن الديناميكيات المتأصلة في الاقتصاد الرأسمالي مسؤولة عن المشكلة الخاصة،و يُنظر إليها على أنها جزء من الحمض النووي للنظام الرأسمالي وتُنسب فقط إلى شكل التنظيم الاقتصادي.
وهنا أيضاً، يمكن للمرء أن يقول مرة أخرى، التحليل ليس خطأ، إنه غير كامل إلى حد ما، في حين يتم تسمية الشرور الاقتصادية الأساسية للرأسمالية بشكل صحيح، الظلم واتجاهات الأزمات وأشكال العبودية يتم استبعادها، والتي لا تنشأ مباشرة من المجال الاقتصادي، ولكنها مع ذلك مكونة للمجتمعات الرأسمالية، ونحصل على رؤية واضحة لهم عندما نوسع مفهومنا للرأسمالية.أسبابها هذه ليست بالضرورة في الهياكل الاقتصادية نفسها، بل تعود إلى التوتر بين الاقتصاد الرأسمالي ومتطلباته غير الاقتصادية، ومن الأمثلة على ذلك فصل مجال الإنتاج الاقتصادي عن مجال إعادة الإنتاج الاجتماعي، حيث لا يُدفع عن العمل عادةً، بل يُعاطف ويُكافأ بـ "الحب".
"تقسيم العمل" الكلاسيكي بين الجنسين هو أساس عدم التماثل الأساسي في قلب المجتمعات الرأسمالية، إنه يؤسس التبعية الاجتماعية للمرأة والأنظمة الثنائية بين الجنسين وهي ما زالت سائدة، غير متجانسة.
هذا هو الحال في المجتمعات الرأسمالية مع الانقسام الهيكلي بين "العمال الأحرار" ، الذين يمكنهم تبادل عملهم مقابل أجر يغطي تكلفة إعادة إنتاجهم، والعمال "الآخرين" التابعين، أي الأشخاص الذين يجري أستغلال عملهم وأصولهم ليكسب رأس المال بسهولة، ولأنهم غير قادرين للحصول على حقوقهم في الصحة والسلامة المهنية، والأجر العادل وما إلى ذلك، فإن هذه المجموعة تزود رأس المال بتيار من الموارد المجانية أو الرخيصة وتزيد أرباحها. هذا التسلسل الهرمي للوضع، التمييز بين المستغل "المجرد" وأولئك الذين تمت مصادرتهم بشكل مباشر، أمر أساسي للمجتمع الرأسمالي.
يتطابق التقسيم الفرعي بشكل تقريبي، دون لبس فيه مع خط اللون العالمي (التسلسل الهرمي العالمي للعرق والأصل القومي ولون البشرة) ويدعم مجموعة كاملة من المظالم الهيكلية، من الاضطهاد العنصري إلى الإمبريالية الجديدة والقديمة ونزع ملكية الشعوب الأصلية إلى الإبادة الجماعية.
المجتمعات الرأسمالية تُميزأيضاً تمييزاً واضحاً جداً بين البشر والطبيعة، والتي لم تعد تنسبها إلى نفس الوضع الوجودي. يتم تقليل الطبيعة إلى وظيفتها كمخزن للمواد الخام وتتعرض لاستخراج وحشي بالإضافة إلى استخدام غير عادي للأدوات، وهذا ليس مجرد تجاهل مطلق للطبيعة (وكائنات الحيوانات)، لكنه يُعد ظلماُ كبيراً للأجيال الشابة ومستقبل البشرية، الذين نترك لهم كوكباً غير صالح للسكن بشكل متزايد.
أخيراً، تَصر الرأسمالية على التمييز البنيوي بين "الاقتصادي" و "السياسي". من ناحية أخرى، لدينا قوة رأس المال الخاص لتنظيم الإنتاج باستخدام سوط الجوع "فقط". لدينا سلطة الدولة، التي تدعي إحتكار القوة وتطبيق القانون وأنتقال المسؤولية والسلطة الى رأس المال، فإن المجتمعات الرأسمالية اليوم ليست سوى صورة طبق الأصل للديمقراطية الفقيرة والمتداعية، وعيبها الآخر غير المقبول، هو أن غالبية السكان الذين يتم التعامل معهم في أماكن أخرى كمواطنين مسؤولين يخضعون ببساطة للحكم التعسفي لرأس المال.
فالنظرة الاوسع إلى المجتمع الرأسمالي تلفت انتباهنا إلى قائمة كاملة من مشاكل الظلم المهملة للغاية، مثل الاستغلال الطبقي،وهي ليست عرضية ولكنها ذات طبيعة هيكلية.
يتوجب أن يعالج البديل الاشتراكي للمجتمع الرأسمالي، لذلك لا يكفي بأي حال من الأحوال تغيير الشكل التنظيمي للاقتصاد، هناك حاجة أيضاً لعلاقة جديدة بين مجال الإنتاج ومجال إعادة الإنتاج الاجتماعي، وبالتالي بين نظام الجنسين.بالإضافة إلى ذلك، وضع حد لعقلية الاستيلاء على رأس المال، و"الهدايا المجانية" للطبيعة، ومصادرة السكان الأصليين والجماعات العرقية الأخرى. في نهاية المطاف، من المهم توسيع نطاق الحكم الذاتي الديمقراطي بشكل كبير مقارنة بالوضع البائس الحالي، باختصار يمكن القول في هذه المرحلة، إذا كان على الاشتراكية أن تعالج جميع مظالم الرأسمالية، فلا يكفي تغيير النظام الاقتصادي الرأسمالي، مطلوب تغيير في النظام الاجتماعي الرأسمالي بأكمله.
استنتاجات أخرى يمكن استخلاصها من مفهوم موسع للرأسمالية وأزمتها على سبيل المثال، هناك بعض الميول المدمرة للذات المتأصلة في النظام تركز على تلك النقطة خارج نطاق الاقتصاد.
أولاً، يمكن تحديد نزعة هيكلية تعرض التكاثر الاجتماعي للخطر بشكل متكرر ويجري السعي لتجنب دفع تكاليف التمريض و الرعاية، فإن المسؤولين بشكل أساسي عن هذا المجال في مجتمعاتنا يتعرضون لضغوط متزايدة، أي العائلات وقبل كل شيء النساء، والشكل المالي الحالي للمجتمع الرأسمالي يؤدي إلى تفاقم مثل هذه الأزمة، الذي يدفع من ناحية إلى تفكيك المزايا والخدمات الاجتماعية العامة ومن ناحية أخرى يتطلب من الأسر المعيشية الخاصة والنساء العمل لساعات أطول من أي وقت مضى.
مع الفهم الموسع للرأسمالية، لم يعد بالإمكان التغاضي عن الميل المتأصل للنظام إلى تفاقم الأزمة البيئية.
يقوم رأس المال بكل ما في وسعه حتى لا يضطر لدفع ثمن الموارد الطبيعية التي يستخدمها، بالشكل المناسب، فهي المسببة لتلوث التربة والبحارالذي لم يكن معروفاً من قبل، وتزيد ثقل الكربون الدائم على الأرض وقدرات تخزين ثاني أكسيد الكربون وقساوته إلى المواد الخام الطبيعية ورفضه لتجديدها أو إيجاد البديل لها، فهو يزعزع استقرار التفاعل الأيضي بين مكونات الطبيعة البشرية وغير البشرية. لست بحاجة إلى توضيح مدى إلحاح الأزمة البيئية الحالية.
يرتبط ميل الرأسمالية لتعزيز الأزمات البيئية وتلك الخاصة بإعادة الإنتاج الاجتماعي ارتباطاً وثيقاً باعتمادها الأساسي على مصادرة ثروة الجماعات العنصرية، يسرق أراضيهم والمعادن ويستفيد من مختلف أشكال السخرة ويتم استخدام الأماكن التي يعيشون فيها بشكل متزايد كمدافن للنفايات السامة،والنتيجة هي تشابك الأزمات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية بالإمبريالية والتضادات العنصرية العرقية، حيث وضعت النيوليبرالية معايير جديدة في هذا الصدد أيضاً.
أخيراً، تكشف النظرة الموسعة للرأسمالية عن قابليتها المتأصلة للتأثر بالأزمات السياسية. في هذه الحالة أيضاً، يحاول رأس المال الاستفادة من السلع العامة دون الحاجة إلى دفع ثمنها من خلال بذل كل ما في وسعه لتجنب الضرائب وإضعاف القدرة التنظيمية للحكومة، يقوض رأس المال الخزينة العامة التي يعتمد عليها وجودها.
في سياق تمويل الرأسمالية، وصلت هذه العملية إلى مستوى جديد تماماً. غالباً ما تكون الشركات العملاقة العاملة دولياً متفوقة على سلطات الدولة المقيدة إقليمياً والمؤسسات العامة من نواحٍ عديدة، ونرى كيف يتحكم رأس المال المالي العالمي بالدول، ويتجاهل نتائج الانتخابات السياسية (انظر مثال اليونان) ويمنع الحكومات من تبني المصالح المشروعة لشعوبها، وهذا يغرق السياسة في أزمة وهيمنة ضخمة، حيث يبتعد الناس في جميع أنحاء العالم عن النظام الحزبي القائم وهذه النقطة تزيد من حدة الرؤية والحس السليم.
الرأسمالية وهي في أزماتها، تميل إلى تقويض أو تدمير أو إضعاف (زعزعة استقرارها) ومبانيها الخاصة بها، إنه كمن يقطع الغصن الجالس عليه بالمنشار، مرة أخرى يجب ألا ننسى عندما نتحدث عن الخطأ في المجتمع الرأسمالي وما يجب أن تتغلب عليه الاشتراكية.
أخيراً وليس آخراً، يجب ذكر العجز الهائل للديمقراطية في ظل الرأسمالية. المشكلة ليست "فقط" في أن عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والسلطة الطبقية يحبطان إمكانية المساواة في الحقوق لجميع الأصوات السياسية. المشكلة هي أن أرباب العمل ما زالوا يملكون الكلمة في قاعات المصانع "فقط". على الأقل بنفس القدر من الأهمية، إن لم يكن أكثر أهمية، كون الأسئلة التي لها عواقب بعيدة المدى لا تخضع للنقاش والقرار الديمقراطي.
كيف نريد تنظيم إنتاج السلع وقيم الاستخدام؟ كيف ننجح في تلبية الاحتياجات البشرية المختلفة؟ ما هو شكل إمداد الطاقة وما أنواع العلاقات الاجتماعية المطلوبة لذلك؟ كيف نريد ربط منطقة الإنتاج بتكاثر البشر وتكاثر الطبيعة غير البشرية؟ وربما الأهم من ذلك كله، كيف نستخدم القيمة الاجتماعية المضافة التي ننتجها بشكل جماعي؟ في المجتمعات الرأسمالية ليس لدينا أي رأي في هذه الأمور. عادة ما يقرر المستثمرون الذين يحرصون على الحد الأقصى من التراكم من وراء ظهورنا.
إن النظرة الأوسع للمجتمع الرأسمالي توسع أيضاً نظرتنا إلى عيوب النظام. إذا كانت الاشتراكية جادة في التغلب على هذه الشرور، فإنها تواجه مهمة شاقة. بصفتنا اشتراكيين، لايتعين علينا فقط ابتكار نظام اجتماعي جديد يمكنه إنهاء حكم الطبقة، نحتاج أيضاً إلى التغلب على التفاوتات المرتبطة بالتسلسل الهرمي للجنس والقمع العنصري / الإثني / وأشكال مختلفة من الحكم السياسي.
التحدي الآخر هو إلغاء المؤسسات التي تخضع لاتجاهات مختلفة للأزمات، ليس فقط الأزمات الاقتصادية والمالية، ولكن أيضًا الأزمات البيئية، وأزمات إعادة الإنتاج الاجتماعي وأزمات السياسة، ليس هناك شك في أن اشتراكية القرن الحادي والعشرين يجب أن تضمن توسيع نطاق الديمقراطية، لا يتعلق الأمر فقط بإضفاء الطابع الديمقراطي على عمليات صنع القرار ضمن الإطار السياسي المحدد. ما نحتاجه هو دمقرطة العمليات التي يتم فيها تحديد ما ينتمي إلى عالم السياسة وما لا ينتمي إلى عالم السياسة.
عنوان الجزء الثاني القادم : ماهي الاشتراكية؟
*نانسي فريزر:أستاذة العلوم السياسية ،أحدى مشاهير الوسط النسائي في الولايات المتحدة الاميركية
ترجمة وإعداد: حازم كويي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Triangle of Love - To Your Left: Palestine | مثلث الحب: حكام


.. لطخوا وجوههم بالأحمر.. وقفة احتجاجية لعائلات الرهائن الإسرائ




.. الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا


.. الشرطة الأميركية تعتقل عدة متظاهرين في جامعة تكساس




.. ماهر الأحدب: عمليات التجميل لم تكن معروفة وكانت حكرا على الم