الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية ،،الموت السعيد،، لألبار كامي تحليل

حاتم بن رجيبة

2021 / 3 / 27
الادب والفن


في يوم ربيعي رائع الجمال، نور باهر وأزهار خلابة وعصافير تزقزق يقوم مورسو بطل الرواية بالإجهاز على صديقه لنغوص دون مقدمات في لب الرواية ،،كان ذلك في نيسان، في صبيحة ربيعية جميلة متلألئة وباردة، ذات زرقة صافية و مثلجة وشمس ساطعة وباهرة ولكنها من غير حرارة...كان كل ذلك من الغضاضة و الطفولة بحيث جعل مورسو يتوقف لحظة قبل أن يستأنف الطريق...نحو دار زغرو ،، يتقدم مورسو بخطوات ثابتة، بتخطيط مسبق وبقناعة تامة بصواب ما أقدم عليه: قتل صديقه زغرو المقعد والثري. يقتل صديقة العاجز، المبتور الساقين، الذي يتقبل الموت دون صراخ، دون مقاومة، دون أن ينبس بكلمة حتى لا يتراجع صديقه، حتى يريحه من مأساته، حتى يهديه الموت، هذا الموت الذي طالما تمناه وحضر له. لكنه، لجبن وضعف أمام غريزة الحياة وغريزة الفضول، عجز عن الإقدام عليه ووضع حد للإحتضار وللعجز ولحياة غير سعيدة ولا أمل أبدا أن تصبح سعيدة. تركه يجهز عليه و كأنه لم ينتظر إلا هذه اللحظة. ما عدا دموع صامتة مسترسلة ليس هناك احتجاج ومعارضة. تقبل تام للموت،،وحين أحس فوهة المسدس على صدغه الأيمن لم يحول عينيه. ولكن باتريس الذي كان ينظر إليه رأى عينيه تمتلئان بالدموع،،. يتواصل الجمال والنور حتى بعد حدوث الجريمة،،ومن السماء الزرقاء كانت تساقط ملايين الإبتسامات الصغيرة البيضاء...وتصعد مجنحة نحو بحيرات الهواء والشمس حيث كانت تفيض الساعة،،. فلا مجال للفضاعة والإثم والحزن والبشاعة. جو مفعم بالجمال والسعادة والإمتنان رغم القتل والجريمة والسرقة والموت واللصوصية.

ملأ باتريس مورسو حقيبته بأموال صديقه ليصبح ثريا بعد أن كان معدوما وترك وصية صديقه بارزة فوق الطاولة، رتب مسرح الجريمة حتى يبدو القتل عملية انتحار، ليعود إلا منزله وينام حتى الأصيل. ينام بضمير مرتاح وبال خال. لكن ما إن وضع مورسو ساقه خارج منزل صديقه العاجز الذي مات من توه حتى عطس ثلاث مرات، هذه العطسات كانت بداية موت مورسو، كانت علامة إصابته بداء السل القاتل آنذاك،، هزته عطسة ثالثة فأحس بما يشبه الحمى،،. الموت يتعاقب في حياوات سعيدة وطبيعة خلابة. متناقضات لجل البشر لكنها حقيقة بالنسبة لباتريس مورسو وصديقه زغرو الذين عرفا أن يعيشا سعيدين وتقبلا الموت بصدر رحب، دون خوف.

هذا هو لب الرواية: كيف نعيش سعداء وكيف نتقبل الموت. ما هي السعادة ولماذا نحن نخاف الموت؟ ما يمنعنا نحن البشر من أن نكون سعداء وأن نعيش بدون خوف من الموت، بأن نتقبله بصدر رحب.

يعود الكاتب في الفصل الثاني إلى نقطة البداية. إلى وصف حياة باتريس مورسو قبل أن يتعرف على زوغلو. منذ بداية الفصل وفي حادثة ثانوية تتبين شخصية مورسو : شخصية لا مبالية وعبثية، تعيش ليومها وليس لديه قدرة على التواصل مع الغير. القدرة على الغور في عوالمهم التعاطف معهم وتقاسمهم الأحاسيس، فهو محبوس في قوقعته، منعزل حسيا عن الآخرين، لا يشاركهم مشاغلهم و أحزانهم و أفراحهم. سقط حمال في الميناء بين لوحين وكان جرحه بليغا ووضعه يدعو للمساندة والعطف لكن مورسو شاهده بقلب جامد ونظرة بلهاء وفكر شارد كما لو كان أمام حائط أو منظر عادي يومي،،كانت شظية عظم قد اخترقت اللحم في جرح كريه كان الدم يسيل منه...كان مرسو يتأمل، جامدا،،.

في المطعم حين كان مرسو يتناول غذاءه بدأ الإيحاء بمقومات السعادة. بدأ الإفصاح عن علاقة المال بالسعادة على لسان صاحب المطعم واصفا حال صديق له ،،لقد سعد بأيامه، وكان على حق...لقد كان له تسعة آلاف فرنك!! آه لو كنت مكانه...كنت اشتريت بيت ريفيا..،، وهذا ما سيفعله مورسو لاحقا، سيشتري منزلا ريفيا ويعيش من مال صديقه زغرو .

باتريس كان يسكن حيا فقيرا، الكثير من سكانه مصابون بداء السل، وهو مرض كان مستشريا في الأوساط العمالية الفقيرة في البلدان المصنعة وهو معدي و ينتشر بين الفقراء خاصة لضيق السكن وضعف المناعة. نفس المرض سيصيب مورسو وسيكون سبب وفاته. لكن أحوال جيرانه المصدورين وذكريات صديقه إمانويل الفظيعة أثناء الحرب العالمية الأولى لم تكن تهمه في شيء،،بين هذا المصدور الهادئ و بين إمانويل المتخم بالأغاني كانت حياته كل يوم تتأرجح في رائحة القهوة والقطران، منفصلة عن ذاته وعن اهتمامه، غريبة عن قلبه وحقيقته،،. الفقر كان له الأثر الكبير في تعاسته، رغم أن الطبيعة حبته بجسد رياضي وقامة فارعة وعضلات مفتولة جعلته محبوبا من النساء. الفقر جعله ينقطع عن الدراسة ويصبح عاملا، جعله يتأرجح بين العمل والنوم ولا يجد الوقت والمال الكافيين للتسلية،،وقد كان مجبرا(بعد مرض أمه) على أن يوقف دروسه وعلى أن يعمل. وحتى موت أمه كان يتابع القراءة و التفكير ،،. فهو إنسان ساخط وغير راض عن وضعه الإجتماعي والثقافي، عن وضعه كعامل، كان يطمح أن يواصل دراسته ليرتقي اجتماعيا وينعم بالثراء ويغادر حي الفقراء و الفاقة، لكن مرض أمه المفاجئ في سن مبكرة ثم موتها أوأدا كل طموح في تحسن حالته المادية .

توقع الجيران أن يكون حزن الإبن لموت أمه كبيرا وأن يدوم طويلا لكنهم فوجئوا به يعلق إعلانا لإيجار غرفتين من شقته بعد يوم واحد من الجنازة(وفي اليوم التالي، كان يمكن رؤية هذا الإعلان على إحدى نوافذ الشقة:،،للإيجار،،). دليل آخر على الجمود النفسي لمورسو، فهو لم يظهر أي علامات حزن على أمه رغم العلاقة الحميمية بها. ماتت فالأولى أضحى إيجار الغرفتين.لا مبالاة وبرود عاطفي رهيب.

تسبب موت الأم في بروز معضلة قاسية جديدة إلى جانب الفقر لدى باتريس: الوحدة. كان حضور أمه وتواصلها معه رغم قلة الكلمات يخفف من حدة لوعة الفقر. فيبرز عنصر جديد فتاك بالسعادة الإنسانية ألا وهو العزلة والوحدة. الفقر والإنعزال يهدمان صرح السعادة ويسببان الشقاء،،في الماضي، كان للفقر بالقرب من أمه نكهة عذوبة...والآن على النقيض، فإن الفقر في الوحدة كان بؤسا فظيعا،،.

تواصل حياة مورسو رتيبة بدون أصدقاء وبدون علاقات إنسانية مكثفة رغم شبابه ونضارته، فيقضي أوقات فراغه على الشرفة يشاهد الناس في فرحهم وتألقهم وحبهم للحياة ومسراتها: دور السينما، ملاعب كرة القدم، سمر المقاهي، التقرب للجنس الآخر والبحث عن الحب ،، ما عدا بعض الأمسيات التي كان يستقبل فيها مارت أو يخرج معها ومراسلته مع صديقاته من تونس فإن حياته كلها كانت تنتظم في منظور باهت،،.

يفسر الكاتب تقوقع مورسو وجموده العاطفي أيضا بغروره، فهو يضع نفسه في المركز، لا يرى إلا نفسه، مغرم برشاقته وجسده الرياضي، يرى نفسه في مرايا قاعة السينما بإعجاب وحتى عشيقته يرى جمالها وشدها لأنظار جل الرجال كإعجاب به هو، يراها كمكمل لجماله، كلباس ثمين يثري عليه خيلاء إضافية،،وعند الإستراحة كان يجول في القاعة المغطاة بالمرايا. فكان وجه سعادته ما تعكسه له الجدران ،مالئة القاعة بصور رشيقة وراعشة لقامته الفارعة القاتمة،،. في إحدى تلك الزيارات لقاعات السينما تنبثق فجأة عاطفة الغيرة في هذا الكائن المتحفظ والمغرور والبارد واللامبالي والعبثي. انتعشت مارت لهذا الحدث،،غير أنها فهمت ذلك المساء، بعد خروجها من السينما، أن شيئا ما يستطيع أن يؤثر فيه،، فلا موت أمه ولا مشهد العامل المحطم ولا ذكريات صديقه في خضم الحرب الكبرى هزت شيئا من كيانه من قبل. لكن أخيرا تدخل الغيرة على كيانه وتنخر قلبه، تجعل منه إنسانا بعد أن كان قالب ثلج.

هذه الغيرة قادت مورسو إلى الشخصية المحورية في حياته، الشخصية التي ستفتح قلبه وفكره وروحه على عالم السعادة وعلى المجابهة الواعية ضد أسباب التعاسة والشقاء الوجوديين: الفقر والعبودية للعمل و انعدام الوقت والمال للتمتع بمباهج الدنيا والخوف المرضي من الموت والنهاية. هذا الشخص كان العشيق الأول لمارت، أصبح عاجزا بعد حادث فبترت ساقاه،،ساقاه مبتورتان. وهو يعيش وحيدا. إنه ذو شخصية، ومثقف، فهو يقرأ دائما..إنه مرح جدا..إنه شخصية باختصار،، هكذا وصفت مارتا زغرو، فهو يحب الحياة، سعيد بها، وهو مثقف أي مطلع على تجارب الآخرين، الذين أخذوا الوقت الكافي ووظفوا جهدا لمجابهة الوجود وقضاياه وأسراره.

قبل المواصلة لابد من التوقف على رمزية شعور الغيرة في انفجار إنسانية مورسو،في انفجار العواطف وكسر الجليد والجمود. الواضح أن هناك غرائز حيوانية كامنة فينا يجب علينا احترامها والإعتراف بها وتلبيتها قدر الإمكان مثل: حب الجنس الآخر والإقتران به، الغيرة عليه و الرغبة في عدم مقاسمته مع الغير، حب الملكية الخاصة، الغضب و استعمال العنف عند الحاجة، الرغبة في البكاء عند الحزن الشديد، حب الآخرين والحاجة إلى الجماعة والإنتماء إليها والشعور باحترام الغير له وخشية الوحدة والعزلة والطرد كما الرغبة في الإنجاب و تربية النسل... نفي هذه الغرائز وعدم تلبيتها يؤدي إلى نقص في السعادة وزيادة في الشقاء.

لاحظ زغرو ضجر مورسو وشقاءه وعدم ارتياحه لحياته. فلحظات السعادة معدودة مقارنة بالجزء الطويل من الضجر والملل، مثل الحصى يلفعه الحر ساعات ولا يتنفس إلى متى نزل المطار وبلله لحظات معدودات،،فإنما هو كالمطر فوق حصاة، إنه ينعشها ، وهذا بذاته جميل جدا. وبذات يوم سوف تلتهب بالشمس. لقد بدا لي دائما أن السعادة إنما هي هذا بالضبط،،.

لذلك وحتى تطول فترات السعادة وجاب أن يكون الإنسان غنيا، فبالمال نتحصل على الوقت الذي نكون فيه سعداء ومرتاحي البال. فكيف ستكون سعيدا عندما تقضي كامل اليوم في العمل، ما إن ترتاح من أعبائه حتى تنهض للعمل من جديد، كالعبد تشقى إلى أن تموت،، في جميع الحالات تقريبا نتلف حياتنا لنكسب مالا. بينما يجب بالمال، أن نكسب وقتنا ...أن تكون أو أن تصبح غنيا، معناه أن تملك الوقت لتصبح سعيدا عندما يكون الإنسان جديرا بأن يكونه،،.

فبدون المال لن تجد الوقت لتسعد، لأن تحب وتسافر وتعمل ما تحب وترغب فيه، أن تهتم بأبنائك وأقاربك وأصدقائك مثلا ...أن لا تكون مجبرا أن تفعل شيئا لا ترغب فيه، أو أن لا تجد الوقت والوسيلة لفعل شيء تحبه. هذا هو لب الحياة السعيدة. بطبيعة الحال يمكن أن تكون شقيا وتعيسا رغم ثرائك كحال زغرو عندما فقد رجليه.

فهم مورسو الرسالة، فقتل صديقه التعيس واستثرى بماله، سافر وجرب الترحال ليجده موحشا ويصطلي بنار الوحدة. فيعود إلى الجزائر ويعيش مع ثلاث فتيات فترة ينعم فيها بالحرارة الإنسانية،بحرارة القطيع، بالأنس. ثم يغادر إلى منزل ريفي يبدأ فيه حياة سعيدة، يستحم في البحر متى يشاء،يستيقظ باكرا، له أصدقاء من أهل القرية، منصهر في الجماعة، محترم منها، يتمتع بمناجاة الطبيعة ودفئها وأنغامها ليموت مرتاح البال بعد حياة جزئها الأخير سعيد،، حقيقة أن السعادة التي كان يبحث عنها كانت تجد شروطها في اليقضات الصباحية، والحمامات المنتظمة، وسلامة الصحة الواعية،،. بعد سنوات من الحياة السعيدة في الريف وسط الطبيعة منسجما مع أهالي القرية، محبا لوحدته وللبحر والطبيعة المتوسطية الخلابة أحس أنه عاش وتلذذ الحياة، لذلك تقبل الموت الذي أتى به مرض السل بصدر رحب،،كان يدرك أن الخوف من الموت يعني الحوف من الحياة...وجميع الذين لم يسبق لهم أن صفوا الأعمال الحاسمة ليرفعوا حياتهم...أولئك جميعا كانوا يخافون الموت. بسبب العقوبة التي يحملها إلى حياة لم يسبق لهم أن امتزجوا بها،،.

رواية أكثر من رائعة، وصف دقيق وخلاب لأدق الأشياء. هذا التدقيق ساعد في التعمق في حل المشكلة الوجودية: السعادة في وجود مبهم وعبثي: كيف نتمتع بحياة لا معنى لها؟ كيف نتقبل الموت بصدر رحب؟

أسلوب رائع تداخلت فيه الأزمنة فقدم حادثة القتل ليعود إلى نقطة البداية. فتكون الإثارة ويقضي على الرتابة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا