الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طريق الهاوية -2-

نادية خلوف
(Nadia Khaloof)

2021 / 3 / 29
الادب والفن


أفقد أشياء من ذاتي ، كذاكرتي ، قدرتي على التّفكير
كأنّ أحداً غسل دماغي ، أعيش كأنني لا أعيش
فلا قوة جسدية، ولا حيلة
أتهادى كقطعة ثلج على فراشي
أمرّر الوقت ، أرجوه أن لا يمرّ
لم أضع خطّة للقادم بعد
خطتي سوف تكون: سمعاً وطاعة
لا. لن تكون كذلك . سوف أرسمها أنا
من أنا؟ أنا لا شيء
، و أنا كلّ شيء
. . .
لا أعرف اسم ابي . ينادونه الحاج، أو فضيلة العالم.
سوف أسأل أمّي .
-أمي ! ماهو اسم أبي الحقيقي.
-اسمه الحاج.
-أليس له اسم وكنية مثلنا؟
-نعم . عندما تزوجته كان اسمه سعدون ابن صبرية . كان يكنّى بأمّه لأنّها كانت أرملة . قال لي أنّه يخجل أن يكون ابن صبرية لأنه ينتقص من قيمته ، فغير اسمه إلى محمد بن طالبان ، ثم اجتهد فأصبح إماماً فعالماً، وهو يكنى اليوم بالحاج لأنّه مشهور بين أوساط العلماء .
-لماذا قبلت أن يتزوج بأخرى ؟
-هذا حقّه يا ابنتي، و أنا لا أخالف شرع الله!
ماذا قالت أمي؟
لم أفهم شيئاً ، كل ما فهمته أنّها تقدّسه، و لا يمكن أن يغير أحد رأيها . عندما أكبر سوف أصبح كاتبة و أكتب رواية عنوانها: ليس بالضرورة أن أحبّ أبي
سوف أتحدّث في الرّواية عن جهل أمّي
لا. سوف أصبح مخرجة سينمائية ، و أخرج فيلماً عنوانه : امرأة جاهلة
لا. سوف أصبح راقصة، أوشم على كتفي ابنة الحاج بعبع.
لن أكون شيئاً سوى زوجة رجب ، كلّها تخاريف فأنا ابنة ذلك الرجل الذي يعتبر النساء كمماسح أحذية ، ولماذا سوف يكون مستقبلي جيداً؟
. . .
على منعطف الشّارع تسكن نوال . امرأة في الستين تعيش وحدها .
كأنها تحمل مفاتيح الأسرار
غموض التفسيرات
مشيئة القدر
، قهر و أحزان .
بعض نساء الحي يتحاشينها ، يخفن أن تخطف أزواجهن ، مع أنّ سنّ الحبّ قد فاتها وفق تعريف المجتمع ،البعض يألف معشرها مع أنه أصغر منها بسنوات .
تلتقي فاطمة بصديقتها مريم . كانتا في المدرسة الابتدائية معاً.
-إلى أين أنت ذاهبة يا مريم؟
- إلى بيت صديقتي نوال
-هل تعرفينها؟ أراها تقف على الباب، أرغب أن أسلّم عليها، و أخشى أن لا ترد السلام.
- بالعكس . هي طيبة هل تأتين معي؟
-لحظة. سوف أستأذن أمّي .
أمي وافقت . قالت هي امرأة وحيدة ليس في بيتها رجال.

. . .
شيء يملأ روحي المتعبة
يوقظني من غفلتي
أشعر بالنّعاس ، فالبيت نظيف ، و الهواء نقي.
شيء جميل يلامس روحي في بيت نوال . لم أتحدث ، بل كنت أستمع لحوارها العميق مع مريم .
تقول لمريم: انسي أنّك مطلّقة ، انسي الركض وراء الزواج، لا زلت طفلة. عندما كنت في الثالثة عشر زوجوني بالقوة، وتركت زوجي ، قرّرت أن أمضي في حياتي، كان العائق هي أمّي. لم تصدّق أنّني أصبحت في المنزل حتى استخدمتني في عمل كل الأشياء: رعاية إخوتي الصغار، جلب الحطب و النباتات للطعام، العجن و الخبز ، الغسل . كنا أربعة عشر شخصاً أقوم على رعايتهم . تعاملت معهم كأولادي ، لمكنني كنت قاسية وصارمة كي يمشي المركب .
كان إخوتي الذكور يدرسون ، فقط أنا لم أدخل المدرسة، وفي يوم طلبت من أخي الأصغر أن يعلمني الأبجدية. كتبها لي مرّة واحدة، قرأها مرّة واحدة، كانت انطلاقتي من هنا، حملت بعدها الشهادة الجامعية دون أن أعرف المدارس. تقدم لطلب يدي الكثي ممن توفيت زوجاتهم ، أو غيرهم ، لكنّني لم أكن أسمح لنفسي بالتفكير بالزواج من أجل الزواج لذا رفضتهم جميعاً، فقط أحببت شخصاً واحداً ، لم أتزوجه . كنت قليلة الفهم. لقد سجن بتهمة سرقة ، وقلت أنني لن أتزوج بسارق . عندما خرج من السجن أتى إلى بيتنا، وقد صنع لي حزاماً لوسطي من خرز فخفق قلبي بحبّه ، لكنّه سارق. هو لم يسرق الكثير ، فقط قطف عدة كيلو غرامات من القطن وباعهم واشترى بثمنهم خبزاً، وبطاطا لعائلته ، لكن الشرطة قبضت عليه في المرة الثانية . عرفتُ فيما بعد أنّ الحرامي الحقيقي لا يسجن. تضحك نوال ، تقول أطلت عليكما، ولم أسمع رأي فاطمة، أو أي حديث عنها.
-هل تعدينني أن لا تقولي لأمي ما سوف أذكره لك؟
-إن كنت خائفة لا تقولي ، فليس للإنسان مستودع للأسرار إلا ذاته.
-أشعر بالذنب لو قلت لك أنني لا أحب أبي و أمي . أشعر أنني عبد في تلك الأسرة. سوف يزوجونني من رجب . لا أعرف أين المفر . أتدرين يا نوال ؟ أشعر أن رجب يحبّ أمي ، و أمي تحبه، و أتمنى أن يتزوجا كي ينتهي ألمي .أتمنى لو أنّ والدي لم يكن عالم دين ، لو كان فلاحاً وكنا نعيش معاً مع إخوتي، ودون زوجاته الثلاث لكان الوضع أفضل. حين يعود أبي في المساء ، ويغلق الباب على زوجته الأخيرة أشعر بالامتعاض ، كأن منزلنا بيت دعارة . أبي يكسب الكثير . تأتينا الصدقات إلى المنزل ، تفيض عن حاجاتنا ، لكن ما فائدة ذلك لي ؟
-جميعهم يشبهون والدك يا عزيزتي. أبي كان فلاحاً ، كان لدينا حقل و خيل ، و أغنام. كنا نعيش معاً بسلام ، هو يحبّ أمّي ، لا يؤمن بتعدد الزوجات ، لكنه أرغمني على الزواج، ولو أنّ أمي لم تشدّ على يده لما فعل. قالت أمي لي يومها: هنا أنت قريبة منّي ، تستطيعين مساعدتي عندما أمرض، و عندما رفضت أرغمني. كان لديها قدرة على إرغامي أكثر من أبي . الأمهات أيضاً يشبهن أمّك . إنه أمر شبه عام إلا إذا انتقلنا إلى طبقة تدعى المتنورون الذين يحاولون أن يقدموا لنا شيئاً، و أغلبهم يسقط . الموضوع يتعلق بفكر الرجل الذي يعتبر المرأة ملكه ، وبفكر المرأة الزوجة التي تحمل رايته، وتغيير ذلك أشبه بالمستحيل ، لأنّ الشيوخ كوالدك ورجب يرعبون الناس من الآخرة ، ويتوعدونهم بعذاب القبر .
-أحببتك. سوف أتي لزيارتك كل يوم
. . .
أمرّ على الديار، لا أراها
خراب يصرخ من خلفي ومن أمامي
لا أسمعني، لا أراني
كأنّ روحي لم تكن هنا
وطفولتي قيد النسيان
أتيت و الشوق يشعلني
لم ألتق بالشوق ولا الخلان
حتى المقابر خلت من سكانها
لم يزهر في بستاننا الرّمان
ياويح قلبي من الذّكرى !
تؤرجحني ، تهزّ كياني
ليتهم لم يسموه وطناً
لم أفده في سالف الأزمان
سوف أقرع جرس هذا الباب ، كأنّني أتذكره . إنني متردد لا أعرف إن كان سكان البيت يعرفونني ، لكن لا بأس. سوف أعرّف بنفسي .
-مرحباً يا أهل الدّار .
-أهلاً بك يا ياسر .
-كيف عرفتني ، و أنا منذ عشرين عاماً لست هنا ؟
-حضرت جنازتك. استلمت عائلتك نبأ وفاتك ، أقاموا لك العزاء ، قلت لهم يومها : قد تكون على قيد الحياة ، فحتى لو سقطت الطّائرة قد يعيش الطّيار. تفضل . سوف أحضر لك طعام الإفطار. تبدو متعباً . نتحدث فيما بعد ونحن نشرب الشّاي .
-شكراً لك. عرفتك الآن . أنت نوال. هل تبقى أحد من عائلتي ؟
-لا أرغب أن أصدمك ، لكنّني سوف أقول لك الحقيقة . لم يتبق أحد سوى أحد إخوتك، وهو في السجن الآن ، متهم بالإرهاب، يقال أنه قد يكون توفي تحت التّعذيب .
-لماذا التعذيب؟ طائرتي كانت تقصف العدو ، لكنّهم أخذوني إلى المستشفى، وقدموا لي الرعاية الصحية تحت حراسة السّجان، ثم سجنت، قدموا لي الطعام، وسمحوا لي بالدراسة ، ثم انتهى الحكم ، أطلقوا سراحي . ليتهم لم يطلقوه. توقعت أن أشعر برائحة المكان، لكن لم أشعر إلا برائحة الخراب . أتدرين؟ في العشرين عاماً المنصرمة شعرت بالانتماء إلى السجن، و أنّه وطني ، فقد كنت آكل و أشرب و أقرأ ، و أتمتّع باستقلاليتي . لا أعرف الآن ماذا أفعل هنا. لو لم تقدمي لي طعام الإفطار لكنت تهاويت من الجوع.
صمت ياسر ، وغطّ في نوم عميق.
نوال تفكر في أمره ، وكأنها مسؤولة عن إيجاد الحلول للآخرين:
أتساءل عن عدد المظلومين هنا. أعدّ ولا أنتهي . ماقيمة تلك الحياة؟ لقد أرسلوا ياسر لقتل الأعداء ، حضرنا جنازته، لكنّه لم يكن ميتاً ، لقد عاد. هل من الأفضل لو مات؟ لا. الحياة تستحق أن نعيشها، لكن ماذا فهمت منها؟ وماذا فهم ياسر منها؟ ومن هم الأعداء ؟
يتحارب أولاد آدم مع بعضهم البعض ، يصنفون بعضهم بالآعداء . تمنى ياسر أن يبقى سجيناً عند عدّو ذهب ليقتله، ولا يعود إلى هنا. عليّ أن أساعده كي يستطيع العيش. لا أستطيع استضافته أكثر من أسبوع، فمواردي لا تسمح بإعالة شخصين.
يلسعني الماضي ، أهرب منه ، يحزنني الحاضر ، و المستقبل حوله غمام .
أين المفر؟
لو أمكنني أن أغيّر العالم
أن أبعد المعاناة عن البشر
أن أعود إلى الطفولة، ألعب أمام بيتنا
أن أتألّق في الشّباب
أن أحبّ
أن أرقص ، أن أغني
أسافر
أتسوّق
أعمل
أعيش .
لم أخظ بكل ما تمنيت، لكنّني لن أستسلم، سوف أعيش ما تبقى من حياتي بطريقة سليمة، أقل حزناً، و أقل معاناة. الآن سوف أذهب لأشتري بعض الخضار من أجل وجبة الغداء، فياسر ضيفي التائه ، عليّ أن أخفف عنه ، مع أنه يبدو طبيعياً لا يتألم.


. . .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا