الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فاخورة مسمار

سليم زاروبي
عالم فلك فلسطيني متخصص في دراسة فيزياء الكون

(Saleem Zaroubi)

2021 / 3 / 30
القضية الفلسطينية


سمعت لأول مرة عن عائلة مسمار، أو كما نسميهم في اللهجة الدارجة "دار المسمار"، وأنا طفل صغير، حين كان أبي يتحدث بإعجاب واضح عن كيف تصدى حنا مسمار الجد وأولاده، سامي، غسان وجلال، ووقفوا أمام تراكتورات الحكم العسكري التي أتت لتصادر أراضيهم، على إثر قرار بن غوريون إقامة نتسيرت عيليت على أراضي الناصرة والقرى المجاورة. منذ ذلك الحين وقصة مواجهة عائلة مسمار ووقوفها أمام جرافات الحكم العسكري إحدى قصص فولكلور النضال في الناصرة وبالذات في حيّنا، حيّ النمساوي.

في مرحلة الثانوية نَمَت بيني وبين الأحفاد (بالذات بسام وحنا الحفيد) صداقة خاصة من خلال نادي حي النمساوي، الذي جمع أغلب سكان الحي في جو متناغم ووطني رائع. حيث نشأت فيه صداقات وطيدة بين معظم من كان فيه ما زالت قائمة حتى اليوم. وقد كان مقر النادي (المكون من قاعة صغيرة وغرفة اجتماعات ومكتبة صغيرة إلى جانب ملعب متواضع) امتدادا للفاخورة التي يملكها "دار المسمار"، الذين عمليا تبرعوا بهذا الموقع لخدمة نادي الحي.

أصبحت الفاخورة بالنسبة لي، وكنت لا أزال في مرحلة الثانوية، الموقع الثاني، بعد النادي، الذي أطرقه بشكل يومي تقريبا. تعلّمت كثيرا من زياراتي للفاخورة، حيث كانت تدور فيها النقاشات والسجالات السياسية والاجتماعية بين زوارها، الذين كان من ضمنهم شخصيات ثقافية وسياسية مميزة. لكن الروح الحيّة لهذه الاجواء كانت عائلة مسمار، بكل أبنائها، ابتداء بالجد حنا، المؤسس، وأبنائه الثلاثة، سامي (أبو حنا)، غسان (أبو عامر) وجلال (أبو أيمن، والذي كان ملقبا أيضا بـلقب "بطل")، الذين كانوا يرحبون بالجميع. وكما ذكرت، كانت الفاخورة بالنسبة لي مدرسة تعلمت منها الكثير، حول العمل الوطني والسياسة، والعلاقات بين الناس والروح الطيبة التي تميّز شعبنا. لكن الفاخورة كانت في الأساس مكان عمل وانتاج، والنشاط المحوري الذي يدور فيها هو صناعة الفخار!

أسس الفاخورة حنا مسمار الجَد في بداية القرن العشرين، بعد أن تعلم صناعة الخزف في مدينة ميونيخ الألمانية. اختار حنا مسمار الجد موقع الفاخورة على جبل سيخ الذي يقع شرقي الناصرة، وذلك لغناه بالتربة الصلصاليّة الملائمة لصناعة الفخار. كان موقع الفاخورة الأول في المنطقة التي يقع عليها اليوم مصنع عيليت/شتراوس للشوكولاتة، والأراضي المجاورة له، مباشرة فوق بناية بلدية نتسيرت عيليت الجديدة. بعد مصادرة أراضي الفاخورة، إبّان إقامة نتسيرت عيليت ومعركة التصدي الكبيرة التي خاضها حنا مسمار الجد وأولاده الثلاثة، اضطرت الدولة أن تعوضهم بأراضٍ بديلة، وانتقلت الفاخورة إلى موقعها الحالي، هذا ويجدر التنويه بأن ملف أراضي "دار المسمار" المصادرة ما زال مفتوحا حتى يومنا هذا.

كان لإنتاج الفاخورة دائما جانبان، جانب تجاريّ وجانب فنيّ. فقد اعتمدت الفاخورة تجاريا على صناعة "قواوير" الفخار الزراعية التي استدعت إنتاجا بأعداد كبيرة. كذلك اعتمدت على بيع قطع مختلفة صنعها أبناء العائلة يدويا على دولاب الفخار (عجلة الفخار) الذي يدور بدفع القدم. كنت دائما أعجب من كيف تتحول قطعة من الطين تحت أصابع الحرفي الماهر في غضون وقت قصير إلى قطعة جميلة من الفخار، وبالذات لأن عملية الانتاج تتطلب جهدا جسديا كبيرا وحركات قوية، تبدو للناظر بأنها فظة وعمياء، من الصعب التحكم فيها، لكنها في الحقيقة حركات متعمّدة ذات هدف واضح ومليئة بالدقة والإحساس. لهذا فقد كان هناك دائما جانب آخر للعمل في الفاخورة، ألا وهو الجانب الفني. فكثير من القطع التي تصَنَّع يدويا في الفاخورة، هي قطع فنية تميّز صانعها وتعكس مزاجه وحالته النفسية والوجودية. فعلى سبيل المثال كان حنا مسمار الجد يصنع التماثيل الفخارية التي استوحى صورها ممّا يجري حوله وفي مجتمعه، ولعل أقوى هذه التماثيل تأثيرا هي تلك التي تصور النكبة ومأساة الشعب الفلسطيني. وكذلك الأعمال الفنية التي صنعها أبناؤه الثلاثة، التي تركزت في الأعمال الخزفية التقليدية، لكنّها لا تقلّ إبداعا وابتكارا عن التماثيل التي صنعها حنا مسمار الجد. هذا وما زالت هذه الأعمال تزيّن رفوف الفاخورة لتشهد بافتخار على تاريخ هذا المكان العريق وفنه الأصيل.

بعد رحيل حنا مسمار الجد وأبنائه، سامي وغسان وجلال، خف الانتاج الابداعي في الفاخورة، نتيجة انشغال الأحفاد بأعمالهم المختلفة وعدم تفرغهم التام للعمل فيها. لكن في السنوات الأخيرة تفرغ الحفيدان بسام وحنا الحفيد (ابنا سامي) للعمل في الفاخورة بشكل كلي تقريبا، وأعادوا إحياء الجانب الإنتاجي والإبداعي فيها. ومع هذا الإحياء أتت قفزة نوعية رائعة فيما ينتجه الأخوان في الفاخورة. فقد أصبح التركيز الكامل تقريبا على الإنتاج اليدوي الذي يجعل من كل قطعة تُنْتَج قطعة خاصّة ووحيدة من نوعها لها بعد فني جميل. كما وأضاف الأخوان منتوجات عديدة جدا لسجل الأعمال التي كانت تنتجها الفاخورة تقليديا، كما وأعطياها بعدا حديثا ومرغوبا جدا، مثل أواني الطاجن وصحون الزيتون وخوابي الزيت، وإبريق وكؤوس العرق، وما إلى ذلك من قطع جميلة وعملية تضاهي تلك التي تباع في أجمل المحلات التجارية.

من الصعب التفكير في حرفة صناعية تعكس التحام الفلسطيني بهذه البلاد وترابها كحرفة صناعة الفخار والخزف، تماما مثلما ترمز شجرة الزيتون ومكانها المحوري في حياتنا إلى عمق جذورنا في هذه الأرض. لأن في عملية صناعة الفخار التحامًا بين إبداع الإنسان وحرفيّته مع التراب والأرض. لأن هذه الحرفة تمثل بشكل مباشر، وحَرْفِيّ تقريبا، الحياة التي تنبت من التراب الخام الذي تزوده أرض، والذي يتحول إلى فن وحضارة وثقافة ووجود. وكثيرا ما أقول لصديقيّ حنا وبسام أن ما يصنعانه لا يقل أهمية عمّا يصنعه رجال السياسة والأدباء والكتاب، فهم شركاء كاملون في معركة البقاء التي يواجهها شعبنا، لأنها معركة جذور وتراث وثقافة وإبداع.

ذلك كان تاريخ الفاخورة، وهذا هو حاضرها، وهكذا سوف تبقى صرحا فنيا وثقافيا وحضاريا للأجيال القادمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي