الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بلاهات-يقظوية-و-حداثوية- العراق؟*/(1/2)

عبدالامير الركابي

2021 / 3 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


قد تكون من اكثر الظواهر التي عرفها العصر الحديث اثارة للاستغراب، بقاء العقل العراقي وتواصل استمراره، غارقا في التسليم لمايسمى وعرف من تقولات متهافتة عن "عصر النهضة"، والخروج من" الفترة المظلمه"، وكل مايتصل بها من فذلكات وايهامات اللحاق المزور بالعصر والتقدم، الامر الذي يبلع اليوم، ومع ماقد اصبح عليه العراق، ومابلغه من انهيار شامل وترد يصعب وصفه، حد الخوارق في دالات التردي، ومايثير لا السخرية وحسب، بل الاشمئزاز الممتزج باقصى درجات النقمة والألم.
ونحن نتحدث هنا عن موضع من العالم، كان هو من اطلق المغامرة العقلية الأولى العظمى للعقل البشري، وهو الذي اهدى العالم اول وابقى رؤية كونيه مايزال العالم بغالبيته يدين بها الى اليوم، كما انه المكان الذي عاد وعرف نهوضا امبراطوريا وسيطا مزدحما بالمنجز والثراء والاستقلالية، والاصالة العقلية الشاملة المبدعة على مدى خمسة قرون، وهو اول بلد عرف "الإمبراطورية" مع سرجون الاكدي "حاكم زوايا الدنيا الاربع"، وتكرر حضوره كقيادة عالميه لمرتين اخريين، واسس للعديد من مرتكزات الحياة البشرية عقليا و"تكنولوجيا"اذا مااخذنا كمنجزات كبرى : "الكتابة"، و "الدولاب"، و "المدينه"، من بين منجزات عظمى مفهومية وشرائعية، وصولا الى خط كلمة ( الحرية / امارجي) للمرة الأولى على جبين التاريخ، على يد الراعي كوراجينا، وكل مايتصل بالاول والبدايات بارقى مايمكن من تجليها، ذهابا الى القرمطية والفاطمية، واخوان الصفا،والحلاج والمعتزلة، وكل حزمة التالهيات اللاارضوية المتصالحة مع الخارق .... الخ...
كل هذا امكن لابل جرى الإصرار على طمسه، ليتحول الى "التحاق بالنهضة بصفتها اللحاق بالغرب" من دون نسيان عند الحاجة، الاستشهاد بما فات ومر على هذا المكان من قمم الماضي بناء لكينونته، انما كاغنية من الأغاني، تبرر وتدفع للخضوع لحكم الاليات الغربيه وقوانينها المفترضة كما يصورها الغرب لنفسه، ومايتصل بمثل هذا الادعاء من نقليات باهته لافكار، بالكاد لامسها من تولوا نقلها، بينما هم يمسكون منها على مايبرر وجودهم، ويمنحهم القبول، او الحجة الضرورية للانغراس وسط محيطهم، وأول جرائم هؤلاء التي يستحقون عليها عقاب التاريخ لتجرؤهم الكاذب عليه، ربطهم ممكنات الخروج من حالة التردي والانهيار، او مايسمونه "عصر الظلمات" الذاتي، بمحفز ومحرك براني خارجي، مع الإصرار على تكريس فكرة رهن مايسمى "النهوض" و"التقدم"، بالغرب الحديث، الامر الذي مايزال الى اليوم شاخصا يتمثل في دعاوى "الدولة المدنيه"، و" دولة المواطنة"، الشعار والمشروع المتداول بين مجموعات الغوغاء المثيرة للاحباط على كل المناحي والصعد، العقلية والنفسية.
كيف يجوز لموضع من نوع ارض الرافدين، ان يعامل من قبل من يفترض بهم انهم ابناءه، على اعتباره فاقدا للديناميات التاريخيه، او انها توقفت لسبب لااحد يوضح لنا اسبابه، وان انهياره ولحظته "المظلمه" كما يسمونها، ليست من قبيل الحصيلة المؤقتة المرتبطة بحركة ومسار الاليات والبنية التاريخيه وقانونها، مايجعلها لزوما وحكما محالة من حيث الانتفاء والزوال الى عكسها ذاتيا، ولذات العوامل والأسباب التي ولدتها، او ـوهذا بديهي ـ لاشكال نوعية مستجدة منها، من جنسها وطبيعتها، هذا ونحن نظل نسمع دائما ونقرا صنوفا من التغني الفارغ بالماضي، العباسي، والتاسيسي السومري البابلي، انما من دون الذهاب للتساؤل عن تلك القمم الكبرى من زاوية ارتهانها لقوانين، لايمكن حتى، لابل وبحسب مفاهيم الغرب والحداثة ان تتحقق من دونها، قبل الانتقال الى السؤال المنطقي، لاعنها وعن عظمتها، بل عن الاليات الكامنه خلفها، ومدى احتمالية او انتفاء فعلها المفترض في الحاضر او المستقبل. الامر البديهي الذهاب اليه من قبل أي عقل يمتاز بالحد الأدنى من الاستقلاليه، والانتماء للمكان الذي ينطق عنه، وبالاصل امتلاك القدر اللازم والضروري من مقومات الادراكيه العقلية بحدها الأدنى، ناهيك عن الانتمائية التي هي هنا مرتكز عقلي واجب، وليس وجودي فقط.
فجاة تصير للعراق منطلقات وتاسيسات سردية "حداثية"،بداياتها المعروفه تعود الى القرن التاسع عشر، حين تبدا تلوح علامات "النهضة الزائفة" التي تحيل وترهن التحتي والبناء التكويني، للفوقي، ولاشكال من الاضطرارات الانية السلطوية /حالة داود باشا 1817 ـ1831/ (1) فاذا ببعض الصناعات الحربية البدائية، وشيء من أنواع الشعر بنكهة مستجدة، تصير بدء تاريخ حديث لارض مابين النهرين، لاغية تاريخيا اخراسبق، يزيد على القرنين من التشكل الحديث، المترسم للقوانين التاريخيه، ولحكم الدورات والانقطاعات التاريخي، الساري على هذا المكان من المعمورة، والمتضمن بالاجمال وكوحدة، صيرورة مسار الإفصاح عن مضمره الخافية المتعذرة، لا بالنسبة له هو بذاته، بل وللظاهرة المجتمعية على مستوى العالم.
ثمة جانب بارز يمكن لو توفرت الأسباب الضرورية العقليه وقتها ان يلاحظ لبروزه الفاقع، هو خاصية التكرار الامبراطوري ، الاكدي الافتتاحي على مستوى المعمورة، والبابلي، ثم الثالث العباسي، بما يستوجب التساؤل عن الرابط الذي يحكم وجود ارض الرافدين ونهوضها بالكيانيه الإمبراطورية شرطا، والامر هنا يلفت النظر الى الميل الحداثوي القائم على اعتماد صيغة "الدولة / الامه"، بشكلها الكاريكتوري، تقليدا لنموذج الغرب الحديث وكانه الصيغة المقررة من قبل التاريخ على البشر، واللازم بلا تفكير اعتمادها والرضوخ لاحكامها، هذا مع العلم ان نموذج "الإمبراطورية" لم يختف من الوجود مع صعود الغرب و"نهضته"، وبريطانيا الجزيرة الصغيرة كانت لها ممالك لاتغيب عنها الشمس، تذكر بقول هارون الرشيد "امطري حيثما تشائين فانت في ارضي"، أي ان الإمبراطورية كصيغة كيانيه رافدينه، ماكان هنالك مايمنع التساؤل عنها وعن مكانها اليوم، وعن احتمالية تلازمها التكويني الراهن متجددا كاساس، الا اذا ثبت ماينفي مثل هذا الاحتمال كاستثناء راهن، يستحق وقتها التعليل وإظهار الأسباب المنطقية المقنعه، التي بموجبها يمكن اليوم قبول، بدل المسارعة الى تبني نموذج الدولة الغربيه المركبه من خارج النصاب المجتمعي والكينونة التاريخيه، ومسارات التشكل الكياني الحديث بصيغتها التي فبركت عام 1921.
من اللازمات الحداثوية العراقيه أيضا، مايبديه من يمثلون هذا المنحى من حساسية إزاء النغمة التي تتردد أحيانا من قبل البعض، قائلة بان العراق الحدبث الكيان، اختلق من قبل الإنكليز، وانه لم يكن له وجود قبل ان تقام الدولة على يدهم عام 1921 منذ قرن بالتمام من الان، فيفصح هؤلاء تكرارا عن ردود فعل نافيه، ومصره على تكريس غربوية العراق الحديث نموذجيا، واندراجه البديهي تحت الوصفة الغربيه في الوطنيه والدولة، مع استبعاد كلي قاطع وسباتي عقلي، لايترك أي مجال من أي نوع كان، لتخيل احتمالية النموذجية الخاصة الإمبراطورية، وان في غير زمنها، بما انها ثابته ولازمه تاريخيه رافدينيه، لم يحدث للعراق ان شذ عنها يوما واكتمل تشكله من دونها.
لايمكن ومن المستحيل بعرف الحداثوية العراقية، التفكير او التطلع الى ماهو خارج عن الحدود ونطاق المسموح به غربيا، واليوم، وهو مايستدعي بالاصل ضعة ذاتيه، واستهانة بالذات، مع تصديق اكذوبة تخلفها قياسا الى القمة الغربيه وعظمتها، ولاشك ان من ينتمون للمدرسة المخزية المذكورة، يعتبرون من باب الجنون مااذهب اليه شخصيا من الاعتقاد بان بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وروسيا، لايمكلون، ولايحق لهم اعتبار انفسهم باي حال من الأحوال، وبالمقارنه استندادا الى المنجز التاريخي "الحضاري"، اعتبار العراق ادنى منهم، او يمكن ان يوضع في مكان اقل، مقارنة بهم، من اية زاوية كانت، وبقياسات القدم التاسيسي والافتتاح الاعقالي للوجود، ومجمل المسارات والتالقات الحضورية، واعود وأكررمتحديا بانني لااجد ان هنالك موضع في العالم يستحق موقع الصدارة في الحيويه والمنجز التاريخي، مثل ارض الرافدين.
وإذ انني أورد ماقد أوردته أعلاه، فانني لااتوقف عند اللحظة الراهنه، ومختلف جوانبها الكبرى والهامة الاستثنائية، بل اذهب ابعد، فاسمح لنفسي بان اعتقد بان المكان الذي اسمه ارض مابين النهرين، هو بذاته، بمكنونه ومنطوياته، المستقبل البشري، وان هذا الموضع ليس ملزما بالتوقف عند اللحظة الغربية، او ماتنطوي عليه من نموذجية، سواء اكانت تفكرية او سواها، بمعنى رفض فكرة جمود التاريخ والمسار البشري على الحالة او اللحظة الغربية الالية المصنعية البرجوازية، مع مجمل ماتمخضت عنه.
اكثر من ذلك ـ وهو ماسوف يعتبر من قبيل المبالغة التي سيستغلها الحداثويون التسقيطيون لاجل تبرير بلاهتهم الفكرية والذاتيه ـ فانني اعتقد بان الغرب وظاهرته الحديثة، هو عتبة ضرورية، ومحطة استهلاليه ضمن طور وحالة تحول كوني تاريخي، ليس الغرب المؤهل لكي ينقل البشرية اليها، او يحقق مقتضياتها التي هو غير معني بها كينونه، ولا مؤهل بنيويا لاجل إنجازها والذهاب صوبها .
الحداثويون الذين هم موضع الإشارة هنا، يتمسكون بمقولة "الخصوصيات المحرمة" كاحدى سياط الجلد، والاسلحه التي يستعملونها لكي يضعوا انفسهم بخدمة الغرب من موقع الانتماء للافضل والاحسن، والأكثر "تقدمية"، مقابل الرجعيات واحتمالات الانعزالية والنكوصية عن المجرى الأكبر للحاضر، وهم هنا انما يواصلون تكريس احتقار ذواتهم، عجزا وقصورا معيبا، هو من اكثر ظواهر العصر الذي يدعون الانتساب له مدعاة للوضع خارج دائرة وعالم العقل الحي، والبنية السليمه، الوجودية المكانيه المبرأة من مرض الضعة المركبه، مايجعل منها ومن تبيان حقيقتها ووطاة وجودها، لازمة لامعدى عنها، من ضمن الافتتاحية الضرورية قبل الانتقال الى الالتقاء بالكينونة والذات التاريخيه المطموسة، المتعذرة من جهه على العقل القاصر،والمهملة بقوة القصور العقلي الموضوعي.
ـ يتبع ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• المقال مكتوب لمناسبة مرور قرن على انشاء مايسمى "الدولة الحديثة " التي أقامها الإنكليزفي العراق عام 1921، مع استمرار غياب الرؤية والمفهوم الوطني العراقي، و تواصل هيمنة المفهوم الايديلوجي الحزبي للوطنية، المحايث ومن صنف الدولة المفبركة الحديثة.
(1) ذهب الكتور سليمان عبدالعزيز نوار الى تشبيه الوالي "داود باشا" بمحمد علي الالباني /المصري، راجع / داود باشا والي بغداد/ دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضربة إسرائيلية ضد إيران في أصفهان.. جيمس كلابر: سلم التصعيد


.. واشنطن تسقط بالفيتو مشروع قرار بمجلس الأمن لمنح فلسطين صفة ا




.. قصف أصفهان بمثابة رسالة إسرائيلية على قدرة الجيش على ضرب منا


.. وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير تعليقا على ما تعرضت له




.. فلسطيني: إسرائيل لم تترك بشرا أو حيوانا أو طيرا في غزة