الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كما رواه شاهد عيان: الخاتمة

دلور ميقري

2021 / 3 / 31
الادب والفن


بينما كنتُ أتساءل في نفسي، عما سيكونه مصيرنا أنا والأصدقاء عقبَ فك الحصار، جاء وصبفُ الحكيم وأمرني أن أتهيأ لمقابلة الباشا. بعد قليل، كنتُ في حضرة هذا الأخير. رأيته في مكانه المعهود بالديوان، لكنه هذه المرة كان جالساً وقد بدت الحيوية على ملامحه. كذلك كان الحكيمُ واقفاً، وبين قدميه صندوقٌ صغير، محلّى بالصدف والفضّة. خاطبني الجزّارُ، مشيراً إلى الصندوق بأصبعه: " ستنال مكافأتك، كما وعدتك، لو أنني انتصرتُ على المسيح الدجال! ". ثم أضافَ، مكشراً عن ابتسامة مريعة: " خذ المال وعُد فوراً إلى دمشق، والأفضل لو أنك تغادر الشرق نهائياً ". على الأثر، دفعَ الحكيمُ الصندوقَ برجله إلى ناحيتي: " هنا عددٌ من المجوهرات الثمينة، تساوي نحو عشرين ألف غرش "، قالها بصوتٍ فخم. عليّ كان أن أفاجئهما كلاهما، عندما تكلمتُ بعد طلب الإذن: " أرغبُ أن أفتدي بهذا المبلغ الأصدقاءَ الأربعة، الذين رُحّلوا معي من بيروت إلى عكا "
" سنطلق سراحهم دونَ مقابل، لو أنهم بقوا على قيد الحياة "، أجابني الباشا ثم أشار بيده أن أنصرف. حملتُ الصندوقَ وفكري في غاية البلبلة، ثم مضيتُ بأثر الحكيم. بمجرد أن أضحينا خارج قاعة الديوان، استفهمتُ منه عن مصير أصدقائي. استمر في المسير، وهوَ يهز رأسه الكبير بطريقة غامضة. لما وصلنا إلى مسكنه، التفتَ إليّ قائلاً: " نبلٌ منك، ولا ريب، أن تفتدي رفاقك بثروة كبيرة وضعت بتصرفك ". ثم أضافَ بنبرة تعبّر عن الأسف: " بالنسبة لصديقيك النصرانيين، كانوا منذ أيام ضمن دفعة من المعدومين، الذين ألقيت رؤوسهم من على السور بغيَة بث الرعب في أفئدة الفرنسيين ".
سألته بصوتٍ كامد وقد اغرورقت عيناي بالدمع: " وصديقي المسلم، السيّد خليل؟ ". كان قد تكلمَ بطريقة تعبّر عن اللامبالاة، لكنه حينَ رأى مدى تأثري، ليّن لهجته: " إنه بخير، وسيكون معك بعد قليل ". أردفَ وهوَ يضرب كفه على الصندوق، الذي أحمله: " لديك ثروة تضمن لك العيش برخاء، وأكررُ عليك نصيحة الباشا بالسفر فوراً من هذه البلاد المشئومة ". أفرخ روعي لما علمتُ بنجاة صديقي المسلم، وكان هذا الخبرُ أهم من كل ما عداه. غبَّ ذهاب الحكيم إلى أشغاله، بقيتُ في حجرتي متململاً لساعةٍ أخرى. لم يهدأ بالي إلا عندما حضر الوصيفُ، ليخبرني بالنبأ السعيد: " صديقك يغتسل في الحمّام، وسيكون هنا بعد قليل ". ثم تابع القول بلهجة عملية: " أمرني الحكيمُ بمرافقتكما إلى الميناء، لكي أخلّص لكما الإذن بمغادرة المدينة ".
وهوَ ذا يطل عليّ في الحجرة، آخرُ من تبقى لي من أصدقاء. تعانقنا طويلاً، وامتزجت دموعنا. كان قد تغيّرَ بشكل ملحوظ، بحيث برزت عظام وجنتيه. تجربة الاعتقال لم تكن سهلة، بالنظر إلى أن زنازين القلعة مبنية لكي تعجّل بموت زائريها. خوفاً من أن يكون أحدٌ يتنصت علينا من مكان ما وراء الجدران، فإنني اكتفيتُ بذكر حصولنا على العفو بمناسبة انتهاء الحصار. برهة أخرى، وحضرَ الوصيفُ ليقودنا إلى الميناء. تم ابلاغنا هنالك عن وجود سفينة انكليزية، ستبحر ليلاً إلى قبرص. أما السفينة المبحرة إلى بيروت، فإنها ستقلع صباحاً. كان بودي السفر صباحاً ليتاح لي التجوّل في عكا وكتابة انطباعاتي عن المدينة، التي صمدت أمام نابليون. لكنني لم أضمن غدر الجزّار، وفضّلت أن نسافر دونَ تأخير.
في ساعةٍ مبكرة من نفس الليلة، أبحرت بنا السفينة الإنكليزية والتي تبيّنَ أنها كانت مخصصة لنقل الأغذية إلى عكا في خلال الحصار ضمن أسطول منذور لنفس الغرض. ضمونا إلى حشدٍ من المسافرين، حشروا في بطن السفينة. كون الطقس في أوان الربيع المتأخر، لم نهتم نحن الصديقان لافتقاد المكان لأفرشة وبطاطين. هكذا جلسنا في زاويةٍ معزولة، ورحنا نتبادل الحديث بصوت منخفض. وما لبثت قصة المهدي المنتظر، أن سكبت كاملة في سمع السيّد خليل. عقّبَ على القصة، بأن ضربَ على ركبتي قائلاً بمرح: " لحُسن حظك أنّ الجزّار لم يكن خرفاً تماماً، وإلا لكان قد أعادك إلى الزنزانة ونسيَ وعده لك ". بقينا نتجاذب أطراف الحديث، لحين أن دهمنا النعاس في وقتٍ متأخر من الليل.
بمعونة من الريح الربيعية، وصلنا على وقت الأصيل إلى ميناء ليماسول في جنوب قبرص، وكان منظر المدينة قد تجلى لنا جميلاً عن بعد. هنالك في أحد المقاهي، أردتُ أن أتقاسم كنزي مع السيّد خليل، لكنه امتنع باصرار، قائلاً: " يُمكنك صرف إحدى المجوهرات، هنا في السوق، ثم أستدينُ منك ثمنَ الرحلة إلى ميناء بيروت ". وإنما في تلك الوهلة، دهمتني فكرة عدم العودة إلى دمشق ومغادرة الشرق بصورة نهائية. حقاً إنها كانت فكرة الجزّار، وأكّد عليها نائبه، لكنها سبقَ وداعبت ذهني حينَ كنتُ بعدُ في بيروت قبل اعتقالنا.
" سنفترق يا صديقي في هذه المدينة، ومن ثم أركبُ البحرَ في الطريق إلى البندقية "، قلتُ له بعدما صرفنا إحدى المجوهرات وعدنا إلى الميناء. توقفَ عندئذٍ كالمصعوق، وطفقَ يتطلع إليّ في إنكار. أردفتُ قائلاً: " ستُبلغ امرأتي أنني أنتظرها في البندقية مع ابنها، لنقضي العُمر بعيداً عن القلق من الاعتقال والبلص ". المفردة الأخيرة، مثلما سبقَ القول في مكان آخر، كانت شائعة الاستعمال في دمشق كتعبير عن الابتزاز.
قال لي صديقي، متسائلاً: " لكن كيف يمكنكم العيشَ كأسرة في مجتمع مسيحيّ، علاوة على اختلاف اللغة والعادات والأعراف؟ ". أجبته ببساطة: " مثلما أعتدتُ، أنا النصرانيّ الغريب، على العيش في مدينة مسلمة طوال عشرة أعوام "
" سأوصل رسالتك بكل تأكيد، ولو أنني أرجو أن تُراجع قرارك طالما ثمة وقت لذلك "، قالها بنبرة يغلب عليها الحزن والأسف. فطمأنته بأننا سنتواصل مستقبلاً من خلال المكاتبات، المرسلة على عنوان القنصل الفرنسيّ في بيروت. ظل معي لحين إطلاق السفينة صافرة التحرّك، وتعانقنا من ثمّ بنفس حرارة لقائنا عندما تخلّصنا من أسر الجزّار.

وصلتُ إذاً إلى البندقية في أواخر ربيع عام 1799، لأشهد فيها بعد بضعة أشهر احتفالات صاخبة وألعاب نارية بمناسبة حلول القرن التاسع عشر. قبل ذلك بعامين، ونتيجة الحرب بين ثوار باريس والنمسا، ضُمّت دوقيةُ البندقية إلى هذه الأخيرة مع نوع من الاستقلال الذاتيّ. هذا الأمر، جعل الدوقية أحدَ أهم مراكز اللاجئين الملكيين الفرنسيين. وكنتُ، بالطبع، محسوباً عليهم برغم أفكاري الليبرالية. وإنهم أقارب أمي، مَن راسلوا أسرتي الموجودة في لندن لإخبارها بعودتي إلى البندقية. فعلوا ذلك بشكل ماكر، كونهم بعد أشهر من مكوثي في المدينة، حدسوا بقلة اهتمامي تجاه امرأتي. وكانوا محقين في حدسهم، طالما أنني كنتُ في ذلك الوقت أنتظرُ مجيء امرأتي الأخرى، الدمشقية، مع ابننا. لكن واأسفاه!، جرت الأمورُ بشكل لم أكن أتوقعه.
الرسالة الأولى، التي وصلتني من كَوليزار في نهاية ذلك العام ( عن طريق القنصل في بيروت )، كانت مخيّبة لآمالي، ومن الحدّة ألا أجد الجرأة في إيرادها هنا بحرفية كلماتها. إذ اتهمتني بالخيانة، بسبب سفري إلى البندقية لوحدي مع أنني كنتُ قادراً على العودة إلى دمشق. كذلك وصفتني ب " المنافق "، كوني على يقين باستحالة قبولها العيش في مجتمع نصرانيّ غريب؛ وهيَ المرأة المسلمة. أكثر ما آلمني في الرسالة، قول صاحبتها أنها تعتبر نفسها مطلقة، وذلك استناداً إلى مادة في الدين الإسلاميّ عن الزوج الغائب. الشيء اللطيف، الوحيد في الرسالة ـ والمؤلم بنفس الوقت ـ إشارتها إلى ابننا وأنه يسألها باستمرار عن أبيه ومتى يعود من سفره. عليّ كان أن أرد بجواب على الرسالة، أضمّنه صدق عواطفي تجاه صاحبتها، كما وأضمن لها الاحتفاظ بدينها لو غيّرت رأيها وقررت اللحاق بي إلى البندقية. لكنني مزقتُ الخطابَ، ثم أعدتُ كتابته حاذفاً منه موضوع الدين. بيد أنني لم أستلم الرد على رسالتي، سوى بعد أعوام عديدة.
من ناحية السيّد خليل، كانت مراسلاتنا منتظمة ولو أنها أضحت في فترات متباعدة مع مرور الوقت. عن طريق هذه المراسلات، كنتُ أتابع تطورات الوضع في مدينةٍ محضتها الحب ( مع البندقية وباريس )، لدرجة ايثاري تمضية بقية عُمري فيها لو أن الظروفَ الموضوعية كانت ملائمة. كنا نستذكرُ وقائعَ حميمة فيما مضى من الأعوام، بالأخص سهراتنا مع الصديقين الرائعين، الراحلين جان وغابي، وبقينا نفعل ذلك إلى أن أضحينا بأنفسنا على شفا الرحيل عن العالم مع تقدّم العُمر. كذلك بقيَ صديقي متحمّساً لأفكار الثورة الفرنسية، بالأخص لما وصف لي في إحدى رسائله الانتفاضة الشعبية في دمشق على أثر وفاة الجزّار عام 1804؛ وكيف لاحق الأهالي، من بيت لبيت، أعوانَ ذلك الوالي الطاغية.
في حدود عام وفاة الجزّار، وصلتني الرسالة الثانية من كَوليزار، وكانت لهجتها رقيقة، تعبّر فيها عن غفرانها لي عما بدر من اساءة بحقها في الماضي. وقد أعلمتني أيضاً بزواجها من آمر قوات الدالاتية، المدعو " كنج الكرديّ "، وأنه قررَ تبنّي ابننا. أما الرسالة الثالثة والأخيرة، فإنها وصلتني بعد بضعة أعوام، لتخبرني فيها أنها أضحت وحيدة في منزلها بدمشق لا يؤنسها سوى وصيفتها جيهان: " زوجي، تسنّم منصب ولاية الشام لمدة عامين، ثم تم عزله كونه عجز عن تأمين حدود الولاية حينَ زحف الأعرابُ من جماعة الوهّابية ووصلوا إلى حدود حوران. لكنه تمرد على قرار الباب العالي، وبعد عدة معارك مع جيوش باشاوات الولايات المجاورة، اضطر للهوب إلى مصر وطلب حماية واليها محمد علي باشا. ابننا بقيَ معه، وقد حظيَ هوَ الآخرُ بعطف الوالي المصريّ، فسلّمه بعض الأعمال التجارية ". ثم اختتمت كَوليزار رسالتها، بعزمها على الحج كي يغفر الله ذنوبها. الجدير بالتنويه، أنها في أيّ من رسائلها الثلاث لم تلمّح مرةً إلى موضوع تحولي إلى الإسلام وما لو كنتُ قد عدتُ إلى مسيحيتي.
بيد مرتعشة بسبب الشيخوخة المتقدّمة، أخط الآنَ كلماتي الأخيرة، مختتماً هذا السفر، الذي كان منذوراً لوصف ما شهدته من أحداث عاصفة خلال إقامتي في المشرق لنحو عقدٍ من الأعوام. وأقول أنني بدَوري أعاني من الوحدة، بعد رحيل امرأتي في المنفى اللندنيّ، التي بقيت فيه مع أولادنا الثلاثة. لقد سبقَ واحترموا قراري بالاستقرار في البندقية، وكانوا يزورونني بين فترة وأخرى.
إنني أخترتُ كتابة هذا السفر باللغة العربية، لسببٍ خاص يصعب عليّ توضيحه. مع أنني أستبعدُ امكانية نشره ككتاب؛ مثلما حصل مع كتابي الآخر، الذي يدخل في خانة أدب الرحلات، وعنوانه " عشرة أعوام في المشرق ".
بدأتُ هذا السفر باسم الآب والابن والروح القدس، وأنهيه بالجملة الإسلامية المعروفة " تمّ بحمد الله ".
البندقية ـ ربيع عام 1821








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه