الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


،،الطاعون،، لألبار كامي أو الحرب ضد الموت

حاتم بن رجيبة

2021 / 4 / 4
الادب والفن


يروي الكاتب رواية الطاعون بشكل تسلسلي وكأنه صحفي يصف وقوع كارثة في مكان ما. خلافا لرواية الغريب أو الموت السعيد كان الوصف مقتضبا، فطغت الحركية و الفعل وكان ذلك مناسبا لوصف إيقاع الطاعون السريع و وصف ردة فعل الشعب من كفاح وسخط ومقاومة .

كتبت الرواية خلال الحرب العالمية الثانية أكبر كارثة في التاريخ المعاصر. حرب ضروس برز فيها قيء الإنسان بأبشع ألوانه وأقبح صوره وأنتن روائحه. فاختلطت روح الإنتقام بالطمع في خيرات وأملاك الغير بالرغبة في ترسيخ فكرة على فكرة بالعنصرية واحتقار الآخر وبالإستعباد والمجازر العرقية وبتصنيع الموت.

فلم يعد القتل انفلات في أحاسيس الحقد والإحتقار والغضب فقط وإنما أضحى صناعة متطورة تحكمها المعايير الرأسمالية والتقنية الحديثة: السرعة والنجاعة وقلة التكاليف. فمن زار معسكرات المحرقة يخال نفسه في مجزرة حديثة للدواجن والثيران أو في مصنع فولاذ وينسى أنه في هذا المصنع تنقل أرواح بشرية بالملايين لتتحول بتقنيات حديثة إلى رماد وصابون وحافضات نقود... !!! كما نقلت جثث الطاعون في وهران بالقاطرات إلى المحارق وكما غصت المقابر الجماعية بأجسام الأبرياء.

هذا ما فعله الطاعون في مدينة وهران التي هي رمز للحضارة الغربية الباردة و التي تطغى فيها القيم المنطقية والتقنية على القيم الإنسانية كالدفء الإنساني والتواصل المكثف والمؤازرة والتكاتف والرحمة والتعاون و الجمالية. فكانت مدينة خالية من الأشجار موالية ظهرها للبحر: للجمال و الإمتداد والنسيم العليل. فكأنها ترفض الطبيعة وتحرم عن قصد البشر من بعضهم البعض حتى لا يتكاتفوا ضد المستعبدين والظالمين، حتى ينسوا إنسانيتهم ويحولونهم إلى آلات باردة. فكانت المنازل كزنزانات السجون منغلقة ومتقوقعة لا تسمح بالتواصل بين متساكنيها. هذا النمط العمراني لازال متفشيا في البلدان الغربية المصنعة وأيضا في متروبلات بلدان العالم الثالث. لا أحد يهتم بأحد،، من بعدي الطوفان،، لأن لا أحد يعرف الآخر. كلها معارف سطحية وعيش كنكرة. فلا غرابة أن لايهتم الناس لجيرانهم اليهود والغجر والمثليين والمعارضين يسحبون كالجرذان من شققهم ويقادون بالملايين من كل أصقاع العالم ليحرقوا في محارق على أعلى طراز من النجاعة والتصنيع.،،وينبغي الإعتراف أن المدينة نفسها قبيحة...فكيف السبيل إلى تصور مدينة من غير حمام وأشجار ولا حدائق، كيف السبيل إلى تصور مكان محايد بكلمة واحدة!...و مواطنونا يعملون كثيرا ،و إنما من أجل الإثراء فقط،، فالإنسان الحديث يعيش ليعمل ولا يعمل ليعيش. يطمح أن يصبح ثريا، ليس ليتمتع بالحياة وليسعد بل للثراء فحسب. فالمال لم يعد وسيلة للسعادة بل الغاية والهدف. فيبقى تعيسا وعبدا للمال. ينهك نفسه ويموت دون أن يحيا. لذلك يكون خوفه من الموت عظيما. فمن لم يسعد في حياته يكون الموت أكبر كارثة بالنسبة إليه.

هذا ماحدث في بداية انتشار الطاعون في مدينة وهران: آلة الموت: الطاعون= النازية والفاشية بدأت بالأقليات المنبوذة من المجتمع، من الأغلبية،،النبيلة،،. بدأت آلة الدمار باليهود والغجر والمعاقين والمعارضين لسياسة النازية والفاشية كما بدأ طاعون وهران بحصد أرواح ،،جرذان المدينة،، يخرجون من السراديب والبالوعات والثقب يرقصون رقصة الموت بأنات وصرخات واخزة ليتفجر الدم من الخياشيم. يجمعون في صناديق أو يلقى بهم في الزبالة ليدفنوا أو يحرقوا بالبنزين تماما مثل ضحايا النازية : يحرقون في أفران عصرية ويذر رمادهم في الغابات في الليل الدامس. الجرذان هم رمز للمنبوذين: للأقليات: اليهود والغجر و الفقراء والذين لا ينتجون مثل المرضى نفسيا وعقليا وذوي الإعاقات...بدأ هجوم النازية باستعمار سكان أوروبا الشرقية مثل البولونيين والروس والتشيك: السلاف، رمز للجرذان بالنسبة للعرق الألماني الأوروبي الغربي الآري. الغرب ،،المستنير،، والمصنع والذي كان ولا يزال في أوج جنون العظمة واستعباد الآخرين ومحقهم.،، وقد كان مواطنونا في هذا الصدد مثل جميع الناس: كانوا يفكرون بأنفسهم. أو بعبارة أخرى كانوا إنسانين: إنهم لم يكونوا يؤمنون بالبلايا،،. lلبلاء كان في البداية عند الآخرين: السلاف والأقليات. لكن البلية لم تلبث عند ،،الجرذان ،، بل بدأت تطال الجيران الأقربين: فرنسا والسويد وهولاندا وإنجلترا، كما بدأت اليابان في محق الصين و كوريا وجيرانها الآخرين . لم يتدخل الفرنسيون والأنجليز والأمريكيون في بداية ،،الطاعون النازي الفاشي،، لإخماد الجائحة في مهدها بل تركوا الجراثيم الفتاكة تسطو على تشيكوسلوفاكيا ثم بولونيا وغيرها من بلدان أوروبا الشرقية دون أن يحركوا ساكنا، حتى وصلهم الطاعون وبدأ يتغلغل في كل حي ويطال كل عائلة، حتى يصل الدمار النازي كل البلدان الأوروبية والطاعون الياباني القارة الآسيوية،، ومن أجل ذلك يقول المرء لنفسه إن البلية غير حقيقية، إنها حلم مزعج وسيمر. ولكنه لا يمر. ومن حلم مزعج إلى حلم مزعج، يمر الناس أنفسهم، والإنسانيون من الدرجة الأولى، لأنهم لم يتخذوا حيطتهم...لقد كانوا يعتقدون أنهم أحرارا ، ولن يكون أحد حرا مادامت هناك بلايا،،. فالإنسان معرض دائما إلى الحروب والمجازر و الفظاعات لأن الشر والأنانية والجشع والحقد والصفات السيئة مزروعة في كل منا. مثل بكتيريا وفيروسات الطاعون والكوليرا والجدري والسل... منتشرة في كل مكان، تنتظر اللحظة المناسبة لتفتك بغيرها حتى تتكاثر هي.

الدكتور ريو هو الشخصية الرئيسية في الرواية. هو يناقض العديد من سكان المدينة، فهو غير منعزل على غيره، يزور الكثيرين ويهتم بصحتهم وبمشاكلهم يآزر من هم في مأزق، مثلا اهتم بكوتار الذي أراد أن ينتحر شنقا ولم يترك المحقق يقسو عليه فهو لم يكن مجرما وإنما كان في حالة نفسية صعبة وأزمة إنسانية قاسية. هو يرى الحقيقة عارية فلا يريد إخفاء البشاعة و غض النظر عن البلايا . يريد أن تسمى الأشياء بأسمائها: الطاعون كطاعون والعنصرية كعنصرية... فعندما أراد الصحفي أن يحاوره في شأن الرعاية الصحية ،،لعرب ،، الجزائر، طلب منه ريو إما أن ينقل آراءه دون تغيير وتحفظ أو أن يمتنع عن الحوار. أراد أن يعرف أوضاع العرب أيام الإستعمار الفرنسي للجزائر كما كانت فعلا: كارثية من ازدراء وعنصرية واحتقار وإهمال.فقال الدكتور ريو يصف نفسه،، إنه عازم على أن يرفض من جهته الظلم والإمتيازات،،.

على أن الدكتور لم يكن من مسيري المدينة ، لم يكن صاحب قرار، لا يستطيع أن يدق ناقوس الخطر في الوقت المناسب، قبل أن تستفحل البلية، قبل أن يستفحل الطاعون، قبل أن تقوى النازية أو قبل أن تقوى الحركات العنيفة والمتطرفة الدينية والعرقية والإيديولوجية،،فمن الصحيح أن كلمة طاعون قد لفظت ومن الصحيح أن الوباء كان يهز في الدقيقة نفسها ضحية أو ضحيتين ويرمي بهما أرضا...وما كان ينبغي عمله: صرف الأشباح التي لا طائل من تحتها و اتخاذ التدابير الملائمة. وبعد ذلك يقف الطاعون،،. كان الخوف من البلبلة والفوضى كبيرا، أن ينتشر الهلع والخوف. كما كان الخوف والهلع لدى القوى الديمقراطية العظمى من الدخول في حرب مع الفاشية، فتلاعب بهم الشيطان هتلر كما شاء، ابتزهم لجبنهم ، و لو جوبه في البداية قبل أن يشتد عوده لما كانت الحرب الكبرى والمجازر الهائلة،،القضية هي معرفة ما إذا كان الطاعون أم لا! أما المحافظ فالتفت بصورة آلية إلى الباب كأنما ليتأكد أنه حال من انتشار هذه الكلمة الفظيعة في الممرات...فالقضية قضية حمى ذات تعقيدات أربية، و هذا قصارى ما يمكن قوله،،.

أما الدكتور ريو فإنه اعتبر تسمية الكارثة سيان، المهم هو إيقاف الموت والدمار، فسيان أن نسمي البلاء: فاشية أو سلفية أو يميني متطرف أو أقصى اليسار أو سلطة الحماية...المهم ماذا تبغي هذه الحركات وكيف يمكن إيقاف انتشارها لأنها عدوة للحياة والسعادة،،وعلى ذلك يبقى سيان أن تسموه طاعون أو حمى متفاقمة. فالمهم فقط أن تحولوا بينها وبين أن تقتل نصف المدينة...فليست هي قضية مفردات لغوية و إنما قضية وقت ،،.

إلى أن أعلن رسميا أن الطاعون استفحل. فتبين الجميع أن الخطر الحقيقي والفاجعة الأعظم ليس الموت بل العزلة عن الآخرين وعدم التواصل. تبين الجميع أن الحياة دون حرارة القطيع مرة وتعيسة، دون الدفء الإنساني باردة وبغيضة. كما العزلة عن العالم الكبير، النفي والسجن،،فإننا كنا نشبه أولئك الذين كانت العدالة أو البغضاء البشريان يجعلانهم يعيشون خلف القضبان الحديدية،،.

في خضم أتون الوباء وبينما كان السكان يحاربون الفناء والألم والفراق و النفي والعزلة والرعب برز من استغل ذلك لصالحه مثل المحتكرين ورجال الدين= الكنيسة . فالراهب صور الطاعون كعقاب الرب للعباد لقلة ورعهم وابتعادهم عن تعليم وحضن الكنيسة وانغماسهم في ،، السعادة،،. فالدين يتغذى من الترهيب و الخوف مثل السلطان، فكلما زاد شقاء الشعب زاد تعلقهم برجال الدين، فالكهنة والأيمة يعملون جاهدا على غرز الشعوور بالإثم لدى البشر ويكون السلطان الذي يقودونهم به إلى الخضوع والإنتكاس وتقبل الفقر والظلم وعدم المساواة بصدر رحب. لذلك كان رجال الدين دائما حلفاء الطغاة،، وقصارى ما في الأمر أن العظة قد زادت وعي بعض الناس لفكرة غامضة لحد الآن ، هي أنه كان محكومة عليهم ، من أجل جرم مجهول، بحبس لا يتصور،،.كما أن الدين لا ينفع لمجابهة المشاكل والبلايا، فمجابهتها تحتاج إلى العقل والعلم والعمل،، أجاب(الدكتور ريو)أنه لو كان يؤمن بإلاه قدير لكف عن شفاء الناس ، تاركا له هذا الأمر...في الوقت الحاضر أمامنا مرضى و يجب شفاؤهم . و فيما بعد سيفكرون، و أنا أيضا،، فالإلاه عاجز أمام المصائب والمحن لأن الله غير موجود، هو كذبة وحماقة.

وبين ريو الذي هو الناشر لفلسفة ألبار كامي المؤلف أن هدف ومعنى الحياة هو الحياة، هو العيش السعيد وأن عدو الإنسان الأول يبقى الموت، نهاية الحياة، من يوم بداية نبض الحياة فينا ننطلق في الكفاح من أجل البقاء، بغريزة جبارة متأصلة في كل المخلوقات، وكلها تحارب الفناء. البشر يعلمون أن الموت أكيد وأنه من العبث محاربته لكنهم، لغريزة أقوى من إرادتهم، يكافحونه. يعلمون بعبثية الوجود لكن يصرون عليه ويحبونه وهذا ما يطلق عليه كامي لفظ،، الأبسورد،،(لكن انتصاراتك(ضد الموت)ستكون دائما مؤقتة...دائما، أعرف ذلك. لكن هذا لا يبر وقف الصراع). فكون الحياة بلا معنى لا يدفعنا ذلك إلى الإنتحار . بل إن الموت يحثنا أن نسعى لتحقيق حياة سعيدة، فلماذا الخوف من الموت إن كان قدرا محتوما، فلنعش ونسعد ولا نترك أحدا يستغلنا ويظلمنا ويسبب لنا الشقاء. هذه هي الوجودية، حسب فكر كامي، والدكتور ريو هو الناطق بها في الرواية. مثلما فعال النازيون من تصنيع صناعة الموت فعل أهل وهران، فكلما زاد عدد الموتى لجؤوا إلى أساليب أنجع للتعامل مع الجثث. فكانوا يدفنون فرادى ثم في مقابر جماعية منفصلة لكل جنس ثم مختلطة، إلى أن أصبحوا يحرقون في الأفران. وبعد أن كانوا يحملون فرادى في سيارات الإسعاف أصبحوا يحملون أكواما ثم سخرت قاطرات الترام. هنا تصبح رمزية آفة الطاعون للحرب العالمية الثانية جلية. فالنازيون أصبحوا أمام الأعداد الهائلة من ضحاياهم مجبرين على نقلهم بالقطارات وحرقهم بعد أن كانوا يدفنون في أخاديد، وبعد أن كانوا يقتلون بالبنادق أصبحوا يجمعون في قاعات فسيحة ليختنقوا بالغاز، بعد إيهامهم أنهم سيستحمون.

فالطاعون هو رمز لمجازر الحرب، رمز للموت العشوائي و العبثي . والكفاح ضد الطاعون هو رمز للكفاح ضد الموت والشقاء. والموت لا يعني أن يتوقف القلب عن النبض بل يعني توقف السعادة. حياة في الشقاء ليست حياة بل موت. فنحن عندما نتآزر لنحارب كل أشكال الظلم والإستغلال والتفقير والغطرسة إنما نحارب الموت. فأي قيمة لحياة سمتها البؤس أو الإنشغال بتجميع المال والممتلكات واحتقار الآخرين ومص دمائهم. الحياة لا تكون سعيدة إلا إذا كانت وسط القطيع بحرارته ودفئه، متى شعرنا باحترام الغير لنا ومتى كنا منصهرين مع الجماعة نفيد ونستفيد. و كفاحنا لا يجب أن يكون لأن تنتصر فكرة أو شخص أو دين أو عرق أو لغة...بل أن نكون سعداء وفي رغد من العيش وبكرامة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/