الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموقف من الورقة البيضاء - رؤيا عمالية لسياسة التثبيت والتكييف الهيكلي للإقتصاد في العراق

فلاح علوان

2021 / 4 / 4
الادارة و الاقتصاد


المقدمة
صدر قبل بضعة أشهر نص ما عرف بـ "الورقة البيضاء"، وهي وصف شامل للسياسة الإقتصادية والمالية والنقدية، وقد تناولت مجمل البنيان الإقتصادي في البلاد، في شكل الإقتصاد المخطط الذي ساد لمرحلة، والوضع الراهن، مع وصفة لتعديل هيكلي شامل وجذري بإتجاه التحول الى القطاع الخاص وتغيير دور الدولة في الإقتصاد. وقد اعتُبِرت الورقة، ضمنا،ً تشريعاً يجري العمل بموجبه، وإصدار الأحكام والقوانين والتعليمات والتوجيهات المطابقة لماء جاء فيه.
وحسب ما جرى تداوله، فإن أربعين خبيراً إقتصادياً قد شارك في صياغة الورقة، بحيث جاءت تعبيراً إقتصادياً مكثفاً عن السياسة العامة الإقتصادية، التي تعتزم الحكومة تبنيها، أو الأحرى تنفيذها، بعد أن عملت وفقها لسنوات كتوجيهات عمومية من المؤسسات المالية العالمية.
إن توقيت إصدار مشروع الورقة البيضاء جاء في خضم جائحة كورونا، والإنكماش الإقتصادي المحلي والعالمي، وتراجع أسعار النفط، وتراجع أو الأحرى الإخماد الدموي، للإحتجاجات التي إمتدت لعدة أشهر بالضد من السياسات الحكومية، والبطالة والإفقار وتردي الخدمات والفساد. وكان صدور الورقة بإسم الأصلاحات، بل بإسم موجة التظاهرات ومطالبها.
يستهل أصحاب المشروع، الذي يقدمونه عبر الورقة البيضاء طروحاتهم، بضرورة توفير إيرادات للدولة التي تعاني من نقص في الموارد المالية، وخلال فصول الورقة، يعرضون الطريقة التي سيجري عبرها تأمين هذه الإيرادات.
والمقصود بالايرادات لم يكن لسد نقص هنا أوعجز في هذا الجانب أو ذاك، بل يتضح من خلال سياق النص، إن الغرض هو تأمين نوع من تراكم أولي رأسمالي، لتعزيز قدرات القطاع الخاص وتقويته مالياً، عبر تحويل المال العام الى ملكية للمستثمرين. والتراكم الأولي، عبر كل التاريخ وفي كل البلدان، جرى ويجري بطريق الاستيلاء وتحويل الملكيات والنهب والإستحواذ، واستخدام كل الوسائل القسرية والملتوية وبأساليب غير الأساليب الاقتصادية المعروفة في تأمين الربح والفوائض.
ويتردد تعبير نقص السيولة ونقص الإيرادات الناجم عن تراجع أسعار النفط، باعتبارها الدافع الأساسي وراء الإصلاح المالي والإقتصادي. ويضيف أصحاب الورقة عاملاً آخر يعتبرونه من أسباب الأزمة، هو وجود القطاع العام كعائق أمام تطوير القطاع الخاص، ويؤكدون في أكثر من مناسبة على كون الحل هو في الاستثمار والخصخصة وتصفية القطاع العام.
قبل طرح الورقة البيضاء بسنوات، جرى طرح موضوع الاصلاح الإقتصادي وإعادة هيكلة الإقتصاد، وهو يكاد يطابق ما جاء في الورقة البيضاء، ولكن ذريعة التوجه الى الخصخصة وبيع الشركات يومها، لم تكن نقص السيولة ونقص العائد المالي، بل على العكس، فقد كان مصطلح زيادة الريع وزيادة الفائض، هي الذريعة التي أطلقها أصحاب مشروع الإصلاح الذي جرى طرحه في أيام الذروة المالية، وكان الهدف واحد، وهو الإستيلاء على الفوائض وتحويلها الى تراكم رأسمالي.
وينتهي كل مقطع بل كل تعبير رئيسي في فصول الورقة، بعبارة تطوير القطاع الخاص، مما يشير بوضوح الى سيطرة الهدف الأساس وهو الخصخصة، بصورة استحواذية على لغة الورقة.
إن كل متن الورقة مصاغ بطريقة تنتهي بإعلان فشل القطاع العام، وضرورة التحول الى الإستثمار في القطاع الخاص، دون تقديم أي تبرير أو سند علمي لطرحهم، بإستثناء الإشارة الى مجموعة شركات عامة غير رابحة في العراق، وهي التي جرى تعطيلها بصورة مقصودة طيلة ما يقرب من العقدين من الزمن.
ويتأرجح أصحاب الورقة بين الإدعاء الأول وهو الأزمة المالية في العراق، والتي تؤكد كل المؤشرات والوقائع الحالية على إنحسارها وإرتفاع التدفقات النقدية. وإدعاء كفاءة وقدرة القطاع الخاص على حل مسألة التراكم والتشغيل في العراق، دون إستخدام مؤشرات ومعايير إقتصادية لإثبات طرحهم، عدا عن تصريحات مسؤولي البنك الدولي وصندوق النقد العارية عن الصحة، والتي يجري تداولها على طول سرديات الورقة البيضاء.
إذن النقطتين المحوريتين في النص هما، الأزمة المالية، وخصخصة القطاع العام والتحول الى الإستثمار والقطاع الخاص. ويكاد أن يكون كل ما في الورقة هو حشو وتوليف لغرض تمرير هذين المحورين بلغة اقتصادية. وكلا المسألتين تقعان في نطاق الإقتصاد السياسي، ولا يمكن الإجابة عليهما في إطار مفاهيم الإقتصاد الأكاديمي، أو الحديث عن الجدوى الإقتصادية لهذا المشروع أو ذاك. ويشكل العراق النموذج الأجلى في تأثير السياسة العالمية والإقليمية على توجيه الإقتصاد فيه.
وسيكون محور "الموقف من الورقة البيضاء"، هو نقد تلك الخطوط الأساسية للورقة ، من منظور نقد النيوليبرالية إنطلاقاً من نقد الاقتصاد السياسي الرأسمالي، بإعتباره مصدر الأزمات، وبإعتبار الاستثمارات الرأسمالية هي أساس كل الأزمات والمصاعب التي تمر بها المجتمعات. وسيجري التصدي لتفاصيل وفقرات المشروع، وليس فقط نقد التوجه العام للورقة والبرهان على عدم علمية وموضوعية طروحات أصحابها.
إن كل فصل من فصول الورقة يتناول ركناً من أركان الاقتصاد في العراق، يجري الإعداد للاستحواذ عليه وتحويل ملكيته.





تمهيد
جاء في مقدمة الورقة البيضاء المقطع التالي:
“إن هذه الورقة البيضاء تتضمن التقرير النهائي لخلية الطوارئ للإصلاح المالي، والتي تشكلت بموجب قرار مجلس الوزراء رقم (12) المتخذ في جلسته بتاريخ 12 أيار 2020 بهدف إدارة الوضع المالي في ضوء الأزمة المالية الراهنة، ووضع الحلول اللازمة لتحقيق الإصلاح المالي وتحسين أداء المؤسسات المالية". وقد إضطلعت الخلية بوضع برنامج الإصلاح الإقتصادي الذي نص عليه قانون الإقتراض المحلي والخارجي رقم (5) لسنة 2020، بهدف إعادة هيكلة الإقتصاد العراقي لمواجهة التحديات المقبلة." إنتهى الإقتباس.
في حين جاء في الصفحة 2: "إن تنفيذ الإصلاحات لم يعد من الممكن تأجيله أو ترحيله".
هذا إقرار بأن الورقة تعبر عن مشروع سابق، جرى تأجيله أو تأخيره لسبب أو لآخر، وبالتالي فهي ليست وليدة الأزمة المالية الطارئة. وهذا تناقض مع المنطلق الأساس الذي ورد في الفقرة الأولى، والذي يدعي إن الورقة هي للاجابة على الأزمة المالية الحالية.
أنْ تبدأ أخطر ورقة إقتصادية تمس حياة عشرات الملايين من الناس، بإدعاء عار عن المصداقية، فهذا يعني إن ما هو أمامنا ليس أقل من مصيبة.
كيف؟
إن إعادة هيكلة الإقتصاد قد جرى إقرارها في أوج أيام الوفرة المالية، وطرحت الورقة الاقتصادية لمستشار رئيس الوزراء المالكي يومها*، وهي تتضمن نفس الاهداف الواردة في هذه الورقة، ولكن صاحب الورقة السابقة كان على العكس، يقول للتخلص من الريوع الفائضة التي تسبب تشوهاً في هيكل الأسعار.
وقبل ورقة مستشار المالكي، كان الاتفاق على سياسة صندوق النقد والبنك الدولي أوائل العام 2004، أي في أيام رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، يتضمن نفس مضمون الورقتين تماماً.
إذن، كان على أصحاب الورقة التحلي بالمصداقية والموضوعية أولاً؛ قبل أن يسعوا الى تعميم آرائهم، ووضعها في قالب إقتصادي، ولغة مصطنعة في أغلب مواضع النص. والحال فإننا سنتصدى للورقة أياً كانت لغتها وذرائعها وحججها.
في الحقيقة لم يكن الدافع هو نقص السيولة، ولا وفرة الريوع، ولا وجود أزمة نقدية. الحقيقة هي إن ثمة مشروع لخصخصة وهيكلة القطاع العام، وهو جزء من سياسة عامة موضوعة ومصاغة، بل إن السياسة العامة والنظام السياسي في العراق قد جرت صياغتهما للتطابق مع هذا المضمون الإقتصادي. إن أزمة السيولة بدأت بالتراجع بينما نحن بصدد كتابة هذا الرد، وأرتفعت أسعار النفط الى أكثر من ضعف، غير أن إدعاءات أصحاب الورقة باقية كما هي.
إن هذه السياسة جزء من سياسة عالمية إمبريالة، تقودها الاحتكارات الرأسمالية التي تسيطر على السوق العالمية، والتي تواجه أزمة إقتصادية لا نهاية لها. وهذه الأزمة تتراجع حيناً لتتصاعد وتتوسع بصورة أشد أحياناً اخرى. وقد كان إحتلال البلاد وتغيير قوانينه وسياساته الإقتصادية، هو جزء من سياسة عالمية فرضتها مجريات الأزمة، ومتطلبات إعادة إنتاج عملية التراكم البدائي، والتي يتطلبها بدوره مجرى عملية تحقيق الربح ودورة رأس المال. إن النظام الحالي سواء برلمانه أو حكومته هو منفّذ هذه السياسة.
لقد سلكت الحكومات المتعاقبة في العراق منذ 2003، سلوكاً مخططاً مغرضاً منذ أيام علاوي، وكان إيصال المجتمع والوضع الاقتصادي والسياسي الى هذه المرحلة ولا زال، هو مهمتهم وسياستهم، ولهذا الغرض هم موجودون. وإذا كانوا واثقين من أنهم وضعوا المجتمع أمام "أمر واقع" لا يمكن الخلاص منه، وإن سياساتهم نجحت خلال 18 سنة من الخراب وسلب حقوق الجمهور، في سلب إرادة المجتمع وخاصة الطبقة العاملة والكادحين، وفرضوا عليها واقع حال، فهذا مخالف للحقيقة. إذ إن التصدي لهذه السياسة أصبحت مسألة حياتية للناس، حتى لمن هم خارج الإهتمام بالشؤون السياسية. لقد دخلت سياسة صندوق النقد والبنك الدولي الى مطبخ الفقراء وقوتهم والى جيوبهم. ولم تعد مواجهة هذه السياسة تقتصر على الأبحاث النظرية التخصصية. لقد أصبحت مسألة حياة أو موت.
الى جانب الورقة البيضاء وبالتزامن معها، طرح مشروع "قانون الشراكة بين القطاع الخاص والعام". وهو يهدف الى جعل مجموع الصفقات والنهب والاستيلاء على الممتلكات العامة، قانوناً، وتصبح المافيا والعصابات التي كدست المليارات خلال سنوات، أصحاب أعمال ورأسماليين قانونيين، وتصبح أموال الرشاوى والصفقات الوهمية رؤوس أموال مصرفية، ويصبح المعارض للنهب متهماً ومطارداً.
هكذا تجري الأمور بالفعل؛ وسنحاول البرهنة على هذا في ما سيأتي من عرض ونقد لمواد الورقة ولقانون الشراكة.
ومثلما يشرع خبراء الحكومة بترجمة طروحاتهم وأبحاثهم الى لغة القرارات والسياسات الإقتصادية، فإن ممثلي الجماهير من ناشطين وإقتصاديين وسياسيين، سيصوغون أجوبتهم النظرية وسيترجمونها الى سياسات وممارسات حياتية يومية.
وفي الوقت الذي تمتلك السلطة عديد الاقتصاديين الذي يضعون المصالح السياسية والاقتصادية للنظام، في قالب نظري، ويبررون كل سياسات الحكومة مهما بلغت بشاعتها، عبر التلاعب بالمنطق وإستخدام الجداول الاقتصادية والمنحنيات والرسوم التي يفهمها المتخصصون. فإن الطبقة العاملة اليوم تمتلك مفكريها وناشطيها، بدرجة ما، والذين يطرحون مسائل نظرية بصورة أوضح وأصدق مما يطرحه ممثلو النظام، ولكنهم بحاجة الى بلورة تصور نظري واضح وناضج، وتطوير الثقة بالنفس، وطرح بديلهم للمجتمع.
*- جرى طرح مشروع الإصلاح الإقتصادي والتعديل الهيكلي في ما عرف بـ ورقة الإصلاح التي صدرت بإسم مستشار رئيس الوزراء الإقتصادي "عبد الحسين العنبكي" عام 2011.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ينبغي تسميتها -الورقة السوداء-!
طلال الربيعي ( 2021 / 4 / 4 - 21:42 )
الرفيق العزيز فلاح علوان
كل الشكر على هذه الورقة المفصلة والممتازة, التي تعري سياسات الطغمة الكومبرادورية الحاكمة في العراق كتابع ذليل للرأسمالية العالمية ومؤسساتها مثل صندوق النقد والبنك الدولي.
إن ما يسمى الورقة البيضاء هي لطخة عار في جبين السلطة وستساهم بالتأكيد في المزيد من افقار الشعب وتبعية الوطن للإمبريالية العالمية.
ولهذا ينبغي, منطقيا على الأقل, تسميتها, بدل الورقة البيضاء, -الورقة السوداء-!
مع وافر مودتي واحترامي


2 - رفيقي العزيز الدكتور طلال الربيعي
فلاح علوان ( 2021 / 4 / 5 - 15:40 )
رفيقي العزيز الدكتور طلال الربيعي المحترم
شكراً لمداخلتك وإهتمامك.
يسعدني كون النص ترك لديك انطباعاً جيداً.
هذه مقدمة النص الذي يتألف من أكثر من فصل، وسأنشره على 4 أو 5 حلقات، تشكل بمجموعها الموقف من الورقة البيضاء، وهو الإسم المضلل الذي وضعه إقتصاديو الحكومة أو النظام لسياسة التكييف والتعديل الهيكلي التي يفرضها صندوق النقد، وتنفذها الحكومة، والتي ستترك آثاراً كارثية على المجتمع.
أتمنى أن يتسع وقتك للاطلاع على باقي السلسلة التي ستأتي تباعاً.
تقبل تحياتي
فلاح علوان


3 - الغارديان اكثر شيوعية من شيوعيي العراق!
طلال الربيعي ( 2021 / 4 / 6 - 20:34 )
الرفيق العزيز فلاح علوان
ان السياسات النيوليبرالية للسلطة في العراق هي ليست عشية اليوم, بل انها نتاجات لقرارات مجلس الحكم برئاسة بريمر والتي لا تزال نافذة المفعول والتي صادق عليها كل اعضاء مجلس الحكم وبضمنهم ما يسمى الحزب الشيوعي العراقي. ولم يسع اي طرف من الاطراف في العملية السياسية او خارجها, وخصوصا من قوى تسمي نفسها يسارية وشيوعية الى تعبئة الجماهير من اجل الغاء هذه القوانين التي تشكل جذر الكوارث والمشاكل, وهذا يعكس حقيقة ان هذه الاحزاب والقوى السيارية والشيوعية تسعى الى معالجة اعراض طاعون النيوليبرالية فقط والسلوك كخبير لتجميل قباحات الرأسمالية المتوحشة, اي انهم يسلكون سلوك -الليبرالية!- التي تسعى الى إضفاء طابع انساني على الرأسمالية ولكنهم في حقيقتهم يسلكون سلوك الطابور الخامس ويكرسون من وحشية وفاشية النيوليبرالية.
Neoliberalism is Fascism with Better Manners
https://www.counterpunch.org/2021/01/15/neoliberalism-is-fascism-with-better-manners/
يتبع

اخر الافلام

.. محافظات القناة وتطويرها شاهد المنطقة الاقتصادية لقناة السو


.. الملاريا تواصل الفتك بالمواطنين في كينيا رغم التقدم في إنتاج




.. أصوات من غزة| شح السيولة النقدية يفاقم معاناة سكان قطاع غزة


.. عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الخميس 25-4-2024 بالصاغة




.. بركان ثائر في القطب الجنوبي ينفث 80 غراما من الذهب يوميا