الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسألة وجود الله-2- معضلة الالحاد

طوني سماحة

2021 / 4 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


محنة الوجود (The Human Predicament) هي معضلة الإنسان المعاصر. منذ بدايات عصر التنوير والإنسان يسأل أسئلة مصيرية مثل "من أنا"؟، "من أين أتيت"؟، "ما الغاية من وجودي"؟، كيف ابتدأت الحياة"؟ "هل هناك حياة بعد الموت"؟ "هل الله موجود"؟

قفز الإنسان المعاصر من القفص الذي بناه رجل الدين الى قفص آخر بناه الفيلسوف. لكن هذه القفزة لم تكن دون ثمن وإن حررت الإنسان أحيانا من سلطة رجل الدين. كان الإنسان الذي عاش في القرون الوسطى يصدق كل ما يقال له عن أمور الدين دون سؤال، كما أنه كان يتعامل مع رجل الدين على أنه ممثل الله على الأرض. في القرن الخامس عشر، اخترع غوتنبرغ المطبعة وثار مارتن لوثر في ألمانيا على النظام الديني المتمثل بالبابوية. كان لهذان الحدثان أثر عميق في التاريخ. سمحت مطبعة غوتنبرغ بانتشار المعرفة التي كانت قبلا حصرا على رجل الدين الذي كان يستخدمها أحيانا لمصلحته الخاصة، وأظهرت ثورة مارتن لوثر الدينية أن المساءلة الاجتماعية ممكنة حتى لو كانت موجهة ضد رجل الدين. أدى ازدياد المعرفة الى طرح اسئلة وجودية عميقة ساهمت بعد قرون طويلة الى فصل الدين عن الدولة وتغيير منظومة القيم الاجتماعية والدينية والسياسية والروحية في أوروبا أولا وفي العالم ثانيا.

نقل عصر التنوير أوروبا تدريجيا من الإطار الديني للقيم الروحية والاجتماعية الى المفهوم العلماني، ومهد لفصل الدين عن الدولة. أدت الأفكار الجديدة التي طرحها الفيلسوف في الشارع الى تراجع دور الكنيسة في المجتمع واستبدال قيمها بأخرى أكثر حداثة. من بين اولئك الفلاسفة الذين أثروا في بروز أفكار اجتماعية ثورية نذكر باروخ سبينوزا (Spinoza Baruch) هولندا (1632-1677)، دنيس ديدرو (Denis Diderot) فرنسا (1713-1784)، وديفيد هيوم ( David Hume) اسكوتلندا (1711-1776). أدت أفكار هؤلاء الفلاسفة وغيرهم بجرأتها الى الإعلان رسميا عن موت الله على يد الفيلسوف فريدريك نيتشه (Frederic Nitzsche) ألمانيا ( 1844-1990) الشهير بعبارة God is Dead”" (موت الله او لقد مات الله). أثر نيتشه في القرن العشرين بعدد من الادباء والفلاسفة الذين اسسوا للتيار الوجودي (Existentialism) مثل جان بول سارتر ( Sartre) وألبير كامو (ِ Albert Camus) وبعده للآلحاد الجديد الذي أكثر من يمثله اليوم هو العالم البريطاني ريتشارد دوكنز (Richard Dawkins).

لم تأت الأفكار الالحادية الحديثة دون ثمن. فلقد أدرك نيتشة منذ البداية ، وهو الملحد، أن انهيار القيم الاجتماعية المسيحية ستترك أثرا سلبيا وفراغا في المجتمع قد يصعب ملؤهما أو التعويض عنهما. كانت المسيحية، قبل الالحاد، قد رسمت للرجل الاوروبي على مدى ألف وخمس مائة عاما هويته وقيمه وعاداته وتقاليده وفلسفته. لكن ومع إعلان موت الله وجد الانسان أنه فقد هويته، فأخذ يبحث عن البديل. ومع زوال الله من الصورة، أدرك الانسان ان البديل الذي كان يحلم به قاده للتيتم والوحدة في عالم شاسع ومتضارب الأطراف. في هذا العالم الذي لا حدود له، ليس الانسان اكثر من قشة او غبار، وحياته محدودة بزمن قصير وضئيل ومعتم لا يخلو من شبح الموت وألم التعاسة وقسوة المرض وحدة الاكتئاب. زد على ذلك ان الحياة في هذا القفص الجديد خاليه من اي معنى او غاية أو هدف أو قيمة. في هذا العالم الجديد يفتقر الانسان لاي مرجعية سامية وموضوعية مما يؤدي الى اختلاط مفاهيم الخير والشر وضياع الهدف وزوال القيم والتباس الاهداف وتراكم اليأس والتعاسة. هذا ما دفع الفيلسوف "ل د رو" ((L D Rue في خطابه أمام الاكاديمية الامريكية لتقدم العلوم، عام 1991 بالقول أننا نخدع أنفسنا "بأكذوبة نبيلة" (Noble Lie) لاعتقادنا أن للإنسان او للكون قيمة أو أهمية تذكر (نقلا عن Reasonable Faith/ Dr William Lane Craig).

هذه المعضلة الروحية والاجتماعية عبر عنها الفيلسوف الالماني فريدريك نيتشه (Frederic Nietzche) في مقولته "لقد مات الله" أو "موت الله" (God is dead). في روايته “هكذا تكلم زرادشت” (Thus spoke Zarathustra) “، يجوب االمجنون في الصباح الباكر شوارع المدينة حاملا مشعلا وصارخا بأعلى صوته "أنا أبحث عن الله، أنا أبحث عن الله". كان صراخ المجنون باعثا لسخرية وضحك سكان المدينة الذين كانوا بمعظمهم فاقدي الايمان. وقف المجنون في وسط المدينة وأخذ بالصراخ "أين ذهب الله؟ دعوني أقول لكم أننا قد قتلناه. نحن جميعا قتلة الله. لكن كيف ترانا صنعنا هذا الامر العظيم؟ كيف استطعنا ابتلاع البحر؟ من أعطانا الاسفنجة التي محونا بها وجه الأفق؟ ماذا فعلنا عندما فككنا ربط الارض والشمس؟ أين ترانا نذهب الآن؟ وكيف نبتعد عن كل الشموس؟ ما الذي يمنع الآن ان يصطدم واحدنا بالآخر من الامام والخلف؟ من كل الاتجاهات؟ هل ما زال هناك عمق وعلو؟ ألن نتوه بعد الآن في العدم اللامتناهي؟ ألن ينفخ الفراغ القاتل أنفاسه في أنوفنا؟ ألم يصبح الكون أكثر برودة؟ أو ليس الليل اكثر سوادا مرة تلو الأخرى؟" وينتهي المجنون بالقول "لقد مات الله. لقد مات الله". قد يكون مستغربا ان يصدر هذا الكلام عن فيلسوف ملحد مثل نيتشه، لكنه كان يدرك في أعماق نفسه خطورة الآثار السلبية والمميتة المترتبة على حياة الانسان إثر اختفاء فكرة الله من الوجود. فالمسيحية الي شرعت بعدم جواز القتل والسرقة واشتهاء ما للغير والزنا كانت صمام الأمان الذي يحمي المجتمع من ذاته. موت الله، حسب نيتشه يقضي على التشريع الاجتماعي دون ان يقدم بديلا عنه.

أدرك الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر في القرن العشرين معضلة الوجود هذه. كتب "الحياة فاقدة لأي معنى وبالتالي يتحتم علينا ان نوجد لها معنى ما. قيمة الحياة هي في المعنى الذي نضفيه عليها". في كتابه "الغثيان" ( Nausea)، كتب سارتر "سوف أحيا فيض الحياة. آكل وأنام وأنام وآكل. سوف أحيا بهدؤ مثل الاشجار، مثل مستنقعات المياه والمقعد الاحمر على خط الحافلة (أوتوبيس)". على غرار سارتر، يقول الروائي الفرنسي ألبرت كامو (ِAlbert Camus) ان الحياة لا معنى لها ولسنا نستطيع ان نخلق لها معنى. أفاض كامو في كتاباته عن عبثية الحياة (رواية الغريب)، ولكي يتجاوز هذا المأزق دعانا لكي نتمتع بضوء الشمس على شاطئ البحر، وان نشرب فنجان قهوة مع صديق والا ننغمس في التفكير في عبثية الحياة. نهل عالم الاحياء المعاصر ريتشارد داكنز (Richard Dawkins) من ينبوع الفلاسفة الذين سبقوه فكتب في "وهم الإله" (The God delusion) أ "الكون الذي نراه يتمتع بالخصائص التي نتوقع رؤيتها فيه. في ظل غياب التصميم والتخطيط والقصد ينعدم اي وجود للشر او الخير. ليس في هذا الكون سوى عدم مبالاة عمياء لا عمق لها."

"إن لم يكن الله موجودا، فالكل متاح او مسموح به" هي عبارة تنسب للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي في رواية "ألاخوة كارمازوف" في القرن التاسع عشر. عند غياب الله عن المشهد الانساني وفي غياب اي مرجعية موضوعية ومطلقة للقيم الروحية والاخلاقية يفتح الباب على مصراعيه وتزول الممنوعات. "إن لم يكن الله موجودا وإن لم تكن النفس البشرية خالدة" يقول دستويفسكي في روايته الجريمة والعقاب، "أخبرني إذا، ما الذي يدعوني ان احيا حياة جيدة وان اعمل اعمالا صالحة؟"

لقد ساهم الالحاد في تغيير القيم الاجتماعية على الساحة العالمية عامة وفي اوروبا وامريكا خاصة. ضرب الالحاد في العمق الوجداني والروحي للانسان فأخرج الله من حياته، لكنه لم يستطع ان يقدم البديل عنه. فالانسان من دون الله، يحيا حياة من دون هدف او معنى في ظل تهديد الموت والمرض والشقاء اليومي. قد يضفي الانسان على الحياة معنى كما زعم جان بول سارتر، لكن هذا المعنى لا يملأ الفراغ العميق الذي يحياه الانسان في غياب وجود الله. بالتالي إما أن يحيا الانسان دون هدف او يحيا الكذبة النبيلة التي تدّعي وجود معنى للحياة حسب تعبير الدكتور "رو" أمام الاكاديمية الامريكية لتقدم العلوم. قد يستطيع الانسان، دون العودة لله، ان يقدم معايير لتحديد مفاهيم الخير والشر، لكن اي مفهوم يبقى هو الاصلح؟ في مفهوم ريتشارد دوكنز لا وجود للخير والشر اصلا، وبالتالي ما هو المعيار الذي نستطيع ان نبني عليه؟ هل يصح اعتبار اجهاض الجنين قتلا؟ هل يجوز القتل الرحيم ( Euthanasia)؟ هل يكون تعد الازواج والزوجات والشركاء في العلاقة الجنسية جيد؟ ماذا ان اتفق أخوان على ممارسة الجنس وما الذي يمنع هذه العلاقة خاصة وانهما لا يضران احدا ما؟ ان لم يكن الخير والشر موجودان، هل يصبح منع الحكومات تعاطي المخدرات والاتجار بها ظلما! وان كان الخير والشر موجودان دون الله ما هو المعيار لهما؟ قد يكون الروائي الروسي دستويفسكي على حق عندما قال "عندما لا يكون الله موجودا يصبح كل شيء مسموحا (If God did not exist, everything is permitted)، أو على حد قول الروائي الفرنسي فولتير "إن لم يكن الله موجودا، لوجب علينا أيجاده (ٍSi Dieu n’existait pas, il faudrait l’inventer).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مجرد سؤال
على سالم ( 2021 / 4 / 5 - 03:35 )
هل تعلم انه يوجد فى المسيحيه طوائف كثيره مختلفه , كل طائفه تكفر الطوائف الاخرى تكرههم وتلعنهم , يعنى مثلا عندك الارثوذكسيه تكفر الكاثوليكيه ويقولوا ان يسوع لعنهم ولن يدخلوا الملكوت ويعيشوا مع يسوع , هذا بدون شك يثير اسئله كثيره حول الايمان المسيحى الغامض وكيف تأسس منذ حوالى الفين عام او يزيد , مجرد سؤال


2 - علي سالم
طوني سماحة ( 2021 / 4 / 5 - 04:04 )
شكرا للمداخلة استاذ علي
أراك هربت الى الامام. فبدل ان تدلي برأيك بالموضوع أخذت النقاش الى مكان آخر. لكن لا بأس هوذا الجواب
لا يُحكم على الشيوعية من خلال تصرفات أتباعها، إنما من خلال مبادئها. عندما يخالف دونالد ترامب مبادئ الانتخابات، لا يلام النظام الانتخابي الامريكي إنما المخالف. وينطبق هذا الامر على المسيحية وكل النظم الفكرية والايديولوجية الاخرى. ان كانت المسيحية قد علمت ان يكفر الكاثوليكي الادرثوذكسي فلك الحق فيما تقول. لكنني وانا القارئ النهم للمسيحية لم أجد في صفحات الانجيل من حرفه الاول الى الآخر ما يشجع على تكفير الآخر لا من قريب ولا من بعيد
أما عن نشؤ المسيحية الغامض أشجعك على دراسة المسيحية. لا أظن هناك دينا او ايدولوجيا اخرى عمرها ألفا عاما تم توثيقها كما وثقت المسيحة، بدأ من كتابات تلامذة المسيح (متى ويوحنا في القرن الاول الميلادي) وصولا الى أباء الكنيسة (بوليكارب تلميذ يوحنا الحبيب
وايرناوس تلميذ بوليكارب في القرن الثاني الميلادي) وهلم جرا وصولا الى عصرنا الحالي. شكرا لمداخلتك مرة أخرى.


3 - هل مات الله حقا ام يتمنون موت الله
مروان سعيد ( 2021 / 4 / 5 - 15:32 )
تحية للاستاذ طوني سماحة وتحية للاستاذ علي سالم وللجميع
طبعا الله حي وهو الذي صنع الكل ورسم خارطة الكون والمجرات وصانع قوانينها وهي تمشي وستمشي الى الابد
والمسيح هو روح الله وكلمته الذي صنع كل شيئ لاان كل شيئ به كان
لايوجد عالم الان يقدر انكار وجود الله بعد كل هذا الانجاز العلمي والتطوري
العلماء من نيوتن الى لالان كلهم معترفين بوجوده وحتى داروين
وهذا اجمل اثبات على وجود الله من فم اكبر العلماء ويسمونه العقل الاسمى
https://www.youtube.com/watch?v=_ha7N4K2zgc
ومودتي للجميع


4 - مروان سعيد / حسب المسيحية الله مات وصلب
عبد الله اغونان ( 2021 / 4 / 5 - 17:54 )
حسب مسيحيتكم فالله - يسوع قد مات وصلب
ولاندري كيف قام بعد موته وصلبه


5 - عبد الله اغونان لايعرف كيف يوع قد مات
مروان سعيد ( 2021 / 4 / 5 - 20:10 )
طبعا لاتعرف ولن تعرف اذا بقيت مسلم والاهك الاسلامي لايعرف
حتى الاهك لايعرف يمينه من شماله ولايعرف اين قبلته مرة تكون الى القدس ويغيرها الى الكعبة وذلك لكي يعرف
وماذا تعرف عن القران يا استاذ عبدالله هل يوجد اثنين متفقين عليه هل يوجد شيئ فيه مفهوم هل يوجد مكان او زمان مذكور في القران كله مبهم وحتى شريعته ممنوعة من التطبيق مثل الحدود والرجم والعبودية والتعدد للزوجات وحتى الخمر غير مفهوم هل محرم ام لا ومسموح لك السكر بعد الصلاة والخمر رجس من عمل الشيطان
الزنى مسموح والولد ابن الفراش ويا سلام على حفظ الانساب
واخيرا المسيح مات وقام وصعد الى السماء بمشاهدة اكثر من 500 شخص وليس كما فعل محمد بحادثة الاسراء والمعراج لم يراه احد
وكذبة الصلاة كانت خمسين ونازل طالع وطالع نازل ونازل طالع وطالع نازل شوف ما ابشع التكرار الممل بدون فائدة حتى اصبحت 5
استغرب وبهذا القرن يصدق ان الاهه لايعرف وموسى يعرف
يا عبدالله انتم كنتم مسيحيين وقد اخذ المسلمين نسائكم وانتهك اعراضكم والان تقدسوهم
اي تقدسون جلاديكم اصحوا وارجعوا لاامازيغيتكم
وحتى مجمل المسلمين كانوا مسيحيين واقباط وفراعنة وسريان
ومودتي للجم


6 - مروان سعيد
طوني سماحة ( 2021 / 4 / 5 - 23:15 )
شكرا لمداخلتك استاذ مروان ولإثرائك الحوار. أما بالنسبة للسيد أغونان فلم اكلف نفسي عناء الرد. =.اظن من الافضل الابتعاد عن الردود عندما لا يكون الحوار بناء أو مفيدا. سلام


7 - عبدالله اغونان
عبد الجبار ( 2021 / 4 / 5 - 23:29 )
اغونان
بعد التحية
سابرهن لك من كتابك كيف ان المسيح قد قام
33صورة مريم
سلام على يوم ولدت ويوم اموت ويوم ابعث حيا
من هو هذا؟
الذي ولد ومات وبعث حيا هو المسيح روح الله وكلمة منه


8 - الاخ عبد الله اغونان الدين تجنيد
مروان سعيد ( 2021 / 4 / 5 - 23:40 )
انظر كيف عرف هذا من هو الله واللف كتاب عن تجربته
https://www.youtube.com/watch?v=GvBM64gDLnY
ومودتي للجميع


9 - عبد الجبار
طوني سماحة ( 2021 / 4 / 5 - 23:52 )
سلام استاذ عبد الجبار وشكرا لمداخلتك.

كل الاحترام والتقدير
طوني

اخر الافلام

.. المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهدافها هدفا حيويا بإيلا


.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز




.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب


.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل




.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت