الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التطور السيسيولوجي للإله الابراهيمي

عبدالله محمد ابو شحاتة

2021 / 4 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لم يكن الإله الإبراهيمي طفرة اجتماعية ظهرت فجأة دون وجود أصل تطوري. والحقيقة أن تأثير أديان الشرق القديم في الديانات الإبراهيمية معروف وقد تحدث فيه الكثير من مختصي التاريخ والآثار والانثربيولوجيا. ولكني أقدم هنا بشكل عام وسريع تحليل تطوري للجانب الاجتماعي لهذا التغير والتعاقب في النسق الديني الابراهيمي.

إن الحقيقة الأولى التي لاحظتها دون عناء في قراءتي للعهد القديم، هي اشتراك النسق الديني لإسرائيل مع النسق الديني القديم والسابق من معظم الوجوه. لعل أهم تلك الأمور المشتركة تجلت في محلية الدين ومحلية الآلهة و غياب فكرة الدعوة أو التبشير. فالواقع الاجتماعي في تلك الفترة كان يقتضي بالضرورة تلك المحلية للمعبودات،؛ فكل قبيلة أو جماعة بحكم انعزاليتها كانت بحاجة لإله خاص بها، إله يحميها هي حصراً ويعينها هي حصراً ضد أعدائها. ففي وسط عالم من التصارع والتطاحن القبلي لم يكن من الممكن أن يتصور شعب من الشعوب أن إلهه يمكن أن يكون ذاته إله أعداءه وخصومه. هذا العالم الضيق من الانتماء المحدود كان يحتم بالضرورة وجود آلهة محدودة، فطبيعة الانتماء القبلي وغياب أي شعور بالتفرد أو بانتماء جماعي إنساني جعل من المستحيل تصور إله جماعي، بل كان التصور السائد هو تصور لآلهة عديدة متصارعة فيما بينها بتصارع القبائل التي تمثلها.
والواقع الاجتماعي يخبرنا أن إله بني إسرائيل قد بدأ كباقي الآلهة، أي لم يكن إلا واحد من ضمن الآلهة المتصارعة. ورغم أني أظن أن هذا التصور قد اختلف مع بدأ كتابة العهد القديم، هذا بالرغم من أنك تلاحظ أثره باقياً رغم محاولة جاهدة لكُتاب العهد القديم لإخفائه، إلا أنهم أحياناً ما يصيبهم الذلل عند عرض قصصهم التراثية.
أنظر مثلاً لهذا النص " أَلَيْسَ مَا يُمَلِّكُكَ إِيَّاهُ كَمُوشُ إِلهُكَ تَمْتَلِكُ؟ وَجَمِيعُ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ الرَّبُّ إِلهُنَا مِنْ أَمَامِنَا فَإِيَّاهُمْ نَمْتَلِكُ." (سفر القضاة ١---١---: ٢---٤---).
هنا ترى صورة صراع الآلهة والشعوب القديمة واضحة. ولكننا نجد في المجمل أن كُتاب العهد القديم قد طوروا فكرة الإله واخذوها الى بعداً آخر. فبدلاً من الاعتقاد بوجود آلهة متصارعة لكل شعب إله محلي يدافع عنه ويزود عنه ضد الشعوب الأخرى وآلهتها، فأصبح الإله في تصور العبرانيين إله واحد خالق لكل البشر كما نجده في سفر التكوين. ولكنه رغم ذلك بقى إله محلي لبني إسرائيل حصراً تحت مسمى (شعبه المختار)، أما باقي الشعوب الأخرى فلا تشكل له أي أهمية مطلقاً، بل هم مجرد مطايا لبني إسرائيل للاستعباد والتسخير.
" حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ، فإن أجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفَتَحَتْ لَكَ، فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ. ( التثنية ٢---٠--- : ١---١--- )
وإذا ما أساء بني إسرائيل لألههم وكفوا عن عبادته وإقامة شريعته، فيجعل وقتها من الشعوب الأخرى عقاباً لهم.
" يدفع الرب عليك امة من بعيد من اقصاء الأرض كما يطير النسر أمة لا تفهم لسانها" ( التثنية ٤---٩--- : ٢---٨---)
فالعبرانيين هنا هم الأساس، وجميع الأمم الأخرى ليست إلا مكافأة لهم يسخروها إذا ما أحسنوا وعقاباً لهم يسلطهم الإله عليهم إذا ما أساؤوا، ولكنهم لا يشكلون أي أهمية في حد ذاتهم، فالأمر كله يتمحور حول إسرائيل ومقدار إحسانهم واساءتهم لألههم الخاص.

فيمكننا وفقاً لذلك تلخيص التطور الذي قامت به التوراة لمفهوم الألوهية بأنه تحويل منظومة الآلهة المتعددة المتصارعة المحلية ( لكل شعب إله )، إلى إله واحد خالق ولكنه بقى أيضاً محلياً ومختصاً فقط ببني إسرائيل. بهذا أصبح إله إسرائيل مزيجاً بين تصور الآلهة المحلية القديم وبين المفهوم الجديد للإله العالمي الذي سيظهر لاحقاً مع المسيحية. فإله إسرائيل كوني من جانب الخلق ولكنه محلي من جانب الشريعة والسلوك والاختصاص. وهذا من وجهة نظري هو التناقض الكبير بين العهدين القديم والجديد؛ فلا يمكن فهم الفارق بين طبيعة الإله في العهدين وتفسيره إلا من منظور التطور الاجتماعي لمفهوم الألوهية الابراهيمي، هذا التفسير السيسيولوجي هو الوحيد القادر على إيضاح مفارقة الشعب المختار ثم التخلي والاتجاه للبشر أجمع مع المسيحية. أما باقي التفسيرات اللاهوتية لهذا التحول الكبير فلن تبدوا مقنعة.
فالحقيقة أن هذا التحول لا يمكن اعتباره سوى تغيراً جزرياً أوجبه تغير الواقع الاجتماعي؛ فلم يعد العالم القديم شعوباً صغيرة متصارعة متناحرة كما كان من قبل، بل أصبح امبراطوريات كبيرة تحكم قطعاً شاسعة من العالم، ثم جاءت الامبراطورية الرومانية التي وحدت العالم القديم في قبضتها ليصبح بذلك تصور إله كوني أمراً متوافقاً بل وضرورياً لتلك الوحدة السياسية والاجتماعية الجديدة. وأصبحت في المقابل فوضى الألوهية الوثنية تشكل عائقاً في وجه تلك الوحدة وخطراً على استقرارها. وبهذا يتجه الواقع الاجتماعي بوعي وأيضاً بدون وعي إلى تبني سلطة المفهوم الجديد للإله الواحد، الإله الخاص بالجميع لا بأحد بعينه أو شعب دون آخر.
ووفقاً لهذا الفهم السيسيولوجي يكون تناقض العهدين القديم والجديد مبرراً، فحروب العهد القديم وإبادة الشعوب الأخرى لن تشكل حين إذ أي تناقض؛ فما دام إله العهد القديم إله محلي يختص فقط ببني إسرائيل فمن المنطقي ألا يعبئ سوى بالمصالح السياسية للعبرانيين حصراً. أما إله العهد الجديد الكوني هو إله لشعوب مختلفة، فعليه وفقاً لذلك أن يعلي بدلاً من الحرب قيم التأخي والود طالما أن الاتجاه السياسي الامبراطوري في صالحه أن تظل جميع الشعوب تحت حكمه هادئة لا تثور ولا تتصارع.
فإله العهد القديم قد اقتضته ظروف التشرذم والصراع التي عاشها العبرانيين وإله العهد الجديد أصبح ضرورياً مع ظهور الوحدة السياسية الجديدة في الامبراطورية الرومانية.

ثم مع بدأ انحلال وضعف الامبراطوريات التقليدية القديمة يعود مفهوم الحرب والصراع مرة أخرى لتصور الألوهية الإسلامي، هذا التصور الذي تناسب مع طموحات امبراطورية ناشئة تسعى نحو التوسع وزيادة النفوذ. فتعتبر من الجهاد فريضة ومن الموت في المعركة منزلة خاصة لا تعادلها أي منزلة أخرى. هذا التصور الذي تناسب مع تلك الحقبة من الصراع التي تلت تفكك القوى السياسية القديمة. وهو أيضاً ذات التصور الذي يشكل مشكلة كبرى الآن للمجتمعات الإسلامية بعد تبدل الواقع الاجتماعي والسياسي العالمي بما لم يعد يسمح بالطبع ببقاء تلك التصورات، فتصبح المشكلة في تعارض رغبة التمسك والتقديس والاعتقاد ببقاء الصلاحية رغم اختلاف الظروف، و التي تقرر بالطبع أن هذا التصور قد أضحى مجرد اوهاماً قد مضى زمانها.

فهذا الفهم السيسيولوجي من شأنه أن يقضي على اللبس والتناقض في التفسير اللاهوتي الذي بالطبع يحاول عزل تلك التصورات عن واقعها الاجتماعي، والذي لا يمكن أن يكون مبرراً بطريقة منطقية. سواء فيما يتعلق بتناقض إلهي العهدين القديم والجديد، أو فيما يتعلق بفهم إشكالية الإرهاب الإسلامي وحلها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الالاه الحقيقي ثابت لا يتطور
سمير آل طوق البحراني ( 2021 / 4 / 6 - 06:06 )
اخي الكريم بعد التحية. من يقرا الكتب الدينية (التوراة والانجيل والقرآن ) بتجرد يجد الخلافات واضحة كوضوح الشمس في صفاة الالاه لكل دين وهذا يعني انه من المستحيل ان تكون الاديان من مصدر واحد وعلى هذا القياس يمكن الاستنتاج العقلي ان الاله الحقيقي لا علاقة له بالاديان. كيف لالاه خالق جميع المخلوقات يفضل شعب على غيره او يتخذ ابنا او يجعل امة هي خير الامم او يشجع مخلوقاته على قتل بعضهم بعضا في سبيل الاعتراف به وهو الغني المطلق والاعتراف به ام عدم الاعتراف لا يضره شيء ورسوله الاوحد هو العقل الذي وهبه للانسان. اخي الكريم يجب على اي الانسان ان يعي انه اخو الانسان الآخر ولا فرق بين الجميع والدين شان شخصي وترك الادعاء ان دبني هو الحق ودين غيري هو الباطل. هذه هي الحقيقة التي لا مراء فيها لان الابمان بالغيبيات هو ايمان وكفي وليس هناك دلائل تثبت صحة دين وخطا دين آخر. ان قانون حقوق الانسان كاف للتعايش السلمي بين البشر والتعبد الديني شان شخصي بحيث لا يتعدى على حقوق الآخرين. شكرا لك.

اخر الافلام

.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح


.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة




.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا


.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س




.. كل يوم - د. أحمد كريمة: انتحال صفة الإفتاء من قبل السلفيين و