الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كلمة بخصوص نشأة الله

محمد علي عبد الجليل

2021 / 4 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


عندما انتصبَت على قائمتَين مجموعاتٌ من الرئيسيات نازعةً إلى زيادة فُرَص بقائها فتغيّرَت مورفولوجيتُها مع الزمن وكَبُرَ حجمُ وتعقيداتُ أدمغتِها، وَعَت وجودَ ظاهرة الموت الذي رأته مناقضاً لنزوع البقاء فكان ذلك ومازال أكبر صدمة وأعظم لُغز لم تتمكَّن من حلّه وفهمه.

وقد اعتمد دماغ هذه الرئيسيات الـمنتصبة [البشريات، «الهومو»]، لفهم ظواهر العالم ومنها الموت، على منهجين أساسيين :
١ منهج بدائي عاطفي انفعالي تقييمي (العقل العاطفي) : هذا المنهج حدا بالإنسان الواعي لموته والنازع لبقائه إلى اختراع فكرة الله لمواجهة فكرة الموت. فكان اختراع الدماغ لفكرة الله حاجة نفسية لاستيعاء فكرة الموت أو لامتصاص صدمة وعي الموت ولمواجهة مخاوف الموت والحياة أيضاً. كان هذا الاختراع الذهني ضرورةً، وصار الآن على العموم مكبِّلاً ومدمِّراً وخاصةً عندما يَربط مـعتنقو هذا الاختراع تفاصيلَ الحياة المعاصرة بهذا «الله» ليفرضوا رؤيتهم على إخوتهم ، فمثلاً يعتبر المسلم أن حجاب المرأة والصيام والصلاة وموالاة شخصيات أسطورية (كالنبي والصحابة والأئمة) يعتبر كل هذا فروضاً وأوامر من «الله» للإنسان.
إن الإله الذي يريد بصورة خاصة أتباعُ الديانات المسمّاة «توحيدية» إثباتَ وجوده هو الصورة الذهنية الموروثة المتجذرة في الذهن العاطفي المؤمن المرتكز على توحيد الأسباب وعلى ترابطها الخيطي.

٢ ومع تراكم خبرة الدماغ البشري طوَّر الإنسانُ، لوعي عالمه، منهجاً أكثر تقدماً من المنهج العاطفي التقييمي، وهو المنهج الاستقرائي الرصدي الوصفي الأكثر موضوعية (العقل الرصدي). هذا المنهج الوصفي قارَبَ الموتَ كنهاية طبيعية للكائن الحي.
لكن آلية عمل الدماغ البشري الحالي شجَّـعت ظهور فكرة الله.

يعمل الدماغ البشري الحالي بطريقة : ١)-خَـطِّــيَّــة [خيطية] («سبب-نتيجة»)، ٢)-انتقائية ( انحيازية، فيتحيّز لسبب من بين عدة أسباب لهدف بقاء الجسد الذي يديره)، ٣)-انعكاسية [إشراطية استجابية] (يُـخزِّن المعلوماتِ [الفروقات] الآتية إليه من حواسّ الجسد بهدف استخدامها لاحقاً لحماية الجسد). فعندما يواجه الدماغ موقفاً جديداً يستجيب بصورة آلية من خلال إخراج الصور المشابهة. يعمل الدماغ غالباً بطريقة الإسقاط (projection) أي يُسقِط الصورة المحفوظة على الواقع الجديد قبل أن يَظهَر منه الخطر.

إن الذهن البشري عموماً يعمل بتفكير خطي [خيطي] («سبب - نتيجة» أو «سبب – مُسَبِّب»). وهذه رؤية محدودة وقاصرة للواقع شديد الترابط والتعالق والتكافل سريع التحوّل والذي لا يسير بصورة خيطية خطية («سبب – نتيجة») بل بصُوَرِ غماماتٍ متداخلة جداً من الظواهر والعواقب بحيث إنَّ الظاهرة الواحدة هي مجموعاتُ عواقِبَ لـمجموعاتِ مُسَبِّـباتٍ سابقة وفي الوقت نفسه هي مجموعاتُ مسببات حالية لمجموعاتِ عواقبَ لاحقةٍ.

وبالتالي فافتراضُ وجود مُسَبِّبٍ واحد لا مسبِّبَ سابقاً له لظواهر الوجود هو نتاج ذهن محدود ومحدِّد باحث عن الأمان في الجواب طارد للشكوك في الأسئلة، نتاج ذهن يريد أن يرتاح فيُسقِط ما رآه في الطبيعة من مسببات (كالشمس والأرض والإب والأم...) على الوجود ككل. فبما أنني وُلِدتُ من أُمّ وأَب وبما أنَّ الحياة وُلِدَت من الأرض وبفضل طاقة الشمس فلا بدَّ أن يكون للشمس والأرض والكون مسبِّباً.
فخلق الذهن البشري مسبباً واحداً أزلياً متعالياً مريحاً سمَّـاه «الله» ووضعَ له صفاتٍ أعقدَ بكثير وأكثر تطوراً من الكون نفِسه الذي أراد تفسيَر نشوئه. وهذه الفكرة التقطها جميل صدقي الزهاوي (بغداد ١٨٦٣ – ١٩٣٦) :
«- لَـمَّا جَهِلْتَ مِن الطبيعةِ أمرَها * وجَعَلْتَ نفسَكَ في مَقامِ مُعَلِّـلِ،
- أثبَـتَّ رَبًّا تبتغي حلًّا بِه * للمُشكلاتِ فكان أكبرَ مُشكِلِ.»

لكن العقل الاستقرائي الرصدي الوصفي يسأل كيف نشأ هذا «الله» الذي خلَقَه العقل العاطفي بناء على مبدأ «السبب الواحد المؤدي لنتائج شتّى». ففكرة تفسير أصل الكون هي نتاج آلية عمل الذهن البشري الحالي المرتكز على خيطية السبب الواحد المولد للنتيجة الواحدة أو للنتائج المتعددة.
لكن العقل العاطفي الخائف الباحث عن الأمان والبقاء توقَّـف عن التساؤل كيف نشأ هذا الإله الأول المسبب الأصلي الذي لا مسبب له. توقف عن ذلك كسلاً أو لأنه وصل إلى طريق مسدود من شدة ما هو مفتوح على اللانهاية اللامتصورة.
ويسأل العقل الرصدي : بدلاً من افتراض وجود الله الواحد الكامل كمسبب أوحد للوجود، ما الذي يمنع منطقياً وواقعياً من اعتبار المادة المرصودة كمسببات؟ ما الذي يدفع العقل العاطفي لاختراع أصل واحد صانع للظواهر التي نرصدها؟

بكل الأحوال، تبقى فكرة الله اختراع الدماغ البشري المصدوم بهذا العالم المجهول. ولا يمكن لهذا الدماغ أن يعي وجود كائن أول بدئي مسبب للوجود إذا كان لا يستطيع أساساً أن يعي معنى الوجود.
ويبقى الله موجوداً في دماغنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائع
ملحد ( 2021 / 4 / 6 - 21:46 )
في المستقبل , الذي آمل ان لا يكون بعيدا, سوف تعي الغالبية العظمى من البشر مدى تعاسة وسفاهة وبلاهة فكرة وجود إله يقف خلف وجود هذا الكون والحياة فيه وخاصة ذلك الإله المسمى الله

تحياتي

اخر الافلام

.. شاب كويتي «مبتور القدمين» يوثق رحلته للصلاة في المسجد


.. القبض على شاب هاجم أحد الأساقفة بسكين خلال الصلاة في كنيسة أ




.. المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهدافها هدفا حيويا بإيلا


.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز




.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب