الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في تونس: محاولة إعادة إنتاج بورقيبة *‏

فاروق الصيّاحي
كاتب وباحث وشاعر

(Assayahi Farouk)

2021 / 4 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


في حملة دعائيّة منظّمة، خصّصت وسائل الإعلام التونسيّة بمختلف أصنافها ‏خلال الأيّام الأولى من شهر أفريل 2011 فضاءً واسعا من تغطيتها لعمليّة إحياء ‏ذكرى وفاة الرّئيس الأسبق لتونس "الحبيب بورقيبة". هذه العمليّة التي قادها ‏الوزير الأوّل للحكومة المؤقتة الحالي الباجي قائد السبسي بانتقاله إلى مقبرة ‏المغفور له بمسقط رأسه تحوّلت كما صوّرها لنا الإعلام طيلة أيّام إلى احتفاليّة ‏غير مسبوقة أثارت حفيظة عديد المتابعين للشأن السياسي. ‏
إنّ هذا الاهتمام الإعلامي لم يكن مصادفة أو عملا مجانيّا أو مجرّد تغطية ‏عابرة لنشاط يوميّ لأعلى هرم المؤسسة الحكوميّة، وإنّما اتّخذ طابعا دعائيّا ‏مضخّما يُخفي وراءه عددا من التّساؤلات تفقد هذه التغطية طابع "البراءة" ‏الإعلاميّة. ولا شكّ أنّ هذا المشهد الإعلامي الذي تمّ تصويره وتسويقه إلى ‏المشاهد التّونسي والعربي إجمالا وفي هذا الوقت بالتّحديد لا يخلو من أبعاد ‏سياسيّة مقصودة تتجاوز مستوى القراءة المتسرّعة للسّطور والنّظرة السّطحيّة ‏للصّورة والإصغاء العابر للكلمات. غير أنّ الانطلاق من المشهد الإعلامي الذي ‏تمّ تمريره يحتّم علينا أن نتّجه إلى المؤسسة الواقفة خلف هذا المشهد وإلى الذين ‏أرادوا تسويقه، لأنّ الوقوف عند مستوى هذا المشهد وتحييده يُبقي قصر النّظر ‏في تناول المسألة قائما ويتركنا نحوم حول تفاصيلها دون التمكّن من اقتحام ‏غمارها واكتشاف كنهها. ‏
لقد أرادت المؤسسة السياسية الحاكمة إبراز الرّئيس الأسبق للرّئيس السّابق ‏في موقع الضحيّة بفعل ما تعرّض له عند وفاته من تهميش من خلال عدم تنظيم ‏موكب جنائزيّ يليق بمقامه ومنع الشّعب من حضور الجنازة الرّسميّة الضيّقة ‏التي وقع تنظيمها من قبل السّلف للخلف، ثمّ من خلال عدم إيلاء أهميّة تذكر لهذه ‏الذّكرى طيلة السنوات التي انقضت بعد موت بورقيبة، ضف إلى كلّ ذلك حالة ‏الإهمال التي عانى منها بورقيبة منذ الإطاحة به في نوفمبر 1987 وإلى حدود ‏وفاته في أفريل 2000. إنّ هذا النصّ الذي تمّ إعداده بشكل دقيق وقع حبكه بكلّ ‏عناية ليتمّ إخراجه في شكل مشهد مسرحي تراجيديّ يُثير عطف الحجر لا البشر ‏ويحرّك المشاعر الرّاكدة والحال أنّه يأتي في وقت لا يزال فيه غضب التونسيين ‏متفجّرا تجاه الجنرال الفارّ وأفراد عائلته منذ ثلاثة أشهر. وهذا المشهد التراجيدي ‏المحبوك وظروفه يفتح الباب أمام مجموعة من الأسئلة لعلّ أهمّها يرتبط بمغزى ‏تصوير بورقيبة في موقع الضحية، وهذا السؤال لا يتطلّب أكثر من إجابة إذ لا ‏نحتاج إلى مجموعة من الفرضيات إذا ما رُمنا إجابة مباشرة: لقد أراد الجهاز ‏الحاكم حاليا بهذه الصّورة الإطالة في قائمة المتضرّرين من حكم الجنرال ابن ‏علي وبالتالي إضافة تهم جديدة إلى سجلّات ملفّاته السّوداء التي تمّ إعداد بعضها ‏ولا يزال البعض الآخر بصدد الإعداد. ولهذا الغرض لم يجد هذا الفريق من ‏ضحيّة لهذا الرّئيس سوى ذاك الرّئيس. فالجهاز الحكومي الحالي اتّجه إلى ‏عاطفة الجمهور دون عقله ودغدغ الجانب الأخلاقي فيه لنيل استعطافه بالتركيز ‏على إقامة مقارنة بين الرّئيسين حول مسألة السّرقة والنّهب والثّراء، فبورقيبة في ‏نظر التونسيين لم يسرق ولا يملك قصورا أو نزلا... ولم يُجهّز لمرحلة التقاعد ‏سوى قبره وقد مات فقيرا، أمّا غريمه فهو زعيم "عصابة السرّاق".‏
‏ وإذا ما سلّمنا بأنّ القصد لا يتجاوز هذا الحدّ، أي أنّه لا يعدو أن يكون مجرّد ‏إسداء جميل لزعيم عُزل في دارِ العجّز بعد أن أحيل قسرا على التقاعد ‏‏"المبكّر"، فإنّ هذه الحركة التي أقدم عليها رأس الوزارة الحالي قد تُقرأ في إطار ‏ردّ الاعتبار لهذه الشّخصيّة خصوصا وأنّ الوزير الأكبر كان أحد عناصرِ ‏الفريق الذي عمل مع الرّئيس الأوّل لفترة غير قصيرةٍ. لكن، ورغم هذا التسليم، ‏فإنّ صورة الضحيّة التي تمّ رسمها يمكن تفنيدها إذا ما عدنا إلى المبرّرات التي ‏جعلت من بورقيبة ضحيّة: فهو لم يتعرّض إلى المحاسبة بعد خلعه ولا تمّ تكوين ‏لجان للتّحقيق في ممارساته وممارسات أفراد عائلته والمقرّبين منه ولا تمّ نفيه ‏خارج القطر... ولم يتم رميه في مزبلة التاريخ بل إنّه مُنح مقبرة خاصة به لم ‏تمنح حتّى للشّهداء.‏
غير أنّ المسألة المطروحة كما تمّ تصوير فصولها لا تتوقّف عند هذه ‏الإجابة التي لا تتعدّى بهذا الشّكل مستوى القراءة السطحيّة و "السّاذجة" وإن ‏كانت لا تخرج عن إطار ثنائيّة الجلاّد والضحيّة. إنّ الاحتفاليّة المفتعلة بمناسبة ‏إحياء ذكرى وفاة بورقيبة وما صاحبها من حضورٍ غفيرٍ لمن منعوا سابقا من ‏حضورها ومن إبرازٍ لعواطف الحضورِ تبيّن أنّ الغاية من الحدث أبعد من هذه ‏الإجابة البسيطة التي سبق تقديمها. فإبراز بورقيبة في موقع الضحيّة أريد منه ‏إثارة الحنين إلى زمن ضائع ارتبط بعهده لمّا كان يدير شؤون القطر وكأنّه ‏عصر ذهبيّ مقارنة بالعهد الذي خلفه، إنّه استحضار لصورة "المجاهد الأكبر" ‏التي تمّ تغييبها وإحياء لمصطلح الزّعيم الذي تمّ إسقاطه ولشعار "حبيب الأمّة" ‏الذي تلاشى رنينه. وبهذه الشّخصنة من جهة والترميز من جهة أخرى يريد ‏القائمون على هذا الشّأن الفصل بين الشّخصيّتين وكأنّ كلّا منهما ينحدر من ‏وسط سياسيّ لا علاقة له بوسط الآخر أو أنّهما يمثّلان طبقات اجتماعيّة مختلفة ‏أو متصارعة أصلا. ‏
إنّها المغالطة التي أرادوا تمريرها ليضحكوا على ذقون التونسيين وكأنّهم لم ‏يعيشوا عصر بورقيبة ولم يكتووا برمضاء حكمه وسياسات دولته. إنّ النظام ‏السياسي الذي حكم التونسيين واحد والطّبقات الاجتماعيّة المسيطرة هي نفسها، ‏أمّا تغيير الأسماء وصورة الوجه فلا يعدو أن يكون إيهاما للطّبقات الشعبيّة ‏بحصول تغييرٍ فعليّ ما دام ذلك يجنّب المساس بمصالحهم الاقتصاديّة ولذلك ‏نجدهم اليوم يتحدّثون بـاسم "الثورة" بل ويعتبرون أنفسهم أمناء عليها خشية أن ‏يلتفّ عليها الأعداء ؟ وهؤلاء هم أنفسهم من نفخوا في بوق "العهد الجديد" ‏و"التحوّل المبارك" وهم أنفسهم من رفعوا الشعارات البرّاقة زمن حكم الجنرال. ‏إنّهم في كلّ ذلك يُعوّلون على الفهم السّطحي للأحداث وللظّواهر السياسية دون ‏الغوص إلى أبعادها الاقتصاديّة ومرجعيّاتها الاجتماعيّة، ويستندون إلى الرّؤية ‏الضيّقة للأفراد دون تصنيفهم الطّبقي وهذا ما يحفظ لأعداءِ الطّبقات الشعبيّة ‏سيادتهم واستمرار سيطرتهم. ‏
‏ إنّ استحضار بورقيبة اليوم كشخص وتصويره بالشكل الذي أبرزته الحملة ‏الدعائيّة المنظّمة وتوظيفه لا يمكن أن ينطلي على التونسيين الذين ذاقوا الويلات ‏زمن حكمه بدءا بالوطنيين الذين رفضوا إلقاء السّلاح وتقديمه لأعدائهم من أجل ‏إنجاح سياسة مساومته على سيادة الشعب على أرضه وتحرير الوطن. ودون أن ‏نعدّد مكامن سياسته المعادية للشعب، فإنّ الجنرال ابن علي شرب من نفس نبع ‏سلفه وتربّى في بلاطه وكان خير حارس للمصالح الطبقية لا يهادن إذا ما هدّدها ‏الشعب ولا يلين له ساعد في الدفاع عنها، لذلك كان خير خلفٍ لخير سلفٍ.‏
وإذا كان الوزير الأوّل التونسي المؤقت قد نفى في ردّه على سؤالٍ صحفيّ ‏أن يكون له دور في إعادة إنتاج التجمع من خلال دعايته لبورقيبة، فإنّ ذلك لا ‏ينفي إرادة إحياء الحزب الدستوري ما قبل التجمّع أو ما عرف بالجناح الليبرالي ‏فيه وهو توظيف سياسي مقصود يلجأ إليه قسم من الدساترة الذين تمّ إبعادهم في ‏عهد الجنرال ابن علي عن مواقع القرار السياسي والذين يسمّيهم البعض ‏‏"الدّستوريون الوطنيون" وهم يمثلون اليوم أحد الأطراف السياسيّة الدستوريّة إلى ‏جانب دساترة التجمّع الذين تفرّقوا عن قصد في تسميات حزبيّة مختلفة. وجميع ‏هؤلاء يغنمون من تواصل السلطة بيد الحرس القديم الذي تقف وراءه القوى ‏الإمبرياليّة العالميّة. وهذا التواصل يضمن لهم المحافظة على مصالحهم وهذا ما ‏تفسّره المواقف المعلنة من قبل رأس الحكومة في الندوة الصحفيّة التي عقدها يوم ‏‏26 أفريل 2011 والتي دافع فيها عن حقّ الدساترة في الترشح للانتخابات ‏القادمة وبالتالي في النشاط السياسي واعدا بأنّه سيتمّ إعداد قوائم في هذا الشأن ‏وطبعا لن تكون هذه القوائم مخيّبة لآمال هؤلاء. وتأتي هذه التصريحات وغيرها ‏لتؤكّد النسق البطيء للتتبعات القضائيّة ضدّ من قد يثبت تورّطه في أعمال فسادٍ ‏وسرقة وكأنّ مستوى الجرائم تنحصر في مستوى النهب والسرقة والإثراء ‏المشبوه والحال أنّ الجرائم الأخطر هي تلك المتعلّقة بالسياسات اللاوطنيّة ‏واللاّشعبيّة التي ارتكبت في حقّ الطّبقات الكادحة والمنتجة. تضاف هذه ‏الإجراءات إلى قرار حلّ حزب التجمّع الذي لم يتجاوز المستوى القانوني ‏والشكلي فيما سمح لبعض الرّموز بتكوين أحزاب سياسيّة تحت مسمّيات مختلفة. ‏
إنّ العودة إلى بورقيبة ليست عملا عفويّا وغير قصديّ وإنّما هي عمليّة ‏تندرج ضمن سياق سياسيّ يهدف إلى محاولة تأبيد النّظام الذي تمّ إرساؤه منذ ‏‏55 سنة والمحافظة على المصالح الاقتصاديّة للطّبقات الاجتماعيّة السّائدة.‏
‏--------------------------‏
‏* هذا النصّ كُتب في أفريــل 2011، ومنذ ذلك التّاريخ جرت في النّهر مياه ‏كثيرة، حيث لم تَبْقَ العودة إلى بورقيبة حكرا على بعض الدّساترة أو التجمّعيين ‏فحسب، وإنّما تسابقت عديد التيّارات والأطراف السياسيّة في إعلان ولائها ‏لبورقيبة سواءً من بعض ممثلي "اليسار الليبرالي" الذين لم ينكروا أنّهم "أبناء ‏بورقيبة" (ورثة آفاق والعامل التونسي) أو من ممثّلي اليمين الدّيني ممثّلا في ‏حركة النّهضة الإسلاميّة. وبهكذا سباق أصبح بورقيبة لدى هؤلاء وأولئك أصلا ‏تجاريّا يتسابقون في المناسبات وغير المناسبات من أجل الفوز به.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما التصريحات الجديدة في إسرائيل على الانفجارات في إيران؟


.. رد إسرائيلي على الهجوم الإيراني.. لحفظ ماء الوجه فقط؟




.. ومضات في سماء أصفهان بالقرب من الموقع الذي ضربت فيه إسرائيل


.. بوتين يتحدى الناتو فوق سقف العالم | #وثائقيات_سكاي




.. بلينكن يؤكد أن الولايات المتحدة لم تشارك في أي عملية هجومية