الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف تتكون ثقافة التغيير؟

محمد نضال دروزه

2021 / 4 / 9
المجتمع المدني


كيف تتكون ثقافة التغيير ؟
أي مجتمع إنساني في الحضارات القديمة، حتى القرن الخامس عشر الميلادي. ضمن منطقته الجغرافية. كان يصنع ثقافته ويطور حضارته. ضمن صراعين متداخلين، صراعه مع الطبيعة، ومقدار قدرته في السيطرة عليها. واستثمار ما أمكنه من ثرواتها في تلبية حاجاته، وإشباع رغباته، وصراعه الطبقي الاجتماعي، بظهور الطبقة المستغلة (بكسر الغين) والطبقة المستغلة (بفتح الغين) ذات الأكثرية في المجتمع، استطاعت الطبقة الأولى أن تفرض على عقول وذهنيات الطبقة الثانية من خلال استغلالها. ثقافة الاستبداد والتدجين.
ومن نتائج صراع هذه القوى: ظهرت في المجتمع القوى الرجعية والقوى التقدمية، وحينما كانت القوى التقدمية تتفوق بالصراع، كانت تتطور الثقافة والحضارة في المجتمع، وحين تتفوق القوى الرجعية على القوى التقدمية، تتباطأ ثقافة التغيير والتطور، ويصبح المجتمع فريسة للتخلف.
لقد تميز كل مجتمع بثقافة معينة: شبكة من المنظومات الذهنية والمفاهيم العقلية، أنتجت لدى أفراده، أنماطا من الفهم والتفكير والقيم، اعتاد عليها في فهم وتفسير الظواهر الطبيعية والحياتية والاجتماعية، وأنماطا من الأساليب والعادات السلوكية في التعامل.
فالثقافة الخاملة تظهر في مجتمع لا يكون ندا للطبيعة فأراضيه الصعبة والشحيحة الموارد، تجعل التنمية الاقتصادية ضعيفة، وغلبة القوى الرجعية في الحراك الاجتماعي، على القوى التقدمية الظاهرة الأعم في معظم المراحل التاريخية لهذا المجتمع، هذه الثقافة الخاملة عبارة عن شبكة من الذهنيات والمفاهيم العقلية المقفلة على مفاهيم تصورية قدرية لواقعها الصعب.
وهناك ثقافة غير متناسقة قائمة على مجموعة من الذهنيات والمفاهيم العقلية المحلية والمكتسبة، من الاختلاط والاحتكاك بثقافات مجتمعات أخرى، من بينها على الأغلب الثقافة الخاملة، فوقعت هذه المجتمعات هي وقيادتها في الحيرة والتردد والتلفيق والنفاق والتدجين، تدور حول نفسها في دوامات متناقضة، عبر مستنقعات الركود والتخلف، فاقدة الوعي الحر، ومؤشر الحركة والدافعية نحو التغيير، ومثل هذه الثقافة هي السائدة في المجتمعات العربية، فهي منذ ألف عام ليس لديها القدرة على المشاركة في صناعة الثقافة والحضارة والتاريخ، وما زالت تعيد إنتاج التخلف، فما هي أسباب ذلك؟ وهل هي أسباب معاصرة؟ أم أن هذه الأسباب تمتد عبر تاريخها الثقافي؟
إن هذه المجتمعات العربية الإسلامية، في مسيرتها التاريخية، خلال جدليات صراعها مع قوى الطبيعة والقوى الاجتماعية لم تستطع تطوير الإنتاج الاقتصادي، ومضاعفة الدخل بما يكفي للتغلب على ثقافة الفقر والجهل والخرافة والعجز والتدجين، ولم تنتج طبقة اجتماعية قادرة على نقل الصراع من مرحلة الإقطاع العسكري الديني المستبد إلى مرحلة الرأسمالية الوطنية التحررية.
ففي ظل النظم الإقطاعية العسكرية الدينية الحاكمة التي سادت العالم العربي والإسلامي، منذ منتصف القرن الخامس الهجري، الموافق لمنتصف القرن الحادي عشر الميلادي، دخل الفكر العربي الإسلامي مرحلة الانحطاط. وقد بدت إرهاصات هذا الانهيار، في زمن أبي حيان التوحيدي، المتوفى سنة 400 ، الموافق 1010م. حيث قال في أواخر حياته:"كأن أوطان المعرفة قد خلت من سكانها. أين العقول الصاحية؟ أين الأذهان المتوافية؟ أين الألسن الفصيحة؟ أين الخوض في استبانة المعارف؟) وقد عمت ظاهرة الانحطاط الثقافي في سائر بلاد العرب والإسلام شرقا و غربا. فاحد علماء الأندلس يندب ما جرى آنذاك من تدهور وانحطاط، حين خاطب صديقا له بقوله:"أندب العلم وأهله يا صديقي، وارثه وحامليه، وابك رسومه وحيي طلوله، وسلم عليه تسليم الوداع" وفي المغرب كتب آخر:" ماتت العلوم، واستمرت القرون على موت العلم وظهور الجهل" وقال آخر:"إن العلم والأدب والفن والإبداع في العالم العربي والإسلامي، قد انتهت بانتهاء القرن الخامس الهجري"
وقد بدأ القرن السادس الهجري، بطغيان النقل على العقل، والإتباع على الإبداع، والتقليد على التغيير، والخوف على الجسارة، والتدجين على التمرد، والركون لثقافة القطيع الطائفي والقبلي والعشائري، على الفهم وحرية التفكير وحرية الاختيار، وهو ما أكدته شهادة ابن خلدون في القرن التاسع الهجري حين قال:" إن سند تعليم العلم لهذا العهد قد كاد ينقطع".
وتلك النظم، دولة السلاجقة في الشرق، والمرابطين في المغرب، وسقوط الخلافة في قرطبة ثم في القاهرة وأخيرا في بغداد، وتطاول السلاطين والأمراء المتغلبين، كانت بحاجة إلى تبرير شرعي للأمر الواقع، فقرب السلاطين والأمراء المتغلبين الفقهاء منهم. فنشأت بينهما علاقة مصلحيه متبادلة، يستهدف السلطان منها التسويغ الشرعي لحكمه المستبد، ففتوى الفقيه للسلطان تنشر ثقافة الخوف والتطويع بين الرعية، ليسهل عليه حكمها. في حين يرمي الفقيه إلى حيازة المال والثروة نظير ما يقدمه للسلطان من الفتوى في هذا الصدد.
وفي هذا الإطار لعب المذهب الأشعري دور الريادة، وقدم أنموذجا لتطويع النص الديني في خدمة السلطان، فكان امتداد لمذهب الأرجاء "دين الملوك" وكان أتباعه "أعوان من غلب"، وتعاظمت ظاهرة التبرير الشرعي من الفقهاء للحكام، فشرعوا وسوغوا دينيا هذه الظاهرة، فدونوا مصنفات في النصح والإرشاد. قدموها للسلاطين والأمراء كحلول ناجحة للمشكلات المترتبة على الحكم الجديد، لضمان استمراريته وإخضاع الرعية لطاعته، وهذا يكشف عن حقيقة أسلحة السلطان الميكافيلية (الغاية تبرر الوسيلة) وتسييس الدين في حكم الرعية، وهذه الظاهرة متواترة في التاريخ العربي الإسلامي، ومستمرة في حياتنا المعاصرة، وهي العامل الأساس المهيمن في لجم حرية التفكير، وحرية النقد والتعبير، وإعاقة التطور الثقافي.
فتخويف العقل من التفكير في الأسباب والمسببات لحركة الحياة، بتهمة التكفير، نشرت في المجتمع العزوف عن حب المعرفة والبحث عن الحقائق الطبيعية، والاستسلام للقضاء والقدر، مما عزز ثقافة التشدد والتطرف الديني، وهذا هو المعادل الموضوعي لثقافة الفقر والجهل والخرافة والعجز السائدة.
وفي بداية القرن السادس عشر الميلادي، كان العالم العربي الإسلامي يعاني من التفكك وضعف أنظمة الحكم فيه، وتدهوره الاقتصادي وانحطاطه الثقافي، مما سهل على النظام التركي العسكري الديني، احتلاله وإخضاعه لسلطانه، باسم الدين وإنشاء مؤسسة الخلافة العثمانية، التي عززت أوهام المجتمعات العربية الإسلامية، بأن الدنيا دار فناء، وأن الآخرة دار بقاء، فبالغوا في العبادات على حساب التفكير المثمر، والاجتهاد الدنيوي المنتج ، مما زاد في استسلامهم إلى مفهوم:" قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".
واستمرت تلك الأحوال حتى القرن التاسع عشر الميلادي، حيث فتح العرب عيونهم على العصر الحديث، في سياق اصطدام كياناتهم بأوروبا الزاحفة عليهم بعساكرها، بحملة نابليون العسكرية الفرنسية على مصر. واحتلال الجزائر وتونس والمغرب وليبيا، وصولا إلى سقوط المشرق العربي في قبضة الاستعمار.
نبهتهم أوروبا إلى الفجوة الرهيبة التي تفصلهم عن العصر، ومدى تخلفهم الثقافي والحضاري، وكشفت لهم مدنيتها الحديثة عن معضلات وتحديات جديدة، و اكتشفت نخبهم الفكرية بان الجواب عنها ليس ممكنا أبدا من داخل الثقافة الإسلامية الموروثة، وان انتهال معارفهم من هذه أل "أوروبا" مسلك لابد من سلوكه.
لكن النخب الفكرية العربية، لم تكن على الدرجة نفسها من الاستعداد الفكري و النفسي، لفتح خط العلاقة بالفكر الأوروبي الحديث، كي تأخذ منه. كان هناك الممانع المتهيب، والمقدام بغير قيود، والمتردد بين بين، والممانع المتعصب للثقافة السائدة، فلم يكن خطاب العقل في الفكر العربي، خطاب تيار فكري بعينه، بهوية واضحة المعالم، كان متعدد الحدود بين تيارات ذلك الفكر، وقد تفاوتت نسب أو درجات الإيمان بسلطان العقل ومرجعيته في كل تيار.
جربت العقلانية الإسلامية الإصلاحية أن تنشد إلى أصولها التراثية، مع الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، ولأنها لم تستطع أن تتفادى الانتباه إلى المدنية الأوروبية ومنظوماتها الفكرية والثقافية، أخذت تدعوا إلى تجديد المفاهيم الدينية (خصوصا النصوص الظنية) بما يناسب العصر الحديث، ودعت إلى تجديد الثقافة بالعلوم والمعارف الأوروبية. إلا أنها أخفقت في تكوين تيار عقلاني عربي إسلامي بعينه، ليكون قادرا على تحقيق ذلك.
وحاولت العقلانية الليبرالية أن تنصرف كلية إلى الفكر الغربي الحديث. تستقي منه توجهاتها ومقالاتها. لكنها لم تقو على تجاهل العقلانية التراثية، الرشدية (فرح أنطون) والخلدونية (طه حسين)، ولم تتمكن من تكوين تيار عقلاني بعينه، يمتلك المنهج النقدي لمكافحة الجوانب الفاسدة في الثقافة السائدة المهيمنة على ذهنيان وعقليات أفراد المجتمع، فتحالفت الطبقة الحاكمة المستبدة مع رجال الدين التقليديين، والفئات الرجعية المتنفذة في المجتمع، التي كانت وما زالت تملك القوة في المحافظة على استمرار هذا الفساد الثقافي والتخلف الحضاري.
فحرية التفكير والتعبير والعقلانية في هذه الثقافة تقع ضحية التعصب الفردي والفئوي والطائفي، مما يمنع حدوث أي حوار بناء يفتح مسلكا للتغيير والتطور، وربما أدى أي حوار إلى الخصومة والاقتتال، فإذا اختلف مواطن معتدل مع مواطن متعصب، فان هذا المتعصب يسرع إلى اتهام المعتدل بالكفر. وإذا اختلف مواطن مستقل سياسيا مع مواطن موالي للسلطة أو لفصيل يتبنى فكرا شموليا. يسرع هذا الأخير إلى تخوين المواطن المستقل، أو اتهامه بالعمالة لجهات أجنبية، فأصبح غالبية أفراد المجتمع، دواجن في مستعمرة الخوف: الخوف من بطش السلطان، وغواية الشيطان، وعقاب الرحمن، والخوف من الوقوع في العيب والحرام والخوف من الفضيحة والعار، وانكشاف الأسرار، ومذهبهم في الحياة التستر بالنفاق، وعبادة الطاغية والطغيان، والاطمئنان إلى الأوهام، فدهنياتهم ومفاهيمهم العقلية الشديدة الشبه بذهنيات العبيد، أنتجت بينهم ثقافات الفئوية والطائفية والتعصب والعنف، هذه الثقافات تؤدي بهم إلى الاقتتال والخراب.
لكن الحضارة الإنسانية المعاصرة، تنتجها المجتمعات الأوروبية، التي تتميز بثقافتها العلمية المدنية الديمقراطية، التي تتجلى بحرية التفكير والانفتاح على دراسة الواقع بالتحليل والنقد والبحث العلمي، ووضع البرامج المؤدية إلى استمرار صناعة ثقافة التغيير والتطور والتحديث.
ومما يثير الدهشة والتساؤلات أن هذه المجتمعات كانت في ظلام العصور الوسطى أكثر تخلفا من المجتمعات العربية، فكيف استطاعت الوصول إلى هذا المستوى الثقافي والحضاري، والمجتمعات العربية ما زالت عاجزة عن تحقيق ذلك؟
فلم تكن هذه المجتمعات في العصور الوسطى ندا لقوى الطبيعة، وكانت ثقافة الجهل والتعصب والتخلف سائدة فيها، مما سهل على طبقة الإقطاع الحاكمة المستبدة، والمتحالفة مع الكهنوت الكنسي الديني (الطالباني) نشر ثقافة الخوف والتدجين فيها، واستمرت معاناتها حتى تمكنت من أن تكون ندا لقوى الطبيعة وتسيطر عليها وتستثمرها في تطوير حضارتها، وأنتجت الطبقة الرأسمالية الوطنية التي تحالفت مع التقدميين والمثقفين المبدعين والمخترعين فنشأت طليعة اجتماعية سياسية ثورية, قامت بفصل الدين عن السياسة ونظام الحكم، وهزمت طبقة الإقطاع وحلفاءها من الرجعية الدينية والاجتماعية والفئات الطفيلية المنتفعة، وعملت على بناء المجتمع المدني الديمقراطي، بإطلاق حرية التفكير والتعبير وحرية الاعتقاد وحرية الاختيار، وثقافة الحوار المدني الديمقراطي.
هذه الطليعة حررت تفكيرها وعقولها من العادات والتقاليد الموروثة، التي عملت على تكريس سوء الفهم وتشويه التفكير والذهنيان والمفاهيم العقلية، ولجم حرية التفكير والتعبير والإبداع، وتبنت حرية التفكير و منهج التفكير العلمي في مواجهة التحديات على ارض الواقع الاجتماعي والطبيعي، وأنجزت الدراسات ووضعت الخطط والبرامج العلمية والعملية التعليمية والتربوية والتثقيفية، وأسس التفكير النقدي، في خدمة صناعة ثقافة التغيير.
فلم تجد أي صعوبة في رفض أي رأي من الآراء، أو مذهب من المذاهب اطمأنت إليه، سابقاإذا اكتشفت من الحقائق الطبيعية ما يناقضه. ومن خلال التنمية الاقتصادية والمنتجات الثقافية التقدمية المرافقة لها، أخذت تعمل على تفكيك الذهنيات والمفاهيم العقلية الجامدة التي تحتضن ثقافة التخلف، وعززت مسيرة التنمية البشرية والاجتماعية بنشر الثقافة العلمية، وتعميق ثقافة القيم الديمقراطية، والالتزام الجماعي بالمشاركة المدنية الديمقراطية في صنع القرار السياسي، وما زالت تواصل العمل في التنمية والتطور والتحديث، ومضاعفة آفاق حرية الإنسان بالقضاء على الحرمان بالإشباع و الحب والسلام، والمزيد من خيرات المعرفة العلمية لتعميق إنسانية الإنسان حتى تمكنت من المعرفة والثقافة الجدلية، والمعرفة والثقافة التطويرية، وامتلكت بذلك الريادة والإبداع في صناعة حاضرها ومستقبلها الثقافي والحضاري المتجدد، وربما مستقبل العالم أيضا، الذي دخل عصر العولمة في ظل تفوقها فكيف تتعامل المجتمعات الإنسانية الأخرى مع هذه العولمة؟
إن معظم المجتمعات في العالم الثالث، أصبحت مجتمعات استهلاكية خاملة، تعيد إنتاج التخلف، فما هي الأسباب والمعيقات التي أقعدتها عن التغير والتطور؟ هل هي في أحوالها الداخلية؟ أم في الأسباب الخارجية؟ هل هي في ضعف التنمية الاقتصادية؟ أم في عدم ظهور طبقة اجتماعية قادرة على التغيير والتطوير؟ أم أن جميع هذه الأسباب الموجودة في حراكها الاجتماعي أدى إلى خمولها الثقافي؟ لكن كيف تمكنت بعض المجتمعات في شرق آسيا من اللحاق بهذه الحضارة المعاصرة، والمشاركة في الإنتاج الحضاري.
فحضارة المجتمع الصيني من أقدم الحضارات الإنسانية الحية المتجددة.فهذا المجتمع منذ آلاف السنين في صراعه مع طبيعة أراضي بلاده الغنية بالخيرات والثروات، كان ندا لها، وغالبا ما يكون متفوقا عليها مما مكن عقليتة الفردية والجماعية من الانفتاح الذهني على حب المعرفة الطبيعية والاجتماعية والبحث عنهما واستثمارهما في اختراعاته وتنظيماته وتطوير حياته، فبجهده المتواضع يجني منها الوفرة التي تعزز ثقته بنفسه وشعوره بأنه سيدا لها، وقد نظر الصينيون إلى العالم على انه جواهر متصلة ضمن نسيج مرتب، قدسوا الطبيعة والحياة و الإنسان والمبدعين، اهتموا بالعلاقات الإنسانية، مثل زيارة الأهل والأصدقاء، الفرد في مجتمعهم عضو في الجماعة، القرية، العشيرة، الأسرة، يعمل في دائرة منظمة وفي تناغم وانسجام. والسعادة عندهم في العمل الجماعي، مثل عمل منظومات الري، وعمل عربة اليد، ومحابس المياه والقنوات، وجني المحاصيل، وغيرها من الأعمال.
بهذا تفوقت الحضارة الصينية تقنيا على كل الحضارات القديمة.فهم أصحاب الاختراع الأول، وإنجازاتهم تعكس عبقرية الممارسة العملية لديهم، وتفيد بقلة اهتمامهم بالتفكير المجرد وعدم إيمانهم بالغيبيات وعمق إيمانهم بالحياة والموجودات. فذهنياتهم العقلية في تفكيرهم بشؤون الحياة والموجودات، لا تقيدها الخرافات، ولا تشوه الأوهام صفاء رؤيتها للحقائق الطبيعية، فهي تعمل بحرية من خلال تفكيرهم الوجودي والعملي وإدراكهم لجدليات الطبيعة والحياة والمجتمع، وفهمها والسيطرة عليها ما أمكن. وهذه من مميزات المجتمع الصيني المدني.
نشأت الثقافة والحضارة الصينية على حب المعرفة لهذا الواقع، وتجلت عبر المسيرة التاريخية، بصياغة متناسقة من مذاهب الطاوية والكونفوشوسية والبوذية، التي أجمعت على قدسية الوجود الحسي والتفكير النقدي، والتأكيد على مفاهيم التغيير والتطور من خلال جدليات التناقضات في الطبيعة والحياة والمجتمع، ضمن تناغم وجودي متواصل.
إلا أن الأباطرة والأمراء وطبقة الإقطاع في الصين وعلى مر العصور، عملت بأساليبها القمعية والاستغلالية على إعاقة تطور الثقافة والحضارة الصينية، وعندما قامت الثورة الصينية في منتصف القرن العشرين، كانت الذهنيات والمفاهيم العقلية في الثقافة الصينية، من العوامل الأساسية في نجاح الثورة، وبفضل الوعي الجدلي للقيادة السياسية والطلائع الاجتماعية الثورية الجديدة، التي وضعت برامج ثقافة التغيير المناسبة لثقافة المجتمع حيز التطبيق، أخذت هذه الثقافة تستوعب الإنجازات العلمية والتكنولوجية لعصر العولمة، وأصبحت عضوا فاعلا في المجتمعات المعاصرة، تشارك في صناعة التنمية الثقافية والحضارية المعاصرة، دون أن تفقد جذورها الثقافية الحية المتجددة.
هذه القراءة للخصوصيات الثقافية للحضارات العربية والأوروبية والصينية. تبين أن المجتمع الصيني، انتقل بثورته الحاملة لبرامج ثقافة التغيير، من ثقافة الاستبداد الإقطاعي والتدجين، إلى ثقافة الحرية الفردية والجماعية... للوصول إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.
وأن الحضارة الأوروبية انتقلت بثوراتها الاجتماعية، عبر ثقافة التغيير من ثقافة الوصاية الدينية المغيبة للعقل، والتي جعلت المجتمع كالقطيع، إلى ثقافة إحياء العقل وتفعيله، بفصل الدين عن السياسة ونظام الحكم، وبالحرية الفردية والجماعية، وحرية التفكير الفردية على أساس المعرفة العلمية، وحرية التعبير المؤدية إلى الإبداع والسعادة وتوسيع آفاق الحرية، فأنتجت الإنسان السيد الحر.
أما المجتمعات العربية، ورغم عصر التنوير الذي يبدأ لديها منذ قرنين، فهي في ثقافتها المعاشة، ما زالت تحيا في مستنقعات الركود والحيرة والتردد، مغيبة العقول كالقطعان في المراعي، ضحية الثقافة الرجعية. فكلما حاولت حركة ثقافية تقدمية العمل اجتماعيا في صناعة ثقافة التغيير، تتصدى لها شرائح الثقافة الرجعية الاجتماعية، وتقضي عليها باسم الدين والعادات والتقاليد، وهي ضحية الرأسمالية التجارية المحلية الوسيطة، التي تشتري المنتجات الأجنبية وتبيعها للمجتمعات العربية بالأسعار التي تنافس الأسعار المحلية، مما أفشل الكثير من المحاولات في تطوير الإنتاج المحلي، فبعد أن كانت هذه المجتمعات تنتج من المواد الغذائية ما يزيد عن حاجتها، أصبحت تستورد المواد الغذائية وغيرها من المواد لسد عجزها الإنتاجي، مما أضعف مفهوم المواطنة والولاء للوطن لدى أفرادها، وشتت ولاء القوى الاجتماعية للفئة والطائفة والعشيرة والمذهب الديني، لهذا فان بلادهم أصبحت قابلة لأن تستباح وأوطانهم قابلة للتفكك، فعلى رأس كل بلد عربي تقف النخب السياسية المستقلة ومعها جموع من النخب العسكرية والمالية المرتزقة التي تمتلك حق إصدار القرار وحق الإشراف على تنفيذه وحق التصرف في ثماره لمصالحها بغض النظر عن مصلحة الوطن. وهذه السياسة أفرزت أنماطا من الممارسات التي تخفي وراءها أوضاعا من التخلف و التخليف والفوضى والفساد، والاستئثار بالسلطة والثروة والإعلام والحقيقة، وعملت على إقصاء كل الحقول الأخرى التي يمكن أن تكون نشطة في المجال الاجتماعي، خصوصا الحقل الثقافي، فهو مغيب في أساسه، خصوصا حين نضع في الاعتبار أن القهر المنظم والموجه للمثقفين التقدميين أكبر من كل طاقاتهم في حال كونهم منفردين.
في مثل هذا الوضع الإشكالي المأزقي تبرز الأهمية المحورية الكبرى للدعوة إلى تأسيس مؤتمرات على مستوى البلد العربي الواحد، يتداعى إليه مثقفون تقدميون، وبدعم من القوى الوطنية التقدمية ليتحاوروا في ثلاث مسائل. تتمثل الأولى في الوضعية المتردية التي يعيش فيها هؤلاء المثقفين باعتبارات ثلاثة، هي: الحرية، والكفاية المادية، والكرامة. والمسألة الثانية تبرز بصيغة النظر والبحث في شؤون بلدهم، واكتشاف المداخل إلى إصلاح واقع الحال، وتطويع مسالك ثقافة التغيير بأدوات علمية دقيقة وعبر مشاركة حثيثة من الباحثين والعلماء المعنيين، والكتاب المبدعين. والمسألة الثالثة تقوم على تحديد المشاركة الفاعلة التي يتعين على المثقفين التقدميين أن ينجزوها في حقلهم، وتأسيس منابر ثقافية جديدة، تحليلية نقدية وبناءة، تعتمد ثقافة التغيير والتطوير والتحديث، ورفع مستويات الإنتاج الثقافي التقدمي الإبداعي، وإعادة النظر في وسائط النقل والدعاوى الثقافية على نحو يتيح لذلك الإنتاج أن يدخل ويصل إلى غالبية الأوساط والفئات الاجتماعية في بلد معين ومرحلة معينة ويزرع في عقولهم ونفوسهم تدريجيا ثقافة القيم والمبادئ المدنية الديمقراطية.
وحتى يكون عمل هذه المؤتمرات صحيحا منذ البداية فلا بد لها أن تستفيد من التجارب والدروس التي مرت بها كل من الحضارة الأوروبية المعاصرة، والحضارة الصينية التي اجتهدت وسارعت في الدخول إلى عصر العولمة الثقافية والحضارية، وأخذت تشارك في صناعتها. فلتبدأ المؤتمرات الثقافية في البلاد العربية، بصناعة ثقافة التغيير الاختياري، قبل أن تفرض العولمة بالقوة العسكرية التغيير الثقافي القسري عليها.
محمد نضال دروزه.
المراجع:
- أبو حيان التوحيدي: الإشارات الإلهية.
- ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة.
- ابن فرحون: الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب.
- مقدمة ابن خلدون.
- سعيد بن سعيد: الخطاب الأشعري.
- الأشعري: الإبانة عن أصول الديانة.
- محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي.
- محمود إسماعيل: تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.
- مهدي عامل:ازمة الحضارة...، أم أزمة البرجوازية العربية.
- حسن حنفي: هموم الفكر والوطن.
- ريتشارد أي. نيسبت: جغرافية الفكر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. ناشطون يدعون إلى محاكمة المعتقلين السياسيين وهم طلقاء


.. كلمة مندوب دولة الإمارات في الأمم المتحدة |#عاجل




.. فيتو أميركي يفشل جهود عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدة


.. الجزيرة تحصل على شهادات لأسيرات تعرضن لتعذيب الاحتلال.. ما ا




.. كيف يُفهم الفيتو الأمريكي على مشروع قرار يطالب بعضوية كاملة