الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شبابيك الدين تعود من جديد

بلحسن سيد علي
كاتب ومفكر

(Bellahsene Sid Ali)

2021 / 4 / 10
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


عندما قال كارل ماركس الدين أفيون الشعوب لم يكن مخطئا، وعندما وصفت رجال الدين بأنهم مصيبة كذلك لم أكن مخطئا، وإذا صارت سلطة الدين هي الحاكمة فلا تتعجبوا أن تتحول شبابيك الجهل إلى شبابيك من حديد.
منذ أيام استيقظ سكان مدينة شرشال الحضارية على مصيبة أخرى من مصائب رجال الدين، وان لم تكن الأولى إلا أنها الأعظم منذ أن شببت عن طوقي واتصل حبلي بحبل مصائبهم، مدينة شرشال لا تحتاج إلى تعريف بتاريخها الطويل من قبل قدوم الفينيقيين إلى شمال إفريقيا حين كانت تعرف بإيول، فقد كان للمصريين اتصالا وثيقا بها وليس من العجب أن تجد كثير من الباحثين في التاريخ يعتقدون أنها كانت مستعمرة مصرية في الفترة التي تسبق 1500 ق.م وذلك راجع لاكتشاف تمثال مصري منحوت من البازلت الأسود وهو موجود إلى يومنا هذا بمتحف المدينة، مرورا بازدهارها في عهد القرطاجيين إذ كانت مركزا حضاريا وتجاريا هاما في حوض البحر الأبيض المتوسط بأكمله، ثم تحولها إلى واحدة من أهم مدن المملكة النوميدية إذ تقول المصادر التاريخية بأنها خضعت لحكم صفاقس ثم بعد سقوط قرطاجة استرجعت من طرف الملك النوميدي مسيبسا ابن ماسينيسا ثم بوخوس ملك موريطانيا، إلى أن سقطت في حكم الرومان بعد انتصارهم على المملكة النوميدية حوالي 105 ق.م، وحكمت من طرف يوبا الأول وابنه يوبا الثاني الذي جعل منها عاصمة لموريتانيا وحولها اسمها إلى القيصرية، وأصبحت حينها مركزا للثقافة اليونانية والرومانية ورغم أنها فقدت استقلالها في عهد بطليموس ابن يوبا الثاني وأصبحت تابعة لروما إلا أنها حافظت على مركزها الحضاري إذ تحولت إلى عاصمة للولاية الرومانية، وبعد قدوم الوندال دمرت المدينة بشكل كبير وفقدت الكثير من معالمها وكل محاولات البيزنطيين عند قدومهم حوالي 543 م لإعادتها إلى سابق عهدها إلا أن شرشال فقدت الكثير من تاريخها الحضاري في تلك الفترة، وكذلك بعد الفتح العربي الاسلامي لشمال افريقيا ضلت شرشال التي اكتسبت هذا الاسم في تلك الفترة بعيدة عن تاريخها وحضارتها، والمحطة الأخيرة التي مرت عليها هي فترت الاستعمار الفرنسي الذي قام بتدمير الكثير من المعالم الأثرية للمدينة فقط من أجل استغلال حجارتها في البناء ولكنه في الوقت نفسه استخدم ذات الحجارة في ترميم المعبد الروماني الذي أصبح كاتدرائية القديس بول والذي تحول من بعد الاستقلال إلى مسجد وهو ما يعرف اليوم بمسجد الرحمن.
يعتبر مسجد الرحمن من أهم المعالم الأثرية النابضة بالتاريخ الطويل للمدينة إلا أنه منذ أيام تم وضع سياج أو شباك من حديد ليحيط به ويشوه منظره بدعوى صون لحرمة بيت الله ومنع النجاسة والأوساخ عن بيت الله وحسب قول رئيس لجنة المسجد: "فإن عمال نظافة مسجد الرحمن لم يتمكنوا من السيطرة على الأوساخ والنجاسة المترتبة عن اتخاذ مدخل المسجد مأوى لبعض المشردين، الذين نعرب عن تضامننا معهم ونتأسف لحالتهم المزرية" فيا له من تضامن.
كما صرح إمام المسجد بأن واجهة المسجد أصبحت مأوى للمشردين والمجانين نساء ورجالا مما يستدعي في الكثير من الأحيان تدخل الشرطة لأخذهم بعيدا وذلك لما يسمع المصلون داخل المسجد من صراخ وكلام غير لائق وخصومات تقع بينهم، ناهيك عن الأوساخ والنجاسة التي يزيلها عمال المسجد يوميا وفي بعض الأحيان يقع من الأشياء المخلة بالحياء ما يستحي المرء عن ذكره. ويا له من تبرير
العجيب في الأمر أنه لم يذكروا أبدا بأن المشردين أو المجانين قد اتخذوا من هذا المسجد بالذات مأوى لهم لأمانه من جهة إذ يقيهم من الشتاء والبرد فيحتمون به ويتغلبون على ظروف التشرد، ولثقتهم برواده إذ في اعتقادهم بأنهم أرحم من غيرهم وما هم بمن يطردهم أو يعتدي عليهم، وإذا كان لهم من فساد في تصرفاتهم وفضلاتهم وأوساخهم وكل ما جاء على لسان رئيس جنة المسجد وإمامه فعلاجه لا يكون بتشويه واجهة مسجد يعتبر معلما أثريا وحضاريا قبل كل شيء، وإنما باستخدام العلاقات التي خولت لهم بأن يتحصلوا على موافقة السلطات المدنية من رئيس دائرة وغيره في إيجاد حلول أخرى عوض القيام بسياج يحيط بالمسجد وباب يغلقه ليتحول المعلم إلى سجن أو زريبة، كان أولى لهم أن يستغلوا الكميرات الموجودة في المسجد وبالتنسيق مع السلطات العمومية ليتقوا شر المجرمين والمفسدين الذين يتخذون من باب المسجد مهربا لهم، وكان بالإمكان أن ينسقوا مع السلطات العمومية ليقوموا بترحيل المشردين إلى مكان ثان أو على الأقل طردهم وتركهم يتفرقون على المبيت في أماكن مختلفة، كان يمكن للجنة المسجد ذاتها أن تنسق مع السلطات لإرسال المجانين إلى المستشفى الخاص بهم، كان يمكن إطلاق حملة عامة يشارك فيها كل رواد المسجد لتنظيم المدخل وطرد المشردين إلى مكان آخر، الحلول موجودة وهم يقولون بأنهم قد حاولوا بكل جهدهم ولكنهم لم يصلوا للنتيجة المرجوة، سنقول لهم وحتى هذا لا يبرر بناء السياج دون الرجوع للرأي العام ولرأي المواطنين وخاصة رأي المختصين، لأن ذلك يعتبر تعدي على حرمتهم إذا كان بناء السياج يعتبر في نظرهم صون حرمة بيت الله، أيعقل أن تصان حرمة بيت الله فوق حرمة رأي المواطنين، وفوق حرمة الحضارة والتاريخ، أيعقل أن تصان حرمة الله بالانغلاق والتعصب، والتعدي على حرمة الانفتاح والشورى، وإذا لم يستطيعوا أن يصلوا لدرجة الرقي الحضاري فالمشكل فيهم وفي انغلاقهم وليس في سكان المدينة الذين استاءوا وعبروا عن رأيهم الرافض لمثل هذه لتصرفات الانغلاقية، وهنا قد يقول قائل بأن رأيي قاس جدا اتجاههم وقد واجهت انغلاقهم بانغلاق آخر أو واجهت التعصب بتعصب آخر، سأقول كلا لأنهم مارسوا بسلطتهم فعلا أما نحن فلا سلطة لنا، وما فعلوه هو احتقار وتهميش للمواطنين وكذا تعدي على حرمة الحضارة والتاريخ أما ما نقوله نحن فهو رأينا في أفعالهم ولسنا لنتعصب للرأي أبدا.
أمر أخر قد لمسته من بعض المدافعين على هذا التصرف الشنيع في نظري ألا وهو تبرير فعلهم بما يصنعه الغرب من فعل مماثل لحماية كنائسه ودور عبادته، إلا أن الأمر مختلف كل الاختلاف لأن في الغرب السبب أو الظروف التي أدت بمثل هذه الأعمال ليست أوساخ المشدرين والمجانين، وإنما أوساخ الجريمة والتعديات أما المتشردين والمجانين فمأواهم غرف خاصة تبنى لهم بجانب دور عبادتهم وإطعامهم وإيوائهم يعد فعلا إنسانيا ثم دينيا بالنسبة لهم، فلست أدري كيف أصبح عندنا طردهم وإغلاق واجهة المسجد أماهم فعلا دينيا نبيلا، ثم أن الذي يضع السياج في الغرب هو السلطات العمومية بهدف حماية المواطنين وليس حماية حرمة الله، أما عندنا فلجنة المسجد هي التي تقوم بذلك لأنها تمتلكه في نظرها وهي الوحيدة التي تمتلك حق حماية حرمة الله والاختلاف في بيننا وبين الغرب واضح ولا داعي لتبرير التشويه بتشويه آخر.
أعتقد أنه من الحري بنا أن لا نسكت في وجه هذه التصرفات لأنه في نهاية المطاف نحن لا نمتلك إلا رأيا نواجه به سلطة الدين التي تريد أن تتحكم فينا شيئا فشيئا، فبالإضافة إلى البداوة التي تشكل وعي جزء كبير من المتدينين الذين لا يهمه التاريخ ولا الحضارة وكل ما يهمهم بسط سلطتهم على غيرهم هناك وعي التملك الذي أصبح باد للعيان بأنه يشكل وعي معظم رجال الدين في بلادنا، اذ أنهم يعتقدون بأنهم نواب الله في الأرض وهم المسئولون شرعا دون غيرهم من أجل صون حرمة المساجد، إلا أن الواقع ليس كما يبتغون ولهذا تجدهم يسعون جاهدا لامتلاك المساجد ووعي رواده ولجانه وكل من يقوم عليها وكل هذا تحت شعارات عاطفية دينية كمثل صون حرمة المسجد ونظافته.
كل الذي ذكرته يمكنني أن استعيض به بمصطلح آلان دونو الشهير التفاهة (La médiocratie)، وبما أن المقام هنا ديني فإن مصطلح التفاهة الدينية هو المصطلح الأنسب لوصف مثل هذه الأفعال، وإذا كان الخطاب الديني في معظمه استحمار فإن أفعال رجاله تفاهة دينية وهذا ليس سبا أو شتما أو تحريض على رجال الدين وإنما تحليل لما يقومون به والاستحمار والتفاهة مصطلحات علمية نفسية اجتماعية وليست تجريحية.
وفي الأخير أضيف أنه من العيب لنا أن نسمح نحن من ولدنا في هذه المدينة الحضارية أن نسمح بمثل هذه التجاوزات ولسنا ندعو للعنف ولا القوة لأنه ليس من شيمنا ولا طوق لنا به، وإنما كلامنا تنديد بما حصل ونداء لكل من يهتم بالحضارة والتاريخ أن يساعدنا في الدفاع على مثل هذه المعالم وحمايتها من أيدي من يريد امتلاكها، ثم أني تأخرت قليلا قبل أن أبوح بما في خاطري أملا أن يستفيق من صنع ما صنع ويتراجع عما أجرم إلا أننا قد نادينا وما أسمعنا حيا فلا تاريخ أو حضارة لمن كنا ننادي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيتزا المنسف-.. صيحة أردنية جديدة


.. تفاصيل حزمة المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل وأوكرانيا




.. سيلين ديون عن مرضها -لم أنتصر عليه بعد


.. معلومات عن الأسلحة التي ستقدمها واشنطن لكييف




.. غزة- إسرائيل: هل بات اجتياح رفح قريباً؟ • فرانس 24 / FRANCE