الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مأساة غيلان تراجيديا السياسة والثقافة على مر الأزمان

إبراهيم مشارة

2021 / 4 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كان غيلان الدمشقي رجلا مشهورا موسوما بمسيم القدرية (أي القول بالاختيار الحر للإنسان) وذلك لغرض التحذير منه فيكفي أن يقال هذا للعامة حتى ينصرف عنه الناس وعن دعوته، وقد كانت دعوته زلزالا سياسيا رج أعمدة الحكم الأموي الذي أدانه غيلان ورأى فيه خروجا عن روح الإسلام وروح الشورى ، وغني عن البيان أن خلفاء بني أمية رسخوا في الناس الفكرة التي فحواها أن حكمهم قدر من الله ولا مرد لقضائه،فالله اختارهم خلفاء وما على العامة إلا الانقياد والطاعة تنفيذا لإرادته، وعدم الانقياد هو عصيان لله وخروج عن طاعته، فطاعة الحاكم من طاعة الله، يقول محمد أبو زهرة "رأى بنو أمية أن القول بالجبر يوطد مركزهم ويوجه الأنظار نحو تبرير مظالمهم بنسبتها إلى قضاء الله وقدره فكان من الطبيعي أن يعملوا جهدهم على نشر هذا الفكرة".
واحتج غيلان على هذه الفكرة لصالح الحرية الإنسانية إزاء السلطة القائمة وأنها ليست قدرا من الله بل هو القهر والغلبة وتفرق الرعية وضعفها ، وكان غيلان رجلا جامعا بين العلم وحسن السيرة فما عرف عنه طمع في منصب أو تقرب من حاكم لغرض شخصي ، يقول ابن المرتضي: "غيلان بن مسلم واحد دهره
في العلم والزهد والدعاء إلى الله وتوحيده وعدله" وعده من المعتزلة ومن طبقتهم الرابعة. وزاد بنو أمية في تشتيت المسلمين بتبني العصبية العربية على حساب الروح الإسلامية المنفتحة على كل إنسان مسلم ولو كان أعجميا لأن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى فأذاعوا رأيا شاذا سقيما قالوا فيه"لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة :حمار وكلب ومولى" والموالي هم الأعاجم بصفة عامة فضلا عن تشتيت العرب في صراع تاريخي رهيب حول ما يعرف في التاريخ بالقيسية واليمانية –عرب الشمال وعرب الجنوب- كما روت ذلك كتب التاريخ.
جاء غيلان في هذا الجو السياسي المتسم بالقهر وفكر وقدر ورأى أن روح الإسلام تقتضي الشورى وأن ما يحدث هو ملكية متسربلة بسربال الخلافة فدعا إلى حرية الإنسان إزاء السلطة ولم يجد الحكام ما يجابهون به هذا الرجل غير وسمه بميسم الكفر والزندقة حتى تتم محاكمته وإعدامه وتصدق العامة بالفرية وتعتقد أن الحاكم خلصها من زنديق ونصر الملة والدين.
حكاية قديمة تتكرر في تاريخنا الإسلامي والعربي راح ضحيتها قوافل من رواد الحرية والفكر والنزعة الإنسانية زلزلوا العروش بفكرهم ودعوتهم إلى السلطة الحرة الشفافة كما نقول بلغة اليوم وإلى الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وأدانوا تكديس الثروات ووراثة الحكم والطبقية الجائرة لأنها تتنافى ومبادئ الإسلام ولأن دعوتهم تقع من القلوب والعقول موقعا حسنا ،ولف الحكام وحاشيتهم من السياسيين وبعض الفقهاء – وعاظ السلاطين - كما يسميهم علي الوردي وألصقوا بهم تهما تتعلق بالعقيدة كالزندقة ، المروق ،الإلحاد، الشعوبية ، الوثنية وراحوا شهداء في سجلات التاريخ لفكرهم وروحهم الخلاقة الباحثة عن الحق والعدل والمساواة والحرية. ولا تعوزنا الأسماء وما أكثرها على شاكلة الحلاج والسهروردي وابن المقفع وصالح بن عبد القدوس وغيرهم .
حدث تقارب بين الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز فقد ناظر غيلان ولم يأمر بقتله بل رأى خطأه وجادله بالتي هي أحسن وأعجب عمر بنزاهة غيلان واستقامته وذكائه والتزامه بشعائر الإسلام فقربه وطلب غيلان من عمر أن يوليه على المظالم حتى يردها وكان يقصد أملاك الأسر الأموية من طنافس ومجوهرات وعقارات كما نقول بلغة اليوم وبيعها في المزاد ورد المال إلى بيت المال لينتفع بها المسلمون خاصة ضعفاؤهم، نفذ عمر طلب غيلان وولاه ديوان المظالم وكان غيلان يطوف في الطرقات مناديا على تلك الأملاك لبيعها ورد مالها إلى بيت المال.
وأحفظ هذا هشام بن عبد الملك – الذي سيغدو خليفة فيما بعد- فآلى على نفسه أنه حين تصير الخلافة إليه ليقتلنه شر قتلة !
وكان الحظ مع هشام فما إن تولى الحكم حتى دبر مناظرة لغيلان مع الإمام الأوزاعي انتهت بقتله بتهمة الزندقة وانطلت الحيلة على العامة فصدقت أن من قتل قتل زنديقا مارقا تخلص المسلمون من شره.
وقصة تلك المناظرة مروية في كتب التاريخ وأول انطباع يخرج به القارئ أن نية القتل مبيتة قبل المناظرة وهناك الإدانة أولا وعدم التكافؤ بين غيلان من جهة والأوزاعي وهشام من جهة أخرى فهناك القوة العسكرية والسياسية والدينية والدغمائية الشعبوية في صف هشام وهناك قوة الفكرة ونصاعتها في صف غيلان لكنها لن تنفع .
ثلاثة أسئلة لا ينتفع بها المسلمون ولا الحضارة كان يمكن لغيلان ألا يجيب ويطوى الموضوع أو حتى مع إجابته لن يخسر المسلمون شيئا قياسا إلى دعوته الجهيرة إلى العدالة الاجتماعية والمساواة والأخوة ، ثلاثة أسئلة مبرمجة من قبل الأوزاعي باتفاق مع هشام ،أسئلة ميتافيزيقية يتسع لها صدر الإسلام ومرونة الفكر الإسلامي وينفتح على التأويلات والقراءات المختلفة المتسعة : فالسؤال الأول هل قضى على ما نهى؟ أي الله والثاني هل حال دون ما أمر، والثالث هل أعان على ما حرم؟فقد كان غيلان يجيب "ما عندي في هذا شيء" انتهت بالحكم عليه بالزندقة وأزهقت روحه مع أن جوهر الموضوع كان سياسيا لكن السياج الدغمائي والقوة السياسية اختارت موضوع المناظرة بعيدا عن هذا لتتأتى الإدانة والإقصاء.
العجيب أن المعري قال أكثر من هذا في لزومياته وذهب في حريته الفكرية مذهبا بعيدا دون أن يناله أذى بل عاش محترما من قبل تلامذته ولو أنه وسم بميسم الزندقة أو المروق ولكنه لم يحاكم ولم يقتل :
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت
ويهود حارت والمجوس مضلله
اثنان أهل الأرض ذو عقلا بـــلا
دين وآخر دين لا عقل لـــــــــه

قضية غيلان كأحد أول ضحايا الحرية الفكرية والعلاقة الجدلية بين الحاكم والمثقف ولنسمه العضوي بتعبير غرامشي أو غير الاستعمالي كما يسميه حلمي القاعود أي الذي لا يضع نفسه في خدمة الحاكم بل الشعب أو ضميره فقط وقناعاته الفكرية.
تستمر المأساة في حياتنا المعاصرة وكأن التاريخ قدر له أن يعيد نفسه في عالمنا العربي فقط فمازال المثقفون التنويريون أو الأحرار أو المغردون خارج سرب الأنظمة يجابهون بكافة أشكال العنف البدني أو الرمزي وأشكال الإقصاء والتهميش والسجن والتضييق وحتى التصفية الجسدية.
تحدث الماغوط عن هذا في إحدى قصائده وهو يبوح لنا عن صموده ويشير إلى التضييق والترهيب الذي يلقاه كل حر فقال وهو يخاطب ابنتيه شام وسلافة :
معظم المبدعين والثوار العظام
يحملون أطفالهم مسؤولية التنازلات المتوالية
أمام الرغيف
والحذاء وقسط المدرسة
والدروس الخصوصية
وثياب العيد
وحبكما علمني تحمل الجوع والعطش والألم
تحت الشمس والمطر والثلج والمشانق
والصمود أمام المقابر الجماعية ودبابات الطغاة
هناك من الحالات ما يستعصي على الحصر بدء بمهدي عامل، وحسين مروة ، وفرج فودة وغيرهم.
ما لم يتم تكريس الحرية الفكرية في عالمنا العربي ودفاع الأنظمة ذاتها عنها باعتبارها المخرج من المأزق الحضاري الذي نعيشه وتكريس ثقافة الاختلاف والمغايرة وفق مبدأ التناغم والوحدة في التعدد سنظل ندور في نفس الحلقة المفرغة، فالأزمة العربية ليست أزمة موارد بشرية أو اقتصادية بل هي أزمة حرية وفكر خلاق قادر على مجابهة الإشكاليات الحضارية الراهنة وإيجاد الحلول العملية لها.
فالمثقف أولا وأخيرا ليس المكثر من التأليف ولا الأكاديمي صاحب الجوائز والتكريمات ولا الفصيح الناطق باسم الحكومة أو الرئاسة بل هو الإنسان الذي يضع نفسه في خندق المواجهة ضد التخلف والرجعية والاستبداد والطبقية من أجل إنسان (خاصة حقوق المرأة والطفل والطبقات الهشة كما تسمى) حر متمتع بحقوقه المشروعة والمكفولة شرعا وعقلا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عشرات المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى


.. فلسطينية: العالم نائم واليهود يرتكبون المجازر في غزة




.. #shorts - 49- Baqarah


.. #shorts - 50-Baqarah




.. تابعونا في برنامج معالم مع سلطان المرواني واكتشفوا الجوانب ا