الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا لا أومن بالسحر (1) تاريخ السحر وكيفية تطوره عبر العصور

بلحسن سيد علي
كاتب ومفكر

(Bellahsene Sid Ali)

2021 / 4 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لماذا لا أومن بالسحر (1)
لا يمكن لأحد أن ينكر أن السحر قد أضحى من أهم وأخطر المواضيع التي يهوى الجميع الخوض فيها، وكثيرا ما يزعجني ما يروج هنا وهناك من كذب وتلفيق وأباطيل، ولعلي لست أبالغ ان قلت أن كل ما قد روج في الجزائر لحد الآن لم يكن إلا أباطيل سحرية، سواء عن قصد وعلم وسبق إصرار، أو دون قصد وجهل وانحدار، وفي كلتا الحالتين فإن الذي ستقرؤه من خلال هذه السلسلة سيوضح لك حقيقة السحر وبطلان ما يروج له سواء باسم الدين وما دار مداره أو العلم وما نحا نحوه، وخاصة باسم الواقع والمخدوع والوهم المصنوع.
هذه السلسلة من المقالات تكشف الكثير من الخبايا عن السحر واستحالة الضرر منه إلا من خلال التأثير الوهمي، وتدلك في جوهرها على الطريقة العلمية التي تخول لك فهم هذه الظاهرة التي يسميها فلاسفة العلم "بالعلم الزائف" في حين أضحت عند معظم المسلمين العقيدة الراسخة التي يفسر من خلالها كل مجهول أو معقد، كل مرض أو عجز كل إخفاق أو سوء تدبير، وقبل الولوج إلى هذه الظاهرة أنوه بأن كل هذه المقالات مقتبسة من روايتي آلازونس وهي متوفرة على الأنترنت مجانا.
تاريخ السحر وكيفية تطوره عبر العصور
من خلال العنوان التي قرأته الآن قد اتضح لك عزيزي القارئ أني سأعود بك إلى التاريخ البعيد وإلى قديم الحضارات الإنسانية لنستقصي أخبار السحر والسحرة، ولنرى كيف كان وكيف أصبح، والمغزى من ذلك هو المقارنة بين حاله في القديم وإلى أي صورة أصبح، وفهم أصله وكيفية تطوره، لأن معرفة كنه الشيء لا يكون إلا بمعرفة أصله وطريق وصوله إليك، وعليه كان لزاما علي أن أنصحك أن تميط من ذهنك تلك الفكرة التي تقول لك بأنه ليس هناك داع لقراءة هذا التاريخ وأنت في النهاية ستجد نتيجة البحث بين يديك، كلا أخي إن النتيجة لن تكون مفهومة إلا إذا وصل إلى فهمك سر تطورها وأصلها الأول، إن فهم الأصل الأول للسحر والسر وراء تطوره على هذا النحو الذي هو عليه، هو المفتاح الأول لفهم كنهه وحقيقته فلتتأن معنا ولا تستعجل بضنك فيضيع عليك جزء عظيما من الحقيقة.
إن أول مصدر مكتوب يبحث في تاريخ السحر وأصوله هو كتاب التاريخ الطبيعي للمفكر الروماني بلينيوس الأكبر الذي عاش في مطلع القرن الأول ميلادي، في كتابه أو موسوعته التاريخ الطبيعي والتي لم يتبق منها إلا حوالي 37 مجلدا، حاول أن يلخص كل المعرفة العلمية المتراكمة إلى غاية زمانه، وبما أن السحر ظاهرة لا يمكن تجاهلها قد ترك لنا ما وصله من معرفة عنها، وحسب ما وصل إليه فإنه في عصره كان المفكرون والفلاسفة والمهتمين بالتاريخ شبه مجمعين على أن أصل السحر الأول هو بلاد فارس وتحديدا في زمن ظهور زرادشت، والذي أصبح له أتباع بل وحتى ديانة والتي تسمى اليوم بالزرادشتية نسبة إليه، هذا النبي أو المفكر أو الفيلسوف قد عاش قبل حوالي ستة آلاف سنة قبل الميلاد بحسب الحسابات التي أجراها عالم الرياضيات الإغريقي يودوكسوفس والفيلسوف العظيم أرسطو، إلا أن السحر لم يظهر في بلاد الإغريق إلا بعد تلك الحملة الفاشية التي شنها المالك الفاريسي خشايارشا وهذا كان حوالي 480 قبل الميلاد، وعندها ظهر ساحر يدعى أوستانا الذي يعتقد بأنه أول من دون السحر في تلك المنطقة، ثم انتشر السحر وافتتن الناس به، بل وحتى كبار فلاسفة تلك الحقبة من الزمن مثل فيشاغورس وأفلاطون وديمقراطيس قد شدوا رحالهم نحو الشرق أي إلى بلاد فارس لتعلم المزيد عن هذا العلم الغامض.
في تلك الفترة من الزمن ظهرت الكلمة اليونانية "ماجيا" والتي كانت تستخدم في بداية عهدها للإشارة إلى الطقوس التي يؤدوها السحرة، والتي أطلق عليهم اسم "الماجوي" والمفرد هو "ماجو"، هذه الكلمة التي ترادفها في تراثنا كلمة الماجوس، والتي اشتقت في أصلها من الكلمة الفارسية "ماركوز"، وحتى كلمة "ماجيا" لم تكن مألوفة لدى الإغريق في بداية عهدها، وكانوا يستعملون عدة مفردات أخرى لوصف أي شيء يمكن أن يصنف على أنه سحر، فقد استعملوا لفظ "نيكومانتشيشا" للدلالة على التواصل مع الموتى لأغراض تنبؤية أو ما يعرف باستحضار الأرواح، واستعملوا لفظ "فارماكا" للدلالة على التعاويذ والعقاقير والسموم والمواد المختلفة التي يستعملها السحرة أو الماجوي، واستعملوا أيضا لفظ "جويتس" لقصد أولائك المشعوذين الذين كانوا يقومون بخداع عامة الناس، والتي كانت تستخدم هي ولفظ الماجوي للدلالة على نفس الممارسة ألا وهي السحر والشعوذة، وكما لا حظنا صديقي القارئ فإن كلمة "ماجيا" كانت في بداية عهدها غريبة على اللسان الإغريقي، وكانت هناك عدة ألفاظ أخرى تشاركها للدلالة على السحر ومختلف أنواعه وفروعه، لكن مع مرور الزمن أصبحت هي الكلمة الأكثر تداولا وانتشارا في المجتمع الروماني، وبالرغم من هذا الانتشار للسحر في بلاد الإغريق إلا أن مصادر القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد كانت تذم السحر واتخذت موقفا عدائيا غير قابل لهذه الممارسات الدخيلة، فقد وصف سوفوكليس السحرة والمشعوذين بأنهم كهنة متسولون ومحتالون، وتصفهم مصادر أخرى بأنهم غريبي الأطوار ولهم ادعاءات عجيبة مثل القدرة على السيطرة على أرواح الموتى وشفاء المرضى، وتفسير الأحلام وكسوف الشمس ولهم في ذلك طقوس وممارسات غريبة، مثل إراقة الحليب كما قالت هذه المصادر أيضا بأنهم كانوا يمارسون طقوسهم في سر ويخفونها ويتلون ترانيمهم ويتغنون بها همسا، فاعتقد فيهم بأنهم كانوا يمارسون أيضا نكاح المحارم، وإذا عدنا إلى المصدر الأول وهو موسوعة التاريخ الطبيعي للعالم الروماني بلينسوس لوجدناه يتبرم من هذه المعتقدات والممارسات فقد سماها بأباطيل سحرية وأنكر فاعليتها، وهذه هي الغاية الأولى من هذا العرض البسيط عن السحر في بلاد الإغريق، فلم يكن السحر مسلما به بل كان مرفوضا من قبل العلماء والمفكرين، ليس لأنه دخيلا وفقط بل لأنهم لم يجدوا فيه إلا الخداع والكذب واللعب بعقول المستضعفين من البشر.
فلنعد إذا إلى بلاد فراس ونرى إن كان أصل السحر قد بدأ من عندهم حقا، خاصة وأن الزرادشتيون أو الديانة الزرادشتية عبر العصور اتهمت بعدة ممارسات وعقائد، وكان ذلك نتيجة لسوء فهمها أولا، والنقل التاريخي الغير الموثق ثانيا، فقد اتهم الزرادشتيون بأنهم عبدت النار وكم سمعنا عن المجوس بأنهم يعبدون النار، لكن الحقيقة هي أنهم كانوا يعتبرونها مصدر الحكمة لأنها أول ابتكار بشري عظيم، فما المانع أن تكون هذه الروايات التي تصرح بأن زرادشت هو الأصل الأول للسحر كاذبة أو خاطئة، توصلت العالمة الروحانية والرحالة هيلينا بتروفنا بلافاتسكي التي قد جابت عدة مناطق من العالم سعيا وراء معرفة أصل الحكمة والمعرفة الروحانية، إلى أن الهند هي معهد العرق البشري وأصل كل الديانات والمعارف الروحية وحتى السحر، ولدى الهندوسية كتب مقدسة تدعى "الفيدا" ولم تخلوا هذه الكتب من مختلف أشكال السحر والشعوذة، ففي الكتاب الرابع من كتب الفيدا والمسمى ب"آثارفافيدا" الذي يعتبره بعض المؤرخون بأنه الأقدم من بين كل نصوص الفيدا الأخرى، تجد حوالي 730 تعويذة وترانيم وتمائم متنوعة بعضها مخصص لطرد الأرواح الشريرة، والآخر للشفاء من الأمراض ودرء الشياطين المسببة لهذه الأمراض، كما أنك سوف تجد تشابه شديدا بينها وبين التعاويذ والنصوص السحرية الموجودة في حضارات البحر الأبيض المتوسط القديمة، وحتى أوروبا قرون الوسطى، فهل أصل السحر يعود لهذه النصوص حقا؟
هناك حضارات أقدم من الحضارة الهندية قد وجدت عندها بعض معالم السحر تماما كمثل تلك الموجودة في كتب الفيدا، فنصوص الأهرام المكتوبة باللغة الهيروغليفية والتي تعتبر أقدم النصوص التي خطها البشر ودون تاريخه بها تحوي بعض الآثار المشابهة للتعاويذ والرموز السحرية، ومعروف عن تاريخ المصرين القدماء بأن سحرتهم كانوا يعتمدون على معادلات جبرية ومجاميع وحسابات فلكية ورموز عويصة، ولهم أيضا طقوس في المأكل والملبس والعزلة، وحتى إجراءات التحنيط والدفن كانت متصلة عندهم اتصلا كبيرا بالسحر، وهذا لأنهم كانوا يستعينون في عملية التحنيط والدفن برقى وتعاويذ وعبارات سحرية وما كانوا يستغنون عنها، كما هناك بعض الآثار للتمائم والتعاويذ المكتوبة على الأواني والأحجار والجلد والرصاص، ولهذا شاع بين المهتمين بتاريخ المصرين القدماء أن لعنة الفراعنة التي تحل بكل من يحاول الاقتراب من مقابر آلهتهم عند الأهرامات، يعود سببها للسحر المدفون في تلك المقابر، لكن تاريخ البشرية الحقيقي لم يخلو من الرموز والرسوم السحرية حتى عند إنسان العصر الحجري، فهناك نقوش كثيرة على جدران الكهوف والمغارات نفهم من خلالها أن إنسان العصر الحجري كان يستعمل هذه الطقوس والتعاويذ لمحاولة قهر الطبيعة والسيطرة أو التغلب عليها، والأمثلة كثيرة وعديدة ولا داعي لإيرادها هنا.
إذا أخي القارئ لو تلاحظ معي مما سبق أننا كلما ازددنا غورنا في تاريخ البشرية كلما ازداد أصل السحر غموضا وغورا في تاريخ البشر، وأينما حططنا وعلى أي حضارة ألقينا بنظراتنا إلا وجدنا أن السحر متجذر في عروقها، فسكان جزر تروبرياند التي تنتمي لغينيا الجديدة لديهم تفسيرات أسطورية عن أصل السحر المنتشر لديهم، ومنها بأن أرواح الأسلاف التي تستقر في العالم السفلي هي التي علمت البشر السر وسنأتي للكلام عن مثل هذه المعتقدات التي تنسب السحر لقوى أخرى غير البشر وللشياطين وبالتحديد، ولهم أيضا تفسير آخر في شخصية أسطورية تدعى "تودافا" والتي كان لها بعض الخوارق على حد زعم ثقافتهم، شعب البوشمن المتواجد في صحراء كالهاري الإفريقية أيضا له تفسيرات أسطورية تشبه التفسيرات التي قبلها، ولو ذهبنا إلى بلاد العراق والبابليين القدماء فإنك ستجد تفسيرات وروايات جديدة عن أصل السحر، خاصة وأن البابليين اهتموا بعلم التنجيم الذي يدعي بقدرة تأثير الكواكب ومعرفة مداراتها على حياة البشر، وعليه فإن أصل السحر الحقيقي قد بدأ في الأصل مع تطور وعي البشر ومحاولاته الأولى للسيطرة على الطبيعة والتغلب على ظواهرها، التي كانت تبدوا شديدة الغموض، وسنأتي على شرح هذه الفكرة في المقالات اللاحقة والآن لننظر إلى تطور مفهوم السحر الأول عبر العصور اللاحقة وخاصة عند أصحاب الديانات السماوية.
منذ العصور الأولى للمسيحية أصبح مفهوم السحر مفهوما فضفاضا يطلق على ما هو غامض أو مخالف للمعتقدات المألوفة، سواء كانت داخل نفس الدين أو خارجه، وأصبحت الديانات السماوية تتهم فيما بعضها بالممارسات السحرية وحتى الطوائف التي تنتمي لنفس الدين لم تسلم من هذه الاتهامات، وذلك راجع لتلك الطقوس التي لم تزل تمارس إلى يوم الناس هذا، فقد كان للمسيحين الأوائل بعض الأنشطة مثل رسم الصليب وممارسة سر التناول وطرد الأرواح الشريرة، والتكلم بالألسنة واجتماعات الصلوات الليلية التي اعتبرت في نظر السلطات الرومانية ضربا من الطقوس السحرية، كما ظهرت طائفة الغنوصية التي اتهمت هي الأخرى بممارسة الطقوس السحرية، وحتى المذهب البروتستانتي الإصلاحي اعتبر بعض معتقدات وممارسات المذهب الكاثوليكي بأنه ضرب من السحر، فرفض قدسي هذا المذهب معجزات القرون الوسطى واتهم الباباوات الكاثوليكيين بممارسة استحضار الأرواح، واعتبروهم بأنهم مروجون للخرافة وكذبة محتالون على عقول الناس البسطاء.
واستمر هذا الاتهام إلى خارج الدين المسيحي ووجه إلى ديانات روما القديمة التي اعتبرتها الكنيسة منحلة وفاسدة وغارقة في الطقوس السحرية، وهذا لم يكن وقفا على الروم فقط أو الديانات الوثنية أو الشركية وإنما حتى على الدين اليهودي والإسلامي، فقد اضطهد اليهود عبر القرون الوسطى أشد اضطهاد لاتهامهم بممارسة شعائر سحرية فاحشة، كما اتهم الإسلام بأنه غارق في السحر وقد جاء على لسان عالم الاجتماع الرائد ماكس فيبر: بأن نشر الإسلام في إفريقيا كان يستند في المقام الأول على أساس ضخم من السحر، ظل من خلاله يتفوق على الأديان الأخرى المنافسة بالرغم من أن المسلمين الأوائل كانوا يرفضون السحر.
وبالتعريج على الإسلام فلطالما كانت الصوفية تتهم بممارسة الطقوس السحرية فهي تعتبر البعد الباطني والخفي لدرجة ما من الإسلام، وهذا لتركيزها العميق على شعائر دون أخرى كالزهد والتربية الروحية لبلوغ النورانية، ثم انتقل هذا الاتهام إلى المرابطون الذين انتشروا في شمال إفريقيا على أنهم أولياء صالحين واعتبروا بأنهم شكل وسط ما بين السحرة ورجال الدين الصوفية، فقد ذكر ابن خلدون على سبيل المثال بأن المتصوفة قد خاضوا في نوع من السحر وهو علم أسرار الحروف، فزعموا بأن للكمال الأسمائي مظاهر أرواح الأفلاك والكواكب وأن طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء وهي سارية في الأكوان وعلى هذا النظام، والأكوان من لدن الإبداع الأول تنتقل في طوره وتعرب عن أسراره فحدث ذلك على أسرار الحرف، وسيأتي تبين معنى هذا النوع من السحر بالتفصيل فيما هو قادم.
ولم ينجوا من مثل هذه الاتهامات حتى كبار العلماء المسلمين من أمثال جابر بن حيان الذي عد بأنه أكبر ساحر في الإسلام، وكذلك اتهم من بعده المجريطي بأنه إمام أهل الأندلس في السحر وغيرهما كثر.
لكن هل تعتبر هذه الاتهامات حقيقة أم أنها كذب وتلفيق، في نظري عزيزي القارئ أن جزء كبير منها يستند على ممارسات سحرية حقيقية فما من دين سماوي لم يمارس السحر باعتباره جزء من العقيدة أو الدين، خاصة استعمال النصوص المقدسة لصنع الأحجبة والتمائم السحرية التي تجلب الحماية وحسن الطالع مثلا، أو للحماية من الأمراض أو حتى إلحاق الضرر والسوء بالناس، فقد كان يعتقد أن هذه النصوص المقدسة لديها قوة خارقة في شكلها المادي، ففي أوروبا مثلا كان المسيحيون يحتفظون بالكتاب المقدس تحت الوسائد طلبا للحماية ليلا، أو تتناول صفحات منه لعلاج الأمراض، (نعم عزيزي القارئ أعلم أن المسلمون لديهم هذا الاعتقاد أيضا)، كما ظهرت نصوص مسيحية وان كانت غير معترف بها من طرف الكنيسة إلا أنها أصبحت أساسا للتعاويذ الواقية، التي انتشرت فيما بعد في جميع أنحاء أوروبا مثل نصوص الأبوكريفا، في الوقت نفسه يمكنك العثور على أمثلة قديمة عن القرون الميلادية الأولى في مقاطع التوراة، فالمزمور الحادي والتسعون على سبيل المثال لطالما كان يستخدم للاستعاذة من الشيطان، وتحوي مخطوطة تعود للقرن الرابع عشر "سفر الجيماتريا" قائمة طويلة من الاستخدامات السحرية لآيات من الكتاب المقدس، فهي توصي للحماية في الليل بقراءة الآية 49 : 18 من سفر التكوين، وقراءة الآية 19 : 11 من السفر نفسه للتحول إلى حالة غير مرئية، ولعل أكثر النصوص اليهودية شعبية وعراقة هو سفر "شيموش طحليم" الذي ربما يعود إلى أواخر الألفية الأولى، يقدم هذا السفر تعليمات بشأن القوة الفاعلة للمزامير، ويدعي أن التوراة كلها مؤلفة من أسماء الرب وبالتالي من شأنها خلاص الإنسان ووقايته.
أعلم عزيزي القارئ بأن هذه الطقوس موجودة في الإسلام أيضا وكثير منا لا يرى فيها بأنها ممارسات سحرية، فالشفاء بالقرآن عقيدة ثابتة عندنا، لكن دعني أخبرك بشيء واحد فقط وهو أنه كما اعتقدت أنت بأن القرآن شفاء فإن غيرك اعتقد بأنه يحمل قوة الضر وهذا جزء من السحر الذي سنتكلم عنه في وقته بإذن الله فلا تستعجل، ولنعد الآن لنرى قصة السحر وأصله عند الديانات الأخرى قبل أن نعود للإسلام.
عند المسيحيين تقول الرسالة الإكليمندية الزائفة أن حام بن نوح كان أول من مارس هذا الفن الشيطاني الفاسق الجديد، بحيث ظل علمه بالسحر باقيا بعد الطوفان العظيم ووصل إلى مصاريم إبنه ومن ابنه إلى ذريته من المصريين والفرس والبابليين، وهكذا شبه مصاريم بزرادشت (وإن كانت مصادر أخرى تذكر أن حام هو نفسه زرادشت)، لكن إبيفانيوس أحد آباء الكنيسة في القرن الرابع، كان يعتقد أن السحر ظهر قبل حام واختار أن ينسبه لجاريد ابن الجيل الخامس من ذرية آدم، هناك رواية أخرى تقول بأن النمرود هو حفيد حام وإنه عاش بالقرب من المراكز الحضارية الهامة في بابل وأوروك (الوركاء) وهو من وضع أسس السحر، وجاء في الإقرارات بأنه تلق السحر في لمح البصر من السماء وهنا أيضا اعتبره بعض الكتاب الأوائل زرادشت، وإذا كنا قد رأينا من قبل بأن السحر كان قبل زرادشت فإن هذه الروايات كلها في نظري ليست صحيحة، وحتى المسيحيون أنفسهم لم يقتنعوا بهذه الروايات فظهرت روايات أخرى وظهرت شخصيات جديدة مثل سيمون الماجوسي المذكور في سفر أعمال الرسل، الذي يصفه بأنه رجل سامري وساحر كبير، ثم خلال العصور الوسطى نسب السحر إلى سيدنا سليمان، وهذه العقيدة في الحقيقة قد تسربت إلى المسيحية من اليهود الذي يعتقدون بأن سيدنا سليمان كان يستخدم السحر لإخضاع الشياطين والتحكم في ملكه الكبير، ولم يعدوه نبيا بل ساحرا عظيما وعليه نسب أصل السحر إليه، مما جاء كذلك في الرسالة الإكليمندية والذي وصفها بعض المسيحيين بالزائفة، وهي تنسب للأب كليمنت أسقف روما الرابع وقد انتشرت خلال القرن الرابع ميلادي، أن الشياطين هي التي علمت السحر وهذا نفسه موجود في العقيدة اليهودية بل وحتى عند بعض المسلمين الذين انقسموا في نسبهم السحر إلى الشياطين وإلى ملكين، لأن حتى في سفر أخنوخ ذكر اسم ملائكة ساحرون، بحيث يذكر هذا السفر الذي يعود تاريخه ربما إلى القرن الثالث قبل الميلاد بأن الشياطين هبطت من عند الرب مدفوعة بدوافع الفسق، التي جعلتها تتمرد وتهبط إلى الأرض لتتزوج من بنات البشر وأنجبت عمالقة، وقد لقنت تلك الشياطين رفيقاتها السحر وعلم الأعشاب بينما كانت تستمتع بحريتها، وحتى هذه الرواية اليهودية تشبه ما هو معروف عند المسلمين أيضا وهي أكثر الروايات الموجودة في التفاسير التي تمجد الاسرائيليات.
هناك شخصيات كثيرة لم نرد ذكرها والتي نسب أصل السحر إليها وذلك لأنها شخصيات تاريخية أو أسطورية لا ترقى إلى أن تكون الروايات بخصوصها صحيحة، وهناك ملاحظة أود أن أشير إليها هو أن سبب هذا التوافق بين الروايات المسيحية والإسلامية هي أن بعض المصادر تصرح بأن اليهود هم اللذين نشروا السحر في أوروبا وهذا في الوقت الذي استوطنوا فيه اسبانيا تحت حكم المسلمين، فأنشئوا جمعية عرفت باسم القبلانية التي أصبحت فيما بعد شبه مذهب أو فلسفة دينية تتخذ التلمود مصدرا لها، ثم انتشرت في القرن الرابع عشر في كافة أنحاء أوروبا وأنشأت مدرسة خاصة بالسحر الأسود، ثم تبعتها عدة جمعيات أخرى لكن الحقيقة أن كل هذه الجمعيات كانت امتدادا لها خاصة الماسونية، التي تعتمد على الرمزية القديمة ولها عدة جوانب سرية وغامضة مثل هندسة هيكل سليمان أو اهتمامها بالآثار المصرية القديمة، مثلها مثل مذهب الكابالا اليهودي الذي اهتم هو أيضا بكشف أسرار الحكمة القديمة للمصرين وطقوسهم السحرية وممارستها، وسيأتي الكلام عن هذه المذاهب في وقته.
بالنسبة للكتب التي تحوي الطقوس السحرية لم تكن تحت أيادي الباحثين أو المستعملين لها إلا بعد حلول القرن الخامس عشر، وذلك لأن جل المخطوطات ظلت سرية ومكتوبة باللغة اللاتينية مع استخدام محدود نوعا ما للعبرية واليهودية، والملاحظ أن جل تلك الكتب كانت تنسب للشخصيات التي تلكمنا عنها في عرضنا وبحثنا عن أصل السحر، مثل سيدنا سليمان وألبرت ماجينوس، لكن مع حلول عصر النهضة ظهر سفر "شيموش طحليم" واستخدم بشكل كبير خاصة في أمريكا، أما عندنا فقد عدت بعض الكتب التي حققت روجا كبيرا بين المسلمين والتي لم يزل بعضها إلى اليوم شديد الرواج مثل كتاب "الطب النبوبي للسيوطي" الذي يحوي بالنسبة للغربيين طقوس مماثلة للتي جاءت في كتبهم السحرية مثل التداوي بالقرآن عن طريق صنع التمائم، وتناول سبع تمرات من العجوة في الإفطار لدرء السحر والأذى طول اليوم، وإلى اليوم لم تزل هذه الممارسات منتشرة عندنا على أنها سنة نبوية، وسنحاول أن نفصل فيها بعض الكلام وعن علاقتها بتاريخ السحر القديم، لكن الكتب السحرية الحقيقية اتس اكسبت شهرة أكثر هما شمس المعارف الكبر لمحمد بن علي البوني وكتاب غاية الحكيم الذي تضمن طقوس استحضار الأرواح وسحر النجوم، وكذلك عد الكندي فيلسوف العرب بأن جزء ضخم من مؤلفاته كانت ذات طابع سحري، واتخذها كثير من الدارسين الأوروبيين في موضوع السحر كمصادر بالتوازي مع الموروث اليوناني، طبعا هناك كتب أخرى كثيرة ولكننا لم نجدها ذات تأثير كبير في الدراسات الغربية، ولهذا آثرنا أن لا نأتي بها لكن مثل الكتب الذي ذكرناها فإن انتشارها الواسع جعل من إمكانية الحصول عليها مهمة سهل جدا وبأثمان بخسة، إلا أن الفكرة التي سادت عند المسلمين أيضا هي أن هذه الكتب لا يمكن معرفة كنه مضمونها إلا لطائفة خاصة من البشر، وأن مثل هذه الكتب يمكن أن تلحق ضررا كبيرا بمن لا يعرف كيفية استخدامها، ولكن سنقف على حقيقتها ونبين بطلان هذا الادعاء فيما هو آت.
من خلال بحثنا التاريخي لحد الآن قد تبين أن أصل السحر ومنشأه غامض غموض لا يمكن استجلاء حقائقه، ولا سبر غوره، وما من تفسير عقلي وتاريخي يتماشى مع ما سقناه إلا أن السحر قد نشأ وتطور مع تطور البشر ولم يكن له نقطة بداية، وإنما هو امتداد لوعي البشر منذ العصر الحجري على الأقل، ولعل السر الذي جعل منشأ هذا العلم شديد الغموض هو اختلاف الروايات من جهة، وانتشار الخرافات والأساطير بشأنه عند كل الحضارات، وبما أن السحر مذكور في القرآن دعونا نعرج على بحثه بحثا مستقلا علنا نجد ما يوافق بحثنا التاريخي، ولما كان هذا البحث أيضا عسيرا ومستفيضا سنرجئه إلى المقالة التالية حتى لا نرهقك ونثقل عقلك، وحتى تتفكر فيما سقناه عليك وتعيد قراءته قراءة متأنية، وتستخلص منه جوهر المقالة ومكنونها، وحتى لا أطيل عليك نلتقي في المقالة التالية لنتتبع أصل السحر ومنشأه من القرآن ومقارنته مع ما وصلنا إليه في هذه المقالة..
يتبع ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لانك لديك عقل
احمد علي الجندي ( 2022 / 8 / 13 - 14:48 )
الاجابة في التعليق

اخر الافلام

.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن


.. الشرطة الفرنسية تعتقل شخصا اقتحم قنصلية إيران بباريس




.. جيش الاحتلال يقصف مربعا سكنيا في منطقة الدعوة شمال مخيم النص


.. مسعف يفاجأ باستشهاد طفله برصاص الاحتلال في طولكرم




.. قوات الاحتلال تعتقل شبانا من مخيم نور شمس شرق طولكرم