الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة والتاريخ: جدلية العام والخاص

أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)

2021 / 4 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في موضوع علاقة الفلسفة بالتاريخ، نعتبر في هذه المقالة أن الأمر لا يتعلق بفهم مصطلح التاريخ باعتباره فرعا من العلوم الإنسانية يكون المؤرخ متخصصا فيه؛ أي في علم الماضي البشري، بل إن مصطلح “التاريخ” يحيل بدقة إلى الصيرورة البشرية ذاتها. السؤال إذن هو ما إذا كانت الفلسفة يمكن أن تؤثر على التاريخ.
أولاً، يتعلق الأمر بالتبعية التاريخية للفلسفة: التفكير الفلسفي هو رد فعل العقل على المحفزات التاريخية، والتجربة التاريخية هي مادة المفاهيم الفلسفية. ومع ذلك، يمكننا التحدث عن الخصوبة التاريخية للفلسفة حيث يمكن للفيلسوف، من خلال أفكاره، التأثير على الأفكار التي هي أصل العقائد السياسية الجديدة أو وجهات النظر العلمية الجديدة. نصوص الفلاسفة الكبار تكتسب راهنية بحيث تقاوم التاريخ لأن مؤلفيها، انطلاقا من سياقهم التاريخي، فكروا في الحالة الإنسانية. لذلك من الضروري تعلم تاريخ الفلسفة، أي ممارسة قراءة النصوص الفلسفية والتفكير مع مؤلفيها.
يقترح موضوع “الفلسفة والتاريخ” للتأمل المواجهة بين مفهوم رئيسي هو الفلسفة ومفهوم ثانوي هو التاريخ: النشاط الفلسفي وليس التاريخ هو مركز الاهتمام الرئيسي للتفكير. عندما نتحدث عن “الفلسفة” في علاقتها بـ “التاريخ”، دون مزيد من التوضيح، يجب ملاحظة أننا معرضون لسوء فهم. لأنه ، إذا كان مفهوم الفلسفة وفق تحليل الصيغة يجعل المرء يفكر في مبحث فكري معين، وهو التفكير المنهجي. في المقابل يشوب كلمة التاريخ، لفهم السؤال قيد الفحص، عيب كونه غني الدلالة بشكل مختلف، وبالتالي ملتبسا، وكما يؤكد ريموند آرون، فإنه يشير إلى “العلم التاريخي” وإلى موضوع هذا العلم، ألا وهو الماضي البشري. عندما نتحدث عن “الفلسفة” و”التاريخ”، من الضروري تحديد الفكرة التي تدور في ذهننا عن الجزء من الملفوظ الذي يعتي”التاريخ”
تنطبق نفس الكلمة بالفرنسية والإنجليزية والألمانية على الواقع التاريخي وعلى المعرفة التي نكتسبها منه. ,Histoire,History Geschichte تعني كلاً من مستقبل البشرية والعلم الذي يسعى الناس لتحصيله عن صيرورتهم (حتى لو تم تخفيف الغموض في الألمانية من خلال وجود كلمة Geschehen، التي لديها فقط أحد المعنيين الإثنين).
لا يمكن إهمال أي من هذين المعنيين في سلسلة من حلقات كهاته؛ لكن من الواضح أن فحص المشكلة سوف يعطي ميزة لفكرة التاريخ كموضوع للمعرفة التاريخية. يتعلق التفكير في الواقع، ليس فقط بالأحداث البشرية التي وقعت في الماضي، ولكن أيضا بصيرورة الإنسان. الماضي نفسه والحاضر ليسا سوى بعدين من أبعاد الزمز الثلاثة التي سيظهر فيما بعد أنه لا يمكن الفصل بينها بحدود واضحة، وبالتالي فإن السؤال هو ما إذا كان النشاط الفلسفي يمكن أن يؤثر على التاريخ المأخوذ بهذا المعنى الجدلي حيث يتم تضمين جميع أبعاد الزمن، فيما يتعلق بالناس، في نفس الوحدة الدينامية.
ومع ذلك، فإن الأفكار الفلسفية، مع الأنساق التي ضمنها تعبر عن نفسها، هي نفسها جزء لا يتجزأ من عناصر ثقافة الإنسانية، أو جزء من الإنسانية، التي تم أخذها في الاعتبار خلال حقبة من تاريخها.
بعبارة أخرى، عندما تكون الحياة الفكرية حيوية، يعامل المؤرخ الفلسفة بالوضع الإبستيمولوجي للتراث التاريخي: لا يستطيع المؤرخ المتخصص في قرن بريكليس، مثلا، عدم منح الأهمية للنشاط الفلسفي في ذلك القرن، وتجاهل محاكمة سقراط، وحياة وفكر تلميذه البارز، أفلاطون، والتلميذ البارز لهذا الأخير، أرسطو، الذي كان، من جهة أخرى، أشهر المعلمين الثلاثة للإسكندر الأكبر، أعظم شخصية فاعلة في التاريخ العالمي.
لا تتمتع الفلسفة، حتى في قرن بريكليس، بخصوصية الاهتمام التاريخي؛ ذلك ان الألعاب الأولمبية، المسماة “الألعاب اليونانية”، والنشاط الفني العظيم خلال هذه الفترة، مع المؤلفين التراجيديين مثل إسخيلوس، سوفوكليس، يوريبيدس، والمؤلفين الكوميديين مثل أريستوفان، أو الرسامين مثل زيوكسيس، كل ذلك ليس أقل أهمية تاريخية. لكن التفكير مدعو هنا للتركيز على جانب واحد من مشكلة العلاقة بين التاريخ وأعمال العقل؛ الا وهي الفلسفة.
ومن ثم فهي مسألة معرفة ما إذا كانت الفلسفة قادرة على التأثير في التاريخ الذي هي على وجه التحديد أحد عناصره. وبعبارة أخرى، تكمن المفارقة في أن الكل متأثر بالجزء.
لنتحدث الآن عن التبعية التاريخية للفلسفة. إن القول عن الفلسفة بأنها أحد مجالي التاريخ، أي أنها تتمتع، بالنسبة للمؤرخ، بالوضع الإبستيمولوجي للمادة الخاضعة للمعرفة التاريخية، مختلف عن الاعتراف بأنها تعتمد على التاريخ الذي يُفهم على أنه مجموعة الأحداث المتعلقة بالماضي البشري. الفلسفة هي إحدى الطرق التي يصنع بها الناس التاريخ، كل في زاويته أو معا.
حيثما وجدت، لا يمكن أن تفشل الفلسفة في إثارة فضول المؤرخ. يهتم البحث التاريخي بالضرورة بها باعتبارها إحدى خصائص الفترة والأشخاص الذين تمت دراستهم، بالمعنى الذي يقول به ريموند آرون ، متبعا صيغة رانكي الشهيرة، وهي أن أسمى ما يطمح إليه المؤرخ معرفة كيف حدث ذلك.
المؤرخ الذي أجرى بحثا عن فترة كان فيها النشاط الفلسفي رائعا، مثل اليونان على عهد بريكليس أو القرن الثامن عشر الأوروبي الذي وصفه كانط بقرن فريدريك العظيم، لا يمكنه شرح الأحداث بشكل صحيح دون مراعاة مساهمة الفلسفة؛ لا يمكنه المضي قدما كما لو أن الفلسفة حدثت في ذلك الوقت وفي المنطقة المعنية بآلية التوليد التلقائي.
علاوة على ذلك، سيكون مؤرخ الفلسفة نفسه مخطئا في دراسة النصوص الفلسفية فقط وفقا للترتيب الزمني لظهورها، دون الانغماس عميقا في التاريخ نفسه. سيخون الفلسفة والتاريخ معا إذا غابت عنه حقيقة أن الفلسفة التي يهتم بها كانت استجابة للاحتياجات التاريخية. إن شرح الأحداث علميا لا يعني تأريخها، ولكن إظهار العلاقات السببية التي ترتبط بها. فما هو موضوع المعرفة التاريخية
رجوعا إلى السؤال المنسوب لرايمون آرون والذي مناطه ماهية موضوع المعرفة التاريخية. إن الإجابة على السؤال بأن المؤرخ يريد معرفة ما حدث هي مساواة المؤرخ بالكرونيكور. إن التاريخ بالتحديد ليس تأريخا، والمعرفة التاريخية ليست مجرد تراكم للوقائع. وبحكم أن الأحياء هم من أنشأوه، يميل التاريخ إلى إعادة تشكيل حياة الأموات. لقد تحدد من خلال فضول الأحياء (الذي بدونه لم يكن وجوده ممكنا) والإرادة العلمية، ليس لتخيل ما كان يمكن أن يكون، ولكن للعثور على ما حدث .
لذلك سيكون من قبيل مهمة دونكيشوتية، لا المعرفة، ولكن إعادة تأهيل وممارسة فلسفة من الماضي مع طموح لإحياء الظروف التي عاش فيها معاصرو هذه الفلسفة. لم يتم الإشارة هنا فقط إلى أولئك الذين، دون أن يكون لديهم عمق أو عبقرية أصنامهم، قاموا بشكل هزلي بتزوير أسلوب هيجل أو هايدجر أو هوسرل أو ماركوز لكي يظهروا وكأنهم متمكنين من الفلسفة.
يمكننا تخمين مدى التعذيب الأخلاقي الذي كان على ساكومبي إنانغو المسكين أن يتحمله من أجل تصور ودعم، تحت الطلب، أفكار تطبعها العبثية المنطقية؛ مثل تجاهل الانقطاع الذي كان هدف تطور الثقافة الأفريقية ما قبل الكولونيالية، وإعادة اكتشاف واستعادة هذه الثقافة على أنها كان من الممكن أن تتطور حتى اليوم لو لم يتم وأدها. كل ذلك من أجل التوصل إلى “رد” على مواقف خاصة بالقرن العشرين، كما فعل الأسلاف الذين لم تكن لديهم أي فكرة عن هذه المواقف. ما هو المختبر التاريخي الذي سيسمح لنا بمعرفة كيف كان يمكن للثقافة الأفريقية أن تتطور لو لم يحدث الوأد الاستعماري؟ يمكننا، بهذا الصدد، استعادة أسئلة كانط: أين هي المصادر، وما طبيعتها؟
الفلسفة ليست جزءا من التجربة التاريخية لجميع الشعوب وفي جميع المراحل التاريخية التي مرت بها البشرية. ولكنها حيثما تطورت إلا وأضافت شيئا إلى تفرد الأحداث التاريخية . لأنها، كما نجد في شعرية أرسطو، نتاج سمات وعواطف وأفعال الناس، تكون الأحداث التاريخية، المليئة بالضجيج والغضب، فردية بالضرورة ، أي – على سبيل المثال ولاستخدام كلمات آرون – أن “الهدف النهائي للتاريخ هو سلسلة من الأحداث التي لن نراها أبدا مرتين، هو صيرورة المجتمعات البشرية”.
يحق لنا أن نتحدث عن تفرد الأحداث التاريخية لأن الإنسان هو صانعها وفاعلها. فبقدر ما هو موهوب بالإرادة، يكون الإنسان قادرا على اتخاذ قرارات تعسفية وتبني خيارات معقولة. أو، بكل بساطة، مبادرات غبية. هذا ما يبرر التعريف الذي ارتجله رايمون آرون للتاريخ العالمي خلال محاضرة ألقاها في توبنغن: (التاريخ العالمي، هذا المزيج من البطولة والغباء)”.
تكمن خصوصية الأحداث التاريخية في حقيقة أن الإنسان، بشكل فردي أو جماعي، هو في النهاية حر بالمعنى الواسع للكلمة الذي لا يستبعد القدرة على التصرف بطريقة تعسفية، أي الإرادة الحرة التي تحدث عنها ديكارت في التأملات الميتافيزيقية باعتبارها أدنى درجة من الحرية.
تبعا لذلك، تخضع الظواهر البشرية، مثل الأحداث التاريخية، للسببية وفقا لقوانين الحرية: إذا نظر المرء إلى الظواهر التاريخية فقط، فيمكن له أن يبرر موقف مؤيدي الحرية المتعالية مقابل موقف أنصار الفيزيوقراطية المتعالية التي لا تعترف. حسب كأنط. سوى ب”السببية وفق قوانين الطبيعة”.
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن جميع العلوم الطبيعية تفترض، من جانب الشخص الذي يمارسها، التمسك بعدد معين من المبادئ ، والتي يجب أن نفهم من خلالها تمثيل القواعد التي من المفترض أن يخضع لها الفهم، لغرض تحصيل المعرفة الموضوعية.
نذكر من هذه المبادئ مبدأ الديمومة الذي مفاده أن كل الظواهر تحتفظ بشيء دائم (جوهر) يعتبر موضوعا بحد ذاته، إلى جانب شيء يتغير، يُعتبر تحديدا بسيطا لهذا الكائن، أي نمط وجوده؛ ومبدأ التكاثر أو مبدأ التعاقب في الزمن وفقا لقانون السببية، الذي ينص في الواقع على فكرة الحتمية، والتي بموجبها تنتج نفس الأسباب، في نفس الظروف، نفس النتائج: كل شيء يحدث (يبدأ في الوجود) يفترض شيئا ما يعقبه، وفقا للقاعدة.
والآن، هل يمكننا أن نفكر في الظواهر التاريخية وفقا لنفس المبادئ وبنفس المقولات: مثل وجود شيء دائم (جوهر) وكما هو محدد؟ الظاهرة الطبيعية، مهما كانت معقدة، تحدث بطريقة محددة، ويمكنها أن تتكاثر ، وتكرر نفسها، لأن لها خصائص ثابتة (لها شيء دائم)، وهذا ما يخلق ظواهر طبيعية متوقعة؛ يمكن إعادة إنتاجها تجريبياً باستخدام الأدوات المناسبة؛ هكذا فعل جاليليو وتوريتشيلي: كل منهما، يقول كانط، طور سقالة تجريبية وشرعوا في الحسابات التي تمكنوا بواسطتها من صياغة القانون الاول حول سقوط الأجسام، والقانون الثاني حول الضغط الجوي.
عندما دحرج جاليليو كراته على مستوى مائل بدرجة من التسارع بسبب الجاذبية المحددة وفقا لإرادته، عندما جعل توريشيللي الهواء يتحمل الوزن الذي كان يعرف مسبقا أنه مساو لعمود الماء المعروف من لدنه، كان ذلك ببمثابة وحي مضيء لجميع علماء الفيزياء. لقد فهموا أن العقل يرى فقط ما ينتج هو نفسه وفقا لخططه الخاصة. وأنه يجب أن يأخذ زمام المبادرة مع المبادئ التي تحدد أحكامه، وفقا للقوانين الثابتة، وأن يلزم الطبيعة بإلإجابة عن أسئلته، وألا ينساق وراءها، إذا جاز التعبير، كما لو تأخذ بناصيته.؛ لأن القيام، على خلاف ذلك، بالملاحظات بشكل عشوائي وبدون وضع أي خطة مسبقا، يجعلها غير مرتبطة بقانون ضروري، وهو أمر يتطلبه العقل ويحتاج إليه.
يمكن للمهتم أن يعتقد، من خلال قراءة كانط، أن العقل العلمي يتقدم بشكل عشوائي لأنه يرى في الظواهر فقط ما ينتج هو نفسه وفقا لخططه الخاصة، وأن المعرفة العلمية تعسفية وخطيرة. ما يقوله كانط هو أنه إذا حدث ان ارتكب العقل خطأ في خططه وحساباته، وإذا تم إجراء الملاحظة والتجريب عشوائياً، فما سيراه العقل بعد ذلك، أو كناية، العالم، أي المعرفة الناتجة عن هذا العمل التجريبي الخاطئ، سيكون من نوعية رديئة.
تعتمد المعرفة العلمية على جودة الملاحظة والتجريب؛ وهذا في حد ذاته عمل العقل الذي، بطبيعته المعمارية المنقحة، أي بحكم ميله إلى تطوير الأنظمة، التوحيد والتجميع، ينشغل بالبحث عن القوانين الضرورية التي تحكم الظواهر. إن العلم نظام منهجي محكم، وسيكون علم الطبيعة مستحيلا إذا لم تكن الطبيعة نفسها نظاما، كليا، إذا كان كل شيء في الظواهر الطبيعية مجرد صدفة وتعدد.
لعله من قبيل الافتراض المتعالي الضروري ذاتيا اعتبار أن هذا التباين المزعج اللامحدود للقوانين التجريبية وهذا التباين في الأشكال الطبيعية ليسا مناسبين للطبيعة، وأن للأخيرة، من خلال تبعية قوانين خاصة لقوانين عامة، الصفات المطلوبة لتكوين تجربة كنظام تجريبي.
السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان يمكن قول الشيء نفسه عن التاريخ عندما ندركه بمعنى الواقع التاريخي، إذا كان نفس المبدإ ينطبق على الطبيعة والتاريخ، إذا كان التاريخ هو الآخر نسقا. هل الافتراض المتعالي الذي وفقه يكون التاريخ نسقا ضروري ذاتيا، أي يحوز شرعية على المستوى الإبستيمولوجي؟
في إطار الفيزياء التي نقارنها هنا بالتاريخ، منظورا إليه هذه المرة كعلم تاريخي، نقول مع ألكسندر كوجيف إن الفكرة التي بموجبها تُمنح الطبيعة “بنية سببية” هي افتراض متعالي ضروري ذاتيا.
بعبارة أخرى، يحق للفرد أن يؤكد أنه على نطاق معين يمكن اعتبار العالم كما لو كان له بنية سببية دقيقة. وهذا يثبت أن له بالفعل بنية سببية من الممكن اكتشافها.
لا توجد قوانين ثابتة في التاريخ، ولا يمكن للعقل التاريخي، أي كناية، المؤرخ، ان يفسر الأحداث، أن يفترض أنها ناتجة عن بنية سببية، أن ينطلق من هذا الافتراض المتعالي بأن قانونا ضروريا يحكمها بأثر رجعي. يمكن للعقل ويجب عليه أن يشرع في إعادة تكوين العلاقة السببية بين الظواهر التاريخية، ويقتفي أثر عملية راجعة هي عبارة عن صعود السلسلة السببية في كل مرة من المشروط إلى الشرط، لكن الرابطة السببية الموصوفة هكذا لا يحكمها قانون ضروري، أي أن الأحداث التاريخية لا تحدث بطريقة ضرورية.
لاحظ رايمون آرون في هذا الصدد ، وهو يحلل سرد ثيوسيديدس لحرب البيلوبونيز ان السؤال: ماذا كان سيحدث لو …؟ يُطرح بشكل لا يقاوم على المؤرخ الذي يعتبر الماضي من منظور الأحداث. نظرا لأن الحدث – حسب رأيه – هو عمل رجل أو بضعة رجال ونفكر تلقائيا في العمل الحر أو الاختيار، الحر، فإننا نعتقد أنه ليس حتميا فيما يتعلق بالموقف. ” لا يعني عدم الحتمية أنه كان بإمكان الفاعل، دون أن يكون بشكل أساسي آخر، قد اتخذ القرار الآخر […] أو أن فردا آخر كان سيتخذ القرار نفسه عاجلاً أو آجلاً ، أو سيتخذ قرارا آخر في نفس الوقت. بعبارة أخرى، عندما يتحدث المؤرخ عن الكيفية التي لم تحدث بها الأشياء، فإنه ينظر إلى الصدفة كما لو كانت “التقاء سلسلات”، حظا سيئا (كسوف القمر، اضطراب حرارة القتال)، قرارات قاتلة التي مأخوذة من هذا أو ذاك اللذين يمكن أن يكونا آخرين. إن الإدلاء بالحجة متروك للمؤرخ الذي ينفي الصدفة وليس لمن يراقبها بسذاجة.
في مجرى الأحداث، هناك نصيب لكل هذه العوامل التي تجعل التنبؤ التاريخي، ليس مستحيلا باعتراف الجميع، ولكنه صعب، وإشكالي للغاية، بفعل عوامل موضوعية مستقلة عن الفاعلين التاريخيين؛ عوامل موضوعية أو ذاتية تعتمد أو لا تعتمد على الفاعلين التاريخيين، مثل نوعية وكمية التجهيزات الموجودة تحت تصرفهم، وصفاتهم الفكرية والتقنية والأخلاقية، وعواطفهم، ومهاراتهم. وباختصار شديد، تفرد الأحداث التاريخية هو نتيجة حرية الإنسان كما درسها كانط في الديالكتيك المتعالي.
الحرية بالمعنى العملي هي استقلال الإرادة عن إكراهات ميول الحساسية. ذلك ان الإرادة حساسة بقدر ما هي متأثرة على نحو مرضي (بدوافع الحساسية)؛ تسمى (قدرة الحيوان على الاختيار) عندما تفرض كضرورة على نحو مرضي. صحيح أن إرادة الإنسان هي قدرة حسية على الاختيار، ولكنها ليست قدرة حيوان مقيدة؛ إنها قدرة على الاختيار متحررة، لأن الحساسية لا تجعل عملها ضروريا، ولكن هناك في الإنسان قوة لتحديد نفسه، في استقلال عن إكراهات ميول الحساسية.
ما يقوله كانط عن المعرفة العلمية بشكل عام فيما يتعلق بالتجربة الحسية، يجوز أن نقوله عن الفلسفة فيما يتعلق بالتاريخ: “قدرتنا على المعرفة” لن يتم “إيقاظها” و “تفعيلها” إذا لم تكن هناك أشياء تحفز نشاطها ما دامت “تثير حواسنا”. إذا لم تكن الحساسية جزءًا من تكويننا الذاتي، فسنكون غير قادرين على المعرفة بالمعنى الدقيق للكلمة. لن يكون هناك اتصال بين ملكة المعرفة لدينا والتجربة الحسية التي نشكل جزءا منها والتي تزودنا بالأشياء التي يجب معرفتها.
إن العلم والفلسفة، كما قال أفلاطون، من اختصاص الإنسان. العلم ليس من اختصاص الآلهة، الأرواح الخالصة، لأن الآلهة، بحكم التعريف، مجردة من الحساسية، أي من القدرة التي للعقل على “تلقي التمثلات لأنه متأثر بشكل من الأشكال”؛ وكيف يمكن لعقل خالص أن يُبرهن على مثل هذا “التلقي”، ان يتأثر بأشياء من التجربة الحسية عندما لا تكون الحساسية أحد مكونات طبيعته؟
كان كانط، أثناء حديثه عن التجربة، يشير دائما إلى التجربة الحسية، ويعطي الانطباع بأن نظريته حول المعرفة ليست سوى إبستيمولوجيا العلوم الطبيعية والرياضيات. وفي الحقيقة، فهي تتضمن كذلك عناصر من إبستيمولوجيا العلوم الإنسانية.
فعلا، وعلى الرغم من أن الأحداث التاريخية يجب أن ترتبط بالحرية، أي “بملكة الشروع من تلقاء الذات في حالة ليست سببيتها خاضعة بدورها لسبب آخر يحددها من حيث الزمن”، فليس من غير المعقول التفكير في التجربة التاريخية، ليس بنفس المقولات وبمساعدة نفس schèmes التي هي عمليات أو وسائل يصبح من خلالها المفهوم فعالا من خلال إشراك الحدس، و نستخدمها عندما نفكر في التجربة الحسية، لأن مبادئ علم الفيزياء غير قابلة لأن تحول إلى علم تاريخي، ولكنها كذلك بشكل مماثل مع التجربة الحسية. ويبقى التاريخ هو الإطار الوحيد الذي نحصل فيه على حدوسنا الفلسفية.
والأحداث التي توفر لنا حدوسا فلسفية، نحن نعيشها على نحو تاريخي، من خلال التجارب الشخصية، نتعرف عليها من خلال ما يقال عنها، في الصحف، في التلفزيون، تتأثر بها عقولنا كما تتأثر بأشياء التجربة الحسية. ولأنه محدود في الزمان والمكان، يمكن للإنسان بالتالي أن يعرف فقط الأشياء التي تُمنح له من التجربة – في الطبيعة أو في التاريخ.
“هكذا – يقول كانط – تعطى لنا الأشياء عن طريق الحساسية، هي الوحيدة التي تزودنا بالحدس”، على اعتبار أن الأخير هو “الطريقة التي ترتبط بها المعرفة مباشرة بالأشياء”. لا يمكن لأي مؤرخ، مثلا ، دون إثارة الضحك المتعالي والسخط العارم من الزملاء، أن يقول إن الله أو الآلهة أو الأشباح فعلوا أو قالوا كذا و كذا في زمن ما.
بما أن لا وجود لشيء طبيعي أو تاريخي في نفوس الآلهة، ولأنها ليست، بحكم التعريف، مقيدة بالزمان والمكان، فإنها، في فرضية المدرسة حيث توجد، ليس لها علاقة بالتاريخ. إذا كان من الممكن أن يكون “عقلها” مشغولاً، فيمك ن فقط أن يتأثر بـ”الأشياء” التي ليس لها وجود تاريخي، والتي ليست معطاة في التجربة الحسية؛ لا يمكن “لعقلها” إلا أن يتقبل الأشيا “فائقة الحساسية” وغير التاريخية، على خلافنا “نحن الناس الآخرين الذين “لا يمكن أن يكون حدسنا إلا حسيا على الإطلاق”.وحتى يستطيع الإنسان حقا أن يدعي معرفة الأشياء التي لا علاقة لها بالتجربة الحسية أو التاريخية، يجب أن يبدأ بإثبات أنه غير طبيعته، وأن الحساسية لم تعد جزء من تكوينه الذاتي، وأنه باختصار لم يعد إنسانا وأصبح روحا خالصة. هذا، من جهة أخرى، من شأنه أن يقوض أي ادعاء من جانبه بمعرفة موضوعات التجربة الحسية. “عقله”، الخالي من الحساسية، لا يمكن أن يتأتر بموضوعات التجربة أو التاريخ. هذا ما جعل كانط يقول، بعقلانية، إن الإنسان الذي يسعى إلى معرفة الأشياء فائقة الحساسية، والذي يعمل بنفسه على فقدان كل اتصال ذهني مع التجربة الحسية – والتاريخية – التي هو جزء منها، لا يضيع وقته فقط، ولكنه يضر أيضا بصحته العقلية. فهو نفسه يطور استعداد مرضيا لا يمكن أن ينتهي إلا بالجنون. على أي حال، هناك الكثير مما يجب فعله في العالم وفي التاريخ بحيث لا يسمح المرء لنفسه بأن يهتم العقل بالمستحيل والمعرفة غير المجدية للأشياء التي ستكون خارج العالم، بالأحداث التي تحدث خارج الزمن والفضاء، من الممكن التفكير في العديد من الأشياء.
في كتاب “les rêves d’un visionnaire”، تحدث كانط عن شويدنبيرغ الذي ادعي أنه “تجاذب أطراف الحديث عدة مرات مع جميع أصدقائه بعد وفاتهم” باعتباره “أسوأ المتحمسين”. خصوصية معتنقي الأوهام تكمن في أنهم لا يهتمون كثيرا أو مطلقا بالتجربة الحسية أو التاريخية، أو أنهم يرون فيها مجلى من مجالي عمل الأرواح.
إمبراطورية الظلال هي جنة معتقي الأوهام. يجدون هناك أرضا لا حدود لها حيث يمكنهم الاستقرار في الوقت الذي يناسبهم. أبخرة مراقي المرض، حكايات الممرضات، معجزات الأديرة لم تتركهم يفتقرون إلى مواد البناء.
لكن التجربة، كما يقول كانط، هي من الثراء الذي لا ينضب. هذا يرقى إلى القول بأن الاستسلام لمهام مفيدة أحسن من توظيف العقل في مشروع أحمق مثل معرفة “الأشياء” التي لا يمكن إثبات وجودها،
التجربة، بلا شك، هي المنتج الأول الذي يحصل عليه فهمنا (hervorbringt) من خلال بناء المادة الخام للأحاسيس. هذا هو بالضبط ما يجعل منها أول التعاليم وهي غير ممكنة النضوب من حيث الإرشادات الجديدة خلال تطورها بحيث لن تفتقر أبدا الأجيال القادمة، عبر سلسلة العصور، إلى معارف جديدة لابد من اكتسابها في هذا المجال.
ما يقوله كانط عن التجربة الحسية ، أي أنها ثرية لا تنضب، ينطبق على التجربة التاريخية. في التاريخ توجد التجربة التي تنطلق معها المعرفة الفلسفية؛ حتى ان الكتاب النقدي على نحو بارز والمفاهيمي مثل “نقد العقل الخالص”يكشف عن التجربة التاريخية التي تغذيه. يمكن للقارئ المطلع أن يربط ذلك بالأحداث العلمية في ذلك الوقت؛ من بينها المشروع النقدي للمؤلف الهادف لتقييم القوة البشرية للمعرفة وفحص مسألة معرفة إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يعرف وما هو أبعد حد لا يحق له المطالبة بمعرفته، إللهم من خلال إظهار الدجل أو الجنون، هو مشروع “قرن لا يريد أن ينخدع بعد الآن بمظهر المعرفة” ضاق ذرعا بحالة الوصاية التي تتشبت بها الكنيسة والسلطة الملكية التقليدية، ندد بالادعاءات الإبستيمولوجية للميتافيزيقا باعتبارها غير شرعية تؤدي إلى صنع أفكار متسامية عن الروح والله اللذين لا يشير إلى أي شيء، موضوعات للمعرفة العلمية.
إن كتابا في الفلسفة – حقيقيا، يمكن أن يكون موضوع رسالة أو أطروحة – هو بالتالي وبالضرورة نتاج فردي؛ إنه عمل مفكر وحدس بالمعنى الكانطي للكلمة. أي أنه يعبر عن رد فعل فكر الشخص على المحفزات التاريخية. مثلا، فيلسوف يكرس كتبًا للحكم والأخلاق لأنه عاش في سياق عانى من عجز في الحكم وصارت الأخلاق إشكالية. بالنسبة لكانط، يمكن ان نقول إن عقله قد صُدم ، أوقظ وتم تشغيله من قبل الظاهرة التاريخية للحكم السيئ وانعدام الأخلاق. القواعد التي طورها ، والمبادئ التي نظمها هي بالضبط ما ينقص الواقع التاريخي الذي كان لديه خبرة به. الفلسفة، كما أوضح هيجل، هي في الواقع نشاط شفقي، بالنظر إلى أن كل الواقع التاريخي يكتسي دائما مظهرا شفقيا.
لاجل قول كلمة أخرى حول ادعاء تعليم كيف يجب أن يكون العالم، تأتي الفلسفة، على أي حال، دائمًا بعد فوات الأوان. باعتبارها فكرة عن العالم، لا تظهر إلا في الوقت الذي يكمل فيه الواقع عملية تكوينه. ما يعلمنا إياه المفهوم، يظهره التاريخ بنفس الضرورة، إذ لا يد من الانتظار حتى يصل الواقع إلى نضجه ليظهر المثال أمام واقعه، ويحفظ العالم في جوهره ويعيد بناءه في ظل إمبراطورية فكرية.
عندما تسبغ الفلسفة الرمادي على الرمادي، يكون شكل من أشكال الحياة قد هرم ولا يمكن تجديد شبابه بطلاء الرمادي على الرمادي، ولكن بالمعرفة فقط. بومة مينيرفا لا تطير إلا عند حلول الظلام.
وبخصوص الخصوبة التاريخية للفلسفة، ما قاله ماركس وإنجلز عن الأفكار، حتى الأفكار الفلسفية، صحيح. ف”بمجرد أن يكشف الواقع عن نفسه، إلا وتتوقف الفلسفة عن إيجاد وسط تكون فيه مستقلة”. بعبارة أخرى، على الرغم من أنها تحمل رسالة كونية، إلا أن الأفكار الفلسفية يتم إنتاجها في سياق معين.
لماذا لا يُحكم علي الأفكار بالضرورة بفقدان قيمتها بمرور الوقت؟ كيف تأتى لأفكار الفلاسفة اليونانيين القدماء، مثل أفكار أفلاطون أو أرسطو، أن تظل مثيرة للاهتمام حتى بالنسبة لأفريقي يعيش في القرن الواحد والعشرين بعد مرور 25 قرنا على وفاة اصحابها؟ كما نتساءل: هل يمكن اعتبار الفلسفة دائنة للتاريخ؟
الفيلسوف الذي يفكر، مهما كان مستوى تجريد فكره، كما قلنا سابقا، لا يفعل ذلك من العدم انطلاقا من وسط كوني، بل من وسط محدد، من ثقافة معينة تزوده بحدوسه. إذا كان من الممكن التفكير انطلاقا من مكان كوني، مثل شخص لا يكون في مكان ولا في أي زمان، فإننا سننتج أفكارا ليس لها أي صلاحية في الزمان والمكان، والتي لن تكون قابلة للتطبيق في كل الأمكنة والأزمنة؛ لن تثير اهتمام أحد، ولا تتوجه إلى أحد، ولا تستلهم أي موقف يتعرف فيه من يقرأها على نفسه.
قد يتساءل المرء عما يتكلم عنه، ومع من يتكلم، ولماذا يتكلم عن هذا الشيء؛ سيكون الأمر شبيها بتحصيل معرفة عن الهذيان.
إن كتابا تم تأليفه عن الفساد كما يتم الانخراط في لعبة من أجل المتعة، بطريقة تجعل القارئ لا يعرف لماذا يتعلق الامر بالفساد وليس بشيء آخر، سيكون مملا، إلى الحد الذي يصير معه غير مقروء. سيكون من غير المعقول أن تكتب عن فكرة الفساد على طريقة البرناسيين الزنوج الجدد (*) الذين كتبوا الروايات بقصد عدم جعل القارئ يخمن العرق والحالة الاجتماعية لأصل المؤلف، كما لو أن العقل الذي نمتلكه لم يطبع، في مكان ما وفي لحظة معينة، بظاهرة الفساد الاجتماعية، وكأن فكرة تأليف مثل هذا الكتاب قد اختمرت في العقل كظاهرة فكرية شبيهة بالبذر الذاتي، عن طريق نوع من التوالد العذري للعقل.
من لا يذهب إدراكه إلى أبعد من الخاص، لا يمكن أن نقول عنه إنه يفكر ، إنه “يتفلسف”، كل ما هناك أنه يخضع للخاص بدلا من أن يفكر فيه. يقتضي التفكير في الخاص الانفصال عنه واعتباره موضوع التفكير. من خلال التفكير، يضع المفكر العام نصب عينه متجاوزا الخاص، يتصور نموذجا وظيفته تفسير مجريات الأمور، وهذه الفكرة التنظيمية، يقترحها كنموذج يجب أن يستلهم منه الخاص من أجل أن يكون مشابها له قدر الإمكان.
هذا هو معنى استعارة الكهف عند أفلاطون: الفكر نشاط نظري ذو ميول عملية. بصفته ملكة، يمكن، مع كانط، تقسيمه إلى ثلاث “قوى” تمثل العديد من المهام الفكرية التي يجب على المفكر إنجازها.
عندما يتعلق الأمر بتقسيم قوتنا (الأعلى) على معرفة قبلية بالمفاهيم، يتخذ التمثيل المنهجي للقوة على التفكير شكل تقسيم ثلاثي: هناك، أولا، القدرة على معرفة العام، (القواعد)، المقصود بها الفهم. ثم هناك، ثانيا، القدرة على تصنيف الخاص تحت العام، وهي القدرة على الحكم. واخيرا، هناك القدرة على تحديد الخاص بالعام، أي العقل.
يكون فعل التفكير مشوها إذا تجنب الشخص الذي ينخرط فيه أو أهمل أحد المتطلبات الثلاثة، إذا لم يستخدم كل هذه القوى الثلاث. فبدون معرفة العام، يمكن أن يندرج الخاص تحت العام، ولا يمكن تحديد الخاص إلا من خلال العام بشرط أن يكون قد سبق أن أدرج الخاص ضمن العام ؛ الفهم، ملكة الحكم والعقل تلك إذن ثلاث حالات ، ثلاث “غرف” من نفس “القوة”، التي هي ملكة التفكير.
الفرق بين المفكر والإنسان البسيط هو أن الأخير لا يترك عقله يبتعد عن السياق الخاص الذي يتطور فيه؛ إنه سعيد بالتواجد فيه وهو على دراية به لدرجة أنه يميل إلى اعتباره مطلقا. ما أشبهه بسجين الكهف، الذي ولد مقيدا بالسلاسل في الكهف الذي لم يخرج منه أبدا ولو بالتفكير، لا يعرف إن كان في الكهف، سجينا، مقيدا بالسلاسل، ولا إن كان كل هذا منذ ولادته، “في مكان آخر” وأفضل من هنا، أي أنه لا يزال غير قادر على تمثل العام؛ لذلك لم يستطع تحديد الخاص بالعام، ولم يجتهد قط من أجل معرفة العام، أو حتى أكثر من ذلك من أجل تصنيف الخاص تحت العام.
أفكار أفلاطون أو أرسطو ليست من المواضيع التي عفا عليها الزمن، فهما يتحداننا حتى اليوم لأنهم فكرا بالمعنى الدقيق للكلمة؛ لقد لجآ إلى موارد كل من “القدرات” الثلاث، وهي الفهم، ملكة الحكم والعقل. كرسا حياتهما، ليس لوصف الاوضاع السياسية أو الأخلاقية المعينة التي خاضا تجربتها، ولكن لإنجاز عمل فكري بالمعنى الذي أشار فيه هيجل إلى أن الفلسفة تكمن أساسا في عنصر الكونية الذي يتضمن في ذاته الخاص.
لماذا نجد حقا أنفسنا، مثلا، في أفكار أفلاطون؟ لأن الميول والرغبات التي درسها بدقة ومهارة منقوشة في النفس البشرية؛ تختلف في الأشكال والتعبيرات اعتمادا على السياقات الخاصة التي يتطور فيها اللذين تحركهم. السؤال الذي نظر فيه أفلاطون هو معرفة كيفية السيطرة عليها، لتوجيهها. ما كان يدافع عنه أفلاطون هو بالضبط ما سيطلق عليه كانط معرفة العام، أي التمثيل العقلاني للغاية المنشودة والوسائل التي تفرض ذاتها: الغاية هي نوع الإنسان الذي يجب تطويره، والوسائل تشير إلى تصور الإصلاحات السياسية والتربوية التي من الضروري المرور عبرها.
الهدف هو تحديد الخاص من قبل العام، ولا يتحقق إلا إذا تم استيعاب الخاص بشكل صحيح في إطار العام. وهكذا، كما يقول أفلاطون، يزدهر اتجاه ما إذا توافرت الشروط السياسية أو الدستوريةالمناسبة لتطوره. هذا يعني أنه إذا أرادنا تشجيع تطوير اتجاهات معينة، محاربة أو الحد من أخرى، خلق نمط مثالي، فيجب تنفيذ الإصلاحات الدستورية المناسبة.
يتم إصلاح العقليات وفقا للطريقة التي يتم بها تطبيق القوانين، ما يفترض أيضا أنه من الممكن أن نتصور على نحو كامل سيناريو سياسة متحررة من شذوذ العقليات. ومن الاتجاهات السائدة في العقليات في بلد ما، يمكن أن نستنتج طبيعة القوانين السارية، والطريقة التي يتم بها تطبيقها هناك.
انتهت الحلقة الخامسة من هذه السلسلة بفكرة مفادها أنه من خلال الاتجاهات السائدة في العقليات في بلد ما يمكن أن نستنتج طبيعة القوانين السارية، والطريقة التي تطبق بها هناك. غير أن طغيان الميل بجنون العظمة لبناء القلاع وعبادة المال يجعلنا نقول في قرارة أنفسنا إننا نعيش، أو نسقط دون أن نعلم في Timocratie أو (**) Timarchie، الكلمتين اللتين يعيّن بها أفلاطون “حكومة الشرف”.
مثل هؤلاء الرجال سيكونون جشعين لمزيد من الثروات؛ سوف يكنزون بشراسة، في جنح الظلام، الذهب والفضة، سيكون لديهم متاجر وكنوز خاصة، حيث يحتفظون فيها بثرواتهم الخفية، وكذلك مساكن محاطة بالأسوار، أعشاش خاصة حقيقية، فيها سينفقون بشكل كبير على النساء وعلى من يرونه مناسبا.
على الرغم من أن السياق الخاص الذي حصل لديه فيه الحدس بعيد عن السياق الذي نعيش فيه بمسافة زمنية تقدر بخمسة وعشرين قرنا، بيد أن أفلاطون يتحدث إلينا مع ذلك باعتباره معاصرا مستبصرا. أفكاره قديمة تاريخياً، لكنها ليست قديمة من الناحية الفلسفية.
نفهم لماذا تحدث رايمون آرون عن تجانس الماضي والمستقبل. لأن الأحداث الراهنة هي نفسها تاريخية والفيلسوف الذي يفكر قي الأحداث الراهنة لا يفكر فقط لمعاصريه، ولكن أيضا للأجيال القادمة.
لكن هل يمكن لهذه الأفكار التي تقاوم صحتها التاريخ أن تؤثر على التاريخ؟ المستقبل، الذي يتم احتواؤه في الحاضر بنفس طريقة احتواء الأخير في الماضي، أي بطريقة غير محددة، موضوع أحكام إشكالية وليس تأكيديا أو تصوريا، فربما يكون مدينا للفلسفة؟
يمكننا الإجابة على هذا السؤال من خلال المثال الدال لديكارت، المفكر في الفكر. معه حدثت ثورة كوبرنيكية حقيقية. فمن خلال إعادة تأهيل الفكر ومعه الإنسان، فسح ديكارت فكريا المجال لعصر التنوير، الذي لا يزال يُطلق عليه قرن العقل. ماذا كان سيحدث لو لم يشرع فكريا في تخويل الإنسان حقه في التفكير، إذا لم يكن مقتنعا بأن التفكير ليس حقا فحسب، بل واجبا أيضا؟
كان ديكارت، بلغة كانط، هو الذي على يده نجحت فكرة أن الإنسان لن ينتصر إذا لم يجرؤ على استخدام فهمه دون مساعدة الآخرين، وإذا لم يخجل من تقبل وضع قاصر أو حالة تحت الوصاية. من خلال إعادة تعريف الإنسان بالفكر، أي من خلال القدرة على الحكم جيدا وتمييز الصحيح عن الباطل بدلاً من الإيمان، من خلال تحقيق هذه العودة إلى الكوجيتو بطريقة حاسمة، وضع ديكارت الأساس الرئيس للحداثة التي تتباطأ أفريقيا في الدخول إليها.
مع ديكارت، يبدو أن المعرفة العقلانية وليس الإيمان هي التي تنقذ، وأن الإنسان لا يستطيع أن يخلص نفسه بالثقة في الحيل مثل التعاويذ والصلوات، بالاعتماد على المعجزات. فإذا كان الله موجودا بالفعل، فقد أعطى الإنسان مرة واحدة وإلى الأبد وسيلة واحدة فقط لإنقاذ نفسه: الفكر. سيحدث تكريس الفكر، وبالتالي الإنسان، مع عصر التنوير الذي يتحدث الغربيون عنه اليوم بفخر مبرر. لو لم تتحقق هذه الثورة الفكرية، لما كانت الثورة الأمريكية، ولا الثورة الفرنسية، ولا الثورة الصناعية.
لذلك يمكن للفلسفة، من خلال أفكارها، تحديد المستقبل. يوضح المثال الديكارتي أنه يجب عليها ذلك؛ ولكن، من الناحية المنطقية، يمكن أن يكون لها تأثير ضار على المستقبل، لأن من يستطيع أن يفعل الأفضل هو أيضا قادر على فعل الأسوإ. من الممكن جعل الأسباب السيئة تنتصر، لخلق تأثيرات ضارة أو فرض القصور الذاتي، في أي حال لتأخير التقدم عن طريق تعميم الأفكار السيئة، مثل الكراهية والخرافات.
لذلك، هل يجب أن نسمي “فلسفات” المذاهب التي تنشر الخرافات والكراهية، أي الإيمان بالمعجزات وكراهية العقل التي يخفيها البعض تحت العنوان النبيل “العقل الجمعي”، مع وجود “عقول” مختلفة جدا لدرجة نتساءل معها عما هو القاسم المشترك الذي بفضله يتم تعيينها بنفس الكلمة؟
تصرح السيكولوجيا المتعالية لمينراد هيبغا، الذي يكون خطأه بالتأكيد أقل من ذلك الذي تم دحضه في “نقد العقل الخالص”، بمعتقدات خرافية شائعة جدا، بحيث يمكن لنا أن نتساءل عن نصيبها من الفلسفة بشكل صحيح عندما تكتفي بإعادة تأهيل الرأي؛ اي المعرفة عن طريق الكلام والسماع، على جميع المستويات.
هذه “الفلسفة”، بما أنه من الضروري بالتالي الاستسلام لتسميتها كذلك بسبب المكانة المهنية لمؤلفها، تقوم على المبدإ السفسطائي للمفهوم “الثلاثي” حول المركب البشري، على الإيمان بـ “الظواهر الخارقة”، وعلى الفكرة المتعالية لـ “الذات الخارقة”، المعادل المتسامي لـ “الروح” كمادة في السيكولوجيا العقلانية المستوحاة من وولف والتي، من جانبها، كانت لها ميزة فلسفية تمثلت في استعارة دقة الرياضيات.
في الحقيقة، يبدو أننا نتعامل هنا في الواقع مع عقيدة – مشبعة بمعرفة وتعد الثقافة الفلسفية أحد مكوناتها – لما يسمى بـ”طارد الأرواح الشريرة” الذي يبحث عن زبناء “يخلصهم” من المارد ويحميهم من “السحر”. هنا تتم مداعبة الخرافات باتباع اتجاه الزغب؛ والقارئ الساذج، الذي تأثر بالحيل المعقدة مثل اللاتينية والمعادلات الرياضية والفيزيائية الملحقة بالكتاب والتي لا علاقة لها بجسد النص، كان مفتونا بها حرفيا، غير قادر على إلغاء الشك في ما حصل عليه منذ طفولته من أفضال “السحر”.
لم يشك “المعلم” نفسه في الآثار الضارة لعقيدته على “تلاميذه”. استحوذ على أحدهم الاعتقاد الخرافي، وأعلن أنه “طارد للأرواح الشريرة”، معتبرا المثلية الجنسية ممارسة شيطانية من خلالها يفرغ “الساحر” شريكه البريء من “الفرص” التي منحت له ويمتلكها لحسابه.
وهكذا بدأ في الانغماس مع طلابه في طقوس الشذوذ الجنسي، مقتنعا أنه بذلك يزيد من رأس مال “فرصه” لتسلق سلم المجتمع.
تلميذ آخر، يدعو إلى أن الإنسان يجب أن يقتحم دائرة باطنية ليصبح روحا عظيمة، يتجاهل هذا العنصر، المهم عند “معلمه”، وهو ، وفقا للأخير، أن الدوائر الباطنية، المسماة “نحلا”، هي كنائس شيطانية، مما يساهم بشكل واضح في شيطنة أي شخص ينتمي إليهم أو يشتبه في انتمائه إليهم.
هذه العقيدة، التي مبدعها “كاهن طارد للأرواح الشريرة” و “فيلسوف”، تقدم ضمانة مهمة لممارسات رجعية مثل مطاردات الساحرات.
إن المعجبين بالسيكولوجيا المتعالية هاته لا يدركون التناقضات، الثغرات، المغالطات والقياسات الفاسدة في عقيدة الأب هيبغا. وحتى لا يضطروا إلى “مضاعفة عبثا ودون ضرورة” الجواهر، يقرر أنه بالنسبة للأفارقة، للمركب البشري ثلاث حالات، بينما، وفقا لأبحاثه الخاصة، في العديد من الثقافات الأفريقية، نجد تصورات لأربع أو خمس أو ست حالات.
لا يقول الأب هيبا من جهة أخرى ما إذا كانت المفاهيم “الأفريقية” لأكثر من ثلاث حالات خاطئة، أو ما إذا كان مفهوم “المركب البشري” يطرح مسالة ثقافية بسيطة. بدلا من ذلك، ينقل خلسة النتائج المشكوك فيها لبحث إثنوغرافي إلى دعوة إيمانية ميتافيزيقية. كان هو الذي، من أجل قضيته الميتافيزيقية، قدم خلسة مفهومه عن “المركب البشري” في “الثقافة الأفريقية”. هذه هي العملية الفلسفية الإثنية التي أطلق عليها مارسيان توا “الرجعية”.
إنما العقلانية على أية حال هي التي طورت البشرية – العقلانية من النوع الديكارتي والكانطي. وكما يوضح رايمون آرون، من الصعب تخيل العالم اليوم إذا لم يكن قد تميز بالدقة والأفكار المثمرة لمفكرين مثل كانط.
لن نتساءل عما إذا كان من الممكن ان يتغير شيء لو لم يكن كانط موجودا أو مات قبل خمسين عاما. لن يؤلف “نقد العقل الخالص” وسيكون الشعور بالنقص في حد ذاته حتميا. أما السؤال عما إذا كانت الأمور ستعود بنفس الطريقة في النهاية، فيمكن، من الناحية النظرية، طرحه. لكنه قليل الأهمية لأنه في غياب ‘نقد العقل الخالص”، هل يمكننا تصور الأفكار التي هي اليوم جزء لا يتجزأ من عالمنا؟
احتراما للخطاطة المنهجية المعتمدة في هذه السلسلة، يجدر بنا تخصيص هذه الحلقة للحديث عن الفلسفة وتاريخ الفلسفة.
من الناحية التاريخية، تكون الفلسفة دائما مثمرة، لذلك هناك اهتمام بدراسة تاريخها لأنها تحتوي على أفكار كانت بمثابة حجة لهما معا. ومع ذلك، فهل يتعلق الأمر بالبحث عن هذه الأفكار في النصوص التي وُجدت فيها لاستخدامها كنماذج عديدة لأفكار يتعين تطبيقها؟
التاريخ بشكل عام، وتاريخ الفلسفة بشكل خاص، ينبهران بالنماذج المرموقة التي نتعلم منها؛ وهذا الانبهار التاريخي هو عائق إبستيمولوجي بالمعنى الذي قصده غاستون باشلار، أي عامل داخلي يعيق الأداء السليم للفكر بحثا عن المعرفة.
من هو هذا المفكر المرموق الذي يتوجب علينا اللجوء إلية قصد التزود بهذه الأفكار التي لا يسعنا إلا تطبيقها؟
كل من لديه إلمام تام بأفكار مفكر عظيم، كما قال كانط، لن يمتلك سوى “معرفة تاريخية كاملة” بفلسفة هذا المفكر. هذه الأفكار التي تعلمها جيدا، على الرغم من كونها عقلانية بشكل موضوعي، وبعبارة أخرى عقلانية في حد ذاتها، فهي مع ذلك ذات أصل داخلي في الشخص الذي امتلكها بهذه الطريقة؛ فهي ذاتيا تاريخية وليست عقلانية ذاتيا. إنها ليست أفكاره، لأن المعرفة التي يُمكن أن تنسب إليه “لم تخرج من عنديته من عقله”؛ فهو ليس سوى مستودع.
هذا ما دفع كانط للتمييز في الفلسفة بين مفهومها المدرسي وبين مفهومها الكوني، وهو التمييز الذي يسمح لنا، على إثره، بالحديث عن الفلسفة السكولائية (المدرسية) والفلسفة الكونية، عن الفلاسفة السكولائيين و الفلاسفة الكونيين. فلسفة سكولائية وفلسفة كونية هي مصطلحات جديدة خاصة بنا، مستوحاة من التمييز الكانطي الموضح أعلاه.
الفلسفة السكولائية هي بمثابة مدرسة للعالم في مجمله؛ لأنها تحدد الممارسة المدرسية للفلسفة، مغرمة ومهووسة بالمراجع المرموقة التي تبدو بالتالي أساسية فيما يتعلق بالأفكار الشخصية. اما في الفلسفة الكونية، تكون الأفكار الشخصية، على العكس من ذلك، أساسية والمراجع عبارة عن متعلقات. إنها الفلسفة كما مارسها الفلاسفة الأوائل مثل سقراط، أفلاطون، أرسطو، ديكارت، سبينوزا، كانط أو هيجل، أي الفلاسفة الكونيون.
إذا كان من الممكن أن يكون هناك مجموعة من الفلاسفة، فإن هؤلاء سيكونون هم ساكنوها؛ وستُغلق أبواب مثل هذه المؤسسة في وجه أولئك الذين لا يستطيعون سوى القيام بـ “تاريخ الفلسفة”، أولئك الذين يهتمون بالفلسفة فقط بمناسبة دراسة النصوص الفلسفية التي كتبها الآخرون الذين تحملوا عناء تطوير وإنتاج الأفكار.
البعض، كما نرى، هم فقط وكلاء – ناقلون للأفكار التي ينتجها الآخرون؛ هذا هو الفرق بين الفارس والإسطبلي. استنكر كانط، منزعجا، أجواء التفوق الفكري الذي يدعيه لانفسهم على حساب منتجي الأفكار أولئك الذين تقتصر قدراتهم الفلسفية على “تاريخ الفلسفة”، والذين لا يدركون لسوء نيتهم أو سذاجتهم تبعيتهم أحادية الجانب حيال أولئك الذين يدينون لهم بفرصة العمل الفكري.
هناك من العلماء من يستمدون من التاريخ (القديم والحديث) فلسفتهم الخاصة. فليس لأجلهم كتبت المقدمات الحالية. يجب أن ينتظروا أولئك الذين يعملون على الاستفادة من منابع العقل نفسه حتى ينهوا مهمتهم، وبعد ذلك سيأتي دورهم لتثقيف العالم بما تم إنجازه.
بهذا المعنى استطاع كانط أن يقول: “لا يمكن تعلم الفلسفة بل يمكننا فقط تعلم التفلسف”. لم يقل إن الفلسفة لا يمكن تعلمها بأي شكل من الأشكال، بل قال إنه لا يمكن تعلمها إلا على نحو تاريخي.
ومع ذلك، ما هي المعرفة الناتجة عن هذا التعلم التاريخي للفلسفة؟ مع كانط، يبدو أن التعلم التاريخي للفلسفة لا يمكن له، بقدرة قادر، أن ينتج معرفة فلسفية في فكر الشخص الذي يتعاطى له. لا يمكن أن ينتج عنه إلا المعرفة التاريخية؛ أي أن الاطلاع على الفلسفة ولو كان واسعا؛ بدون أي شكل آخر من أشكال التمرين، لن يعدو ان يجعل التعلم التاريخي للفلسفة يثري الذاكرة بدلاً من ان ينمي العقل.
وفقا لما ورد في هذه الموضع الشهير من “نقد العقل الخالص” وحتى لا ننساق إلى تفسيرات سطحية أو مغلوطة، يكون التعلم التاريخي للفلسفة، أي الانكباب على قراءة النصوص الفلسفية، من بين أمور أخرى، فرصة لتعلم الفلسفة. يمكن تعلم التفلسف عن طريق التعلم التاريخي.
يتعلق الأمر، في سياق مدرسي، بقراءة الفلاسفة والتفكير معهم، أو بالتالي، إذا غاب السياق المدرسي، بتعبير آخر إذا كان المرء مهتما بالفلسفة دون أن يكون قد تلقى تكوينا أكاديميا.
في كل الأحوال لا بد من قراءة الفلاسفة ودراستهم. يوصي كانط ضمنيا بتعلم تاريخي منطقي للفلسفة: مع النصوص الفلسفية، يمكن للمرء أن يمارس موهبة العقل بالمعنى الرياضي للكلمة، وأن يمرن العقل على المضي قدما في تطبيق مبادئه العامة، وإكسابه، من خلال التمارين، عادات نقدية.
هذه هي موهبة العقل التي برهن عليها الفلاسفة: تعلم الفلسفة هو التدرب على السير في طريق المفهوم. بهذا المعنى، دعا هيجل، ضدا على فلسفة الحدس والشعور الداخلي والمعرفة المباشرة التي لا تحتاج إلى برهان، إلى علمية الفلسفة.
لا يمكن أن يكون الشكل الحقيقي الذي توجد فيه الحقيقة سوى النظام العلمي لتلك الحقيقة. التعاون في هذه المهمة، وتقريب الفلسفة إلى شكل العلم – إن تحقق هذا الهدف ستكون قادرة على إسقاط اسم حب المعرفة لتكون معرفة حقيقية بشكل فعال – هذا هو ما اقترحه كانط على نفسه كغاية.
تم وضع الشكل الأصيل للحقيقة في هذه العلمية – الشيء الذي يوحي بأن الحقيقة تعثر على عنصر وجودها في المفهوم وحده. إذا كان الحق موجودا على وجه التحديد في ما يسمى حينا الحدس، وحينا آخر المعرفة المباشرة بالمطلق، بالدين، بالوجود، فمن وجهة النظر هذه، يكون بالأحرى عكس الشكل المفاهيمي مطلوبا لتقديم الفلسفة.
لا ينبغي تصور المطلق، ولكن فقط الشعور به وحدسه؛ ليس مفهومه، بل يجب أن يكون لشعوره وحدسه صوت وأن يتم التعبير عنهما.
كان هيجل، ناقد الفلسفة العرقية في نسختها الأولى، على حق عندما ذكر بأن العمق الفلسفي ليس نتيجة وحي، بل هو ثمرة عمل، وأنه ليس أداء تلقائيا، وأن الفلسفة ليست شيئا يمكنك الانغماس فيه بدون معرفته د، نشاطا يمكن ممارسته دون تعلم أو تمارين. ليس هناك فلسفة عفوية أكثر من رياضيات أو فيزياء عفويتين، لا يصير الإنسان فيلسوفا بشكل عفوي أكثر من أن يصير تقنيا أو فنانا بشكل عفوي.
لذلك فإن الحجة الخادعة هي تلك التي مفادها أن كل شخص يمكنه تقدير الفلسفة حق قدرها لأن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وإلا فسيكون صحيحا بنفس القدر في جميع العلوم والفنون والتقنيات، ما دام أن العقل لا يتدخل فيها بنسبة تقل عن تدخله في الفلسفة.
من هذا الجانب، يبدو من الضروري بشكل خاص ان نجعل من الفلسفة قضية جادة. بالنسبة لجميع العلوم والفنون والمواهب والتقنيات، يسود الاقتناع بأنه لا يمكن امتلاكها دون تحمل عناء ودون بذل جهد مفض لتعلمها وممارستها.
إذا لم يكن أي شخص، ذو عينين وأصابع، ووضعت رهن إشارته جلود وأدوات، ليس في وضع يسمح له بصنع أحذية، فلا زال يسود إلى يومنا هذا الحكم المسبق الذي وفقه يعرف أي شخص على الفور كيف يتفلسف ويقدر الفلسفة حق قدرها، ما دام يمتلك وحدة القياس في عقله الطبيعي – كما لو أن كل شخص لم يكن لديه أيضا مقاس الحذاء الذي ينتعله.
ختاما، كان السؤال الذي تم فحصه هو ما إذا كان النشاط الفلسفي يمكن أن يؤثر على التاريخ بالمعنى الذي يشير إليه، ليس كعلم بالماضي البشري، ولكن كموضوع للمعرفة في هذا العلم، كمصير بشري.
في البداية، كان الأمر يتعلق بالتبعية التاريخية للفلسفة. حيثما تطورت الفلسفة، إلا وتظهر ، من بين عناصر ثقافية أخرى، كسمة من سمات التفرد التاريخي للفترة المعنية. وعلى هذا النحو، فإنها تثير فضول المؤرخ.
هناك تبعية تاريخية للفلسفة لأن التفكير الفلسفي هو بحد ذاته أحد الطرق التي يتفاعل بها الفكر مع تجربة تاريخية محددة. إنه يتفاعل معها من خلال عمل المفهوم، بالمعنى الذي يعرِّف فيه كانط الفلسفة على أنها “المعرفة العقلانية بالمفاهيم”.
وبالرغم من أنها نشأت من تجربة تاريخية محددة، إلا أن الأفكار الفلسفية تكتسي طابعا كونيا، ولا تقتصر قيمتها على الزمان والمكان اللذين ظهرت فيهما.
ويبقى الحوار الفلسفي مع مفكري الماضي ممكنا دائما، والأفكار التي طوروها منذ فترة طويلة أو منذ وقت ليس ببعيد من المرجح أن يتم تحديثها لأن الميول البشرية التي درسوها تظل كما هي مع مرور الوقت.
إذا تم بالتالي الدفاع عن أطروحة الخصوبة التاريخية للفلسفة، فإنه على أساس هذه الملاحظة أعطت هذه الأفكار دليلها التاريخي، كما يشهد على ذلك مثال الفلاسفة اليونانيين في قرن بريكليس، أو مثال المفكرين الأوروبيين في بداية العصر الحديث، مع “الثورة الكوبرنيكية”، التي قام بها ديكارت، والتي بلغت ذروتها في عصر التنوير.
بهذا المعنى، تعتبر الفلسفة أحد الدائنين للتاريخ، وتعد ممارستها جديرة بالتشجيع. من المرغوب فيه بشكل خاص أن تكون الفلسفة جزءا من التجربة التاريخية لأفريقيا الحالية.
ومع ذلك، يبقى أن نرى كيف نجعل التراث التاريخي المتنوع للفلسفة مربحا من الناحية الفلسفية.
في هذا الصدد، يبدو أن الطريقة الجيدة “لتعلم الفلسفة” هي قراءة الفلاسفة أثناء التفكير معهم ؛ يتعلق الأمر بممارسة تعلم تاريخي منطقي للفلسفة. من شأن ذلك أن يؤدي إلى تطوير العادات النقدية، لأن الفلسفة التي يمكن أن تسهم في التقدم هي تلك التي تعتمد على الموارد النقدية.
____________________________
(*) البرناسية أوالممضى البرناسي يدعو إلى اعتبار الأدب غاية في حد ذاته وإلى الامتناع عن استعماله وسيلة لعلاج القضايا الاجتماعية والسياسية. تطور هذا الممضى في اتجاه آخر وأُطلق عليه اسم ممضى “الفن لأجل الفن” ويرى أن الأدب نفسه ينبغي ان يُنتًج بعيدا عن الاعتبارات الوطنية والاجتماعية والسياسية.
(**) ينطوي هذان المصطلحان على نفس المعنى وهو نظام سياسي يبحث فيه الماسكون بالسلطة قبل كل شيء عن كل ما هو ثمين وذو قيمة ويعشقونه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية


.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس




.. إيران تحذر إسرائيل من استهداف المنشآت النووية وتؤكد أنها ستر


.. المنشآتُ النووية الإيرانية التي تعتبرها إسرائيل تهديدا وُجود




.. كأنه زلزال.. دمار كبير خلفه الاحتلال بعد انسحابه من مخيم الن