الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


َفأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2021 / 4 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الفطرة التكوينية هي البصمة الأولى للذات حينما جعلها من خلقها أن تكون كذلك لأنها وكما يقول العلماء البيولوجيين النموذج الأساس القياسي الذي تتكون عليه الذات المفطورة بناء على قاعدة (أن الأشياء المتماثلة تنتج عن أساسات وقيم تشكيلية متماثلة)، وإلا سنخرج بنتائج مختلفة لأختلاف البذور أو النواة الأولى أو القواعد الأسية المسئولة عن وحدة الذات الواحدة، فالإنسان هو وحدة تكوينية تكيفية متماثلة في نقطة الصفر تنتج لنا بعد النمو والتطور أشكال من النماذج تختلف بتأثير البيئة التربية التعليم وظروف أخرى، ولكن من حيث البداية هو شكل واحد بقواعد واحدة وقيم مشتركة قابلة للنمو بأتجاهات متعددة، ويبقى الإنسان مهما تطور وأختلف وتنوع فكريا ومعرفيا وحتى جسديا مرتبط بتلك القواعد والقيم حتى يهلك ويتلاشى.
مثلا على المستوى العلمي التجريبي (في دراسة لعالم النفس، والمتخصص في علم الإدراك الديني بجامعة أكسفورد، "جستون باريت"، قامت مساعدته "إيما بوردت" بإجراء مقابلة مع أم إنجليزية وولدها ذي خمسة الأعوام، لتذكر أنه، في الحين الذي صرّحت فيه الأم بإلحادها، كان الصغير يجيب عن أسئلة الدراسة بصورة ملأت والدته بالدهشة وهي تسمع ولدها ينفي عن الله احتمالية الموت، بعدما أقر بحتمية وجوده كخالق للأشياء، ومن ثم قدرته على معرفة ما تحتوي عليه علبة البسكويت المغلقة -حسب أسئلة التجربة-، إلى آخر الإجابات التي أبرزت اعتقاد الطفل الجازم بوجود الله، حتى إنه نطق صراحة بعد سؤال أمه "هل تؤمن بوجود إله؟" قائلا: "حسنا.. بالطبع يا أمي")، توصّل "باريت" من خلال كتابه "فطرية الإيمان" إلى حقيقة مفادها أن المرء يكون، أول ما يولد، قادرا على استيعاب الإيمان الإلهي من خلال مستقبلات في الإدراك العقلي، بالإضافة إلى مجموعة من المقدمات الاستدلالية التي تؤهّله للاعتقاد بحتمية وجود صانع لهذا الكون.
هذه الدراسة وإن كانت لا تعد قانونا علميا بثبت أن المكونات الجينية لدى الإنسان في جزء منها ما يشير إلى أن الإنسان ما هو إلا كائن معرفي يبحث في كل شيء يمكنه أن يقود للاستدلال على أسئلة الكون الوجودية ومنها أستعداده الحتمي لقبول قضية الإيمان بوجود خالق مطلق قادر على أن يكون مؤثرا في حياته على نحو ما، وأن الإنسان أيضا على أستعداد للتعامل مع هذه القوة بصورة أو أخرى.
يقول رضا زيدان عن الشعور الديني وحقيقته في الذات البشرية الأولى في كتابه الإجماع الإنساني (أنه حاضرا في نفوس أغلب البشر، وهو ما يوافقه قول السيكولوجي الشهير "إيريك فروم" بأنه "لا وجود لإنسان بغير حاجة دينية، حاجة إلى أن يكون له إطار للتوجيه وموضوع للعبادة)، فالحاجة للشعور الديني ليست قضية مكتسبة كما يظن البعض بل هي بصمة تكوينية أولى ضمن منظومة الفطرة الأولى التي يفطر عليه الفرد سواء تنبه لها أو لم يتنبه بفعل خارجي لكنها تعمل بالتأكيد بمجرد أن يبلغ الإنسان القدرة على الرؤية من خلال وجوده بوجوده، ويعود ياريت ومدرسته العلمية ليبرهن أن ما يدعيه البعض من أن شعور الأطفال بالإحساس بمشاعر التدين على أنها جزء من طفولية العقل البشري وهو مثلا يؤمن بالخرافات والأساطير التي يتلقها في لبيت والمدرسة والمجتمع، فيقول (إذ يقول "باريت" أنه لو كان ذلك صحيحا، فلماذا تختفي الخرافات كلها من أذهاننا بتقدم العمر ولا يختفي الإيمان)، سؤال كبير يعجز الملاحدة من نكرانه والدليل هو أهتمامهم الزائد في محاربة كل شعور ديني ومحاولتهم قتل الله وجوديا في ذهن الإنسان لعلهم يستطيعون أن ينفوا ما هم عاجزين عن إدراكه أو محاولة فعل ذلك على أنه هو الواقع الذي يريدون.
في مقالتي هذه وأنا أستذكر مقولة فولتير الشهيرة (لو لم يوجد الإله لكان من الضروري اختراعه)، في كل الحالات هناك ميل فطري تشترك فيه الإنسانية جمعاء كحقيقة تأريخية وواقعية أننا جميعا بحاجة إلى فكرة وتجسيد لقوة ما نسميها بأي مسمى لكنها جميعا تشترك مع حقيقة أن الإنسان ليس نتاج عشوائية تحكم الوجود وتسيطر على تفكيره، الملحد قد يكون مؤمنا بفكرة ما أو أنه خضع في مرحلة من مراحل حياته لصدمة أو صدمات نسبها لوجود الله أو لتأثيره على نتائجها، فهو يهرب من الله ظانا أنه يلغيه من الوجود، تقول وتكتب الصحفية الأمريكية "إليزابيث كينج" بمقالها في "واشنطن بوست" "أنا ملحدة، فلِمَ لا أستطيع أن أصرف الله عني؟"، فتقول: "من المحبط أن تشعر بوجود شيء لا تؤمن به… ومع أني لا أزال ثابتة على عدم الإيمان، إلا أني أشعر أيضا أنه لا خيار لي سوى قبول أنني ملحدة مع ميل إلى الله"، السؤال مع حراجة الجواب يثبت أن الإيمان بالله ميل فطري لا يمكن إلغاؤه أو تجاوزه مع كل المعرفة والإيمان الأخر بالنقيض وهذا ما يكشف أزمة العقل الملحد تماما.
لا يحق لنا هنا أن نتهم الملحد بالعقلانية الفارغة المدعى بها لولا أنها تخالف أصل إيمانهم الخاص بعدم وجود العدم ذاته، فالملحد يعود بكل قضية إلى علة أو سبب علمي لا يمكن أن ينتج من فراغ، ومن مظاهر هذا الإنكار أن الكون لا بد أن يجري بقوانين عشوائية، فهو يعترف بالسبب إذا ولكنه يصف وجودها كونه غير محكوم بقوانين منضبطة موضوعة ومقننة سلفا ولكنها موجودة بالفعل بالتأكيد، فالإلحاد في أقصى مظاهر ثورته ورفضه للإله تعبير عن تنازع الإيمان بالله مع الواقع المرفوض، ذلك لأن امرأ عاقلا لا يمكنه أن يثور على العدم، وإلا نسف حتى فكرته عن العشوائية ذاتها.
إذا نحن أمام خيارين أما أن يكون الوجود محكوم بعلة وسبب ما سابق لوجوده وهو المسئول عن كل ما يجري وإليه ينسب مفهوم القوة والقدرة، أو نذهب لننسف كل القوانين العلمية ومنها قانون حفظ المادة والطاقة وأن كل شيء جاء من العدم وإليه يرجع في النهاية مع أستحالة فهم العدم أو حتى تصوره في العقل الإنساني، وهنا نعود إلى حقيقة هي (قبل أن ننسب شيء موجود لشيء غير موجود دليل على أن النسبة غير متحققة ولا يمكن إثباتها حتى نتعرف على اللا موجود بشكل مناسب مما يقودنا للرجوع إلى قانون العلية والسبب)، وفي هذا الإطار تحديدا يعترف الفيلسوف الوجودي الملحد جان بول سارتر بهذه المشكلة قائلا (يجد الوجودي حرجا بالغا في ألّا يكون الله موجودا، لأنه بعدم وجوده تنعدم كل إمكانية للعثور على قيم في عالم واضح)، إذا الإلحاد وليس دفاعا عن الإيمان وضع نفسه في الحرج لأنه وضع رؤيته وأفكاره في عالم مشوش عالم ملئ بالخطأ لفقدان البصيرة فهو كالأعمى الذي يريد أن يقطع شارعا مزدحما بكل أشكال الزحمة ويريد أن لا يصطدم بشيء لأنه يفترض أن العشوائية هي التي ستوفر له هذه الحالة من عدم التصادم، منطق أقل ما يقال عنه أنه لا يؤدي إلى نتيجة عاقلة أبدا.
إذا لا بد من وجود وضوح في الرؤيا حتى نفهم الواضح ونعمل على تفسيره أو رده إلى قوانينه الأصلية، فالوجود موجود بفعل خارج عنه لحقيقة علمية مجردة أن لا يكون المصنوع هو ذات الصانع وأن وجود الصانع لا بد أن يسبقه بزمن يكفي ليكون الأخير قادرا على أن يفعل، وحتى يكون قادرا على أن يفعل لا بد له من طريقة تجعله لا يخطأ ولا يمارس العبث أو الجهل فيما يصنع، هذه الطريقة التي يجب عليها أن يكون هي بالتأكيد واعية وعارفة ومتحكمة بأدواتها حتى تنجح، قد لا يفهم المصنوع نلك الحقائق ولا يهمه منها إلا نتيجة وجوده فهو مهتم أكثر بها ولكنه لا ينكر أنه نتاجها وأنها قادرة كما صنعته أن تتحكم بمفاتيحه بالصورة التي لا يمكنه منعها أو التأثير عليه، فهو يخضع لها قبل أن يوجد وأثناء تصنيعه وبعد وجوده وهذا ما يفسر الميل لها والإيمان بها لأنها في تكوينه كانت موجودة وكانت متغلغلة في النواة التي صنع منها، إنها الفطرة التي تناديه بصوت خفي دوما أنك لست عبثا ولا عدما ولا خيال، أنك حقيقة كما أنت وحقيقة واضحة لا يسعك أن تنكر وجودها أو تنكر من وجدها كذلك، بهذا الصدد يقول ويؤكد البروفيسور الأميركي فيليب جونسون (إن الإنسان الذي يشكّك في مجموعة من العقائد هو في الحقيقة مؤمنٌ حقيقي بمجموعة أخرى من العقائد، مهما ادّعى غير ذلك)، إذا فالملحد بالتأكيد لديه مشكلة ما مع مجموعة عقائد أو ربما رفضا لها لأنه يدافع عن عقيدة ثانية هي في الأخر تمثل له دين أو مفهوم ديني أختاره هو وأمن به حتى لو أنه أستطاع أن يبشر به فهو سيفعلها كما يفعلها أهل العقائد والأديان وسيختار لها قواعد وأطر ومرجعيات تتناسب مع فكرته ومع ما يؤمن به، فهو بالأخر يسعى لتشريع دين جديد دين قائم بذاته ويجعل من نفسه إلها بأعتبار أنه هو من أنشأ هذا الدين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد