الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مبارزات المثقف النقدي

حسن مدن

2021 / 4 / 18
العولمة وتطورات العالم المعاصر


في التراث العربي الإسلامي كان العالم أو المفكر في الأصل رجلاً موسوعياً. إنه يجمع بين الفقه والطب والرياضيات والعلوم الفلسفة. أما اليوم فبالكاد نعثر على مثقف متبحر في حقل اختصاصه.
نقول هذا الكلام من وحي الضجيج الكبير الذي يثار حول المعلوماتية، التي تطرح بوصفها ثقافة العصر الراهن، ويكثر الكلام عن تدفق المعلومات وانسيابها، كما لو كانت هذه المعلومات تخلق نمطاً جديداً من المثقف الموسوعي الذي هو على بيّنة من كل القضايا.
أفول زمن المثقف الموسوعي له أسباب موضوعية، تكمن في التطور المذهل في المعارف والعلوم بحيث لم يعد في طاقة عقل بشري واحد أن يستوعب كل هذه التطورات، وحيث بات التخصص مطلوباً وضروريا، فحتى التخصصات الفرعية تتشظى هي الأخرى إلى فروع أصغر فأصغر، وبات كل فرع بحاجة لمن يتفوق فيه وينبغ.
ولكن الأمر الذي نحن بصدده يتصل بالرؤية الشاملة أو المنظور الفلسفي العام الذي بات الكثير من دعاة الثقافة اليوم يفتقدونه في أطروحاتهم وفي القضايا التي يتناولونها.
يتعين على المثقف الفرد أن يكون متعدداً، لا بمعنى أن يكون مختصاً في كل حقل من حقول المعرفة فذلك محال، وإنما يكون قابضاً على الخيط الذي يشد العلوم بعضها لبعض تعبيرا عن الترابط القائم بين الظواهر في الحياة نفسها وفي الطبيعة الأشمل التي تحوي كل هذه الظواهر.
هذا التعدد في ذهن المثقف الفرد يمنح رؤيته الشمول والنضج والمقدرة على إدراج التفاصيل الصغيرة في سياق عام، ثم أنها تعوده على التسامح والانفتاح على الآراء والأفكار الأخرى، وتحرره من أسر الجمود والانغلاق، وتنمي عنده ذائقة وحساسية نقدية عالية تجعله قادراً على التقاط ما هو جديد وما هو جوهري وواعد في التحولات من حوله.
العصر الراهن، عصر المعلومات كما يوصف، يدفع بالناس نحو المزيد من العزلة والتقوقع على الذات، ويأتي نموذج "المثقف" المعلوماتي المسحور بكمية ما يعرفه من بيانات في حقل بعينه ليكرّس هذه الحال من العزلة والضياع، فهذا النموذج يظل عاجزاً عن رؤية مكانة المعلومة ضمن نسق أشمل، أي أنه ينبهر بالتفصيل، بالجزء، ويتجرد، بالتالي، من حساسيته تجاه القضايا العامة.
المثقف هو في النهاية فرد واحد، لكنه يمكن أن يكون متعدداً في رؤاه وفي أفكاره. وإذا كان سيئاً ألا يكون المرء متخصصاً، فالأسوأ من ذلك أن يكون متخصصاً في جانب وفارغ الذهن في الجوانب الأخرى.
ولم يسبق أن تعرض دور المثقف إلى هذا القدر من التقريع والتوبيخ من قبل المثقفين أنفسهم، حيث وصل الأمر ببعض هؤلاء حد الاستهزاء بما يعده المثقف واجبا نضاليا ملقي على عاتقه. ويوضع موضع السخرية دور المصلح الذي كان المثقفون يعتقدون أنهم يقومون به، في مراحل سابقة باعتداد كبير، وفي رأي البعض "غدا المثقفون فائضا هزليا لا يحتاجه أحد، وأنهم ليزدادون هزلية وعقما" حين يتوهمون لأنفسهم أدوارا جدية وفعاليات تغييريه ومناشط لم يعودوا أهلا لها بعدما عصف بالعالم وبالبلاد العربية من متغيرات، كما أن مفاهيم مثل التنوير والنهضة والعقلانية توضع هي الأخرى موضع الشك والريبة في ظل واقع صارم ينحو أكثر فأكثر نحو التزمت والمحافظة والانغلاق على الذات.
ويذهب أحد هؤلاء المشككين إلى القول ما معناه: أن الدور التنويري والتحريري للمثقف الطليعي والنخبوي قد تزعزع منذ زمن بعد أن فقد مصداقيته وبات على هامش الفعل التاريخي، وبعد انكشاف الوهم الكبير الذي ألهم المثقفين تلك المشاريع الشاملة.
لكي لا نكون متجنين ، نعترف أن المناخ الثقافي العربي الراهن يشهد ردة إذا ما قورن الحال بما كان عليه في مراحل سابقة، وتتغلغل في جنبات حياتنا كل مظاهر وقيم السلبية والتخاذل والاغتراب والشعور العميق بالانكسار، مقابل صعود، لسنا هنا بصدد بحث طبيعته وأسبابه وآفاقه، لرؤى ومواقف فكرية تغطي الفراغ الذي نشأ بسب الوهن الذي اعترى مشروع النهضة العربية بروافده وتلاوين، ولكن هذا الاعتراف شيء، والدعوة إلى العبثية والعدمية واللاجدوى شيء آخر، حتى لو سلمنا بمشروعية القلق الذي يحفز عليها، حين ترمي كل الأفكار والأسماء بالفشل، وهذا قد يدفعنا للتساؤل عن الموقف الواجب اتخاذه تجاه ميراثنا الفكري الذي سيكون من التعسف رميه بالتحزب أو بالانتماء الايدولوجي الضيق، فماذا سنفعل بتراث الطهطاوي والكواكبي وطه حسين وسلامة موسى وغيرهم الكثير؟
إن هذه الدعوة العبثية لاستقالة المثقف ستقود إلى القطيعة الكاملة مع تقاليد الجدل وثمرات العقل والبحث، التي إليها يعود بعض الفضل، إن لم يكن الفضل كله في التراث الذي يريدنا البعض أن نجحده اليوم. ولا يمكن أن نغفل أن هذه "المراجعات" العربية ليست معزولة السياق عن الدعوات العامة على صعيد كوني، تبشر بنهاية الثقافة الجادة في ظل سيطرة ثقافة المتعة والاستهلاك . لكن حتى في الغرب تدعو الفعاليات الثقافية الحقيقية إلى تشكيل ما تدعوه "جزرا" للثقافة وسط هذا المحيط الاستهلاكي الواسع، وتتنافس القوى الحية في الانتخابات البلدية والبرلمانية على برامج تدعو لإيلاء خدمات الثقافة من مسرح وسينما ومكتبات ومتاحف وقصور الثقافة عناية أكبر.
فأين يجد هؤلاء المراجعون العرب لدور المثقف والثقافة مبرراتهم الأخلاقية التي تسوغ لهم هذه الدعوة الأشبه بكلمة الحق التي يراد بها باطل، لأن يحاصروا المثقف في برزخ العزلة كي لا يدنسوا الإبداع الصافي بالواقع المحبط ؟!
على المثقف أن يتسلح بأمرين كي يجدر به أن يكون مثقفاً حقاً، أولهما الذاكرة وثانيهما الشجاعة. الذاكرة صنو الثقافة التي هي بدورها مرادفة للتاريخ، فمثال الماضي ليس دائماً مرآة خادعة. والشجاعة ضرورية للمثقف لأنه يجب دائماً على العقل أن يتحدى مكائد المادة وأحابيل المجتمع.
في هذا السياق تبدو الفلسفة والتاريخ وحدهما القادرين على تكوين هذه الذاكرة وهذه الشجاعة.
هذه الفكرة جاءت في مقدمة كتاب يحمل عنوان "المثقفون والديمقراطية"، هو عبارة عن مجموعة أوراق قدمت في ندوة علمية عقدت تحت هذا العنوان منذ سنوات في فرنسا، وقام الدكتور خليل أحمد خليل بنقلها إلى العربية. اهتمت هذه الأوراق بمناقشة قضايا مفصلية تتصل بالدور الذي يتعيّن على المثقفين الاضطلاع به في ما يوصف بأنه حقبات التوتر السياسي الاقتصادي أو الاجتماعي.
لذا يأتي الإلحاح على محورية التاريخ، أو الوعي بهذا التاريخ من بابٍ أدق لأن الإنسان في هذا العصر، والمحروم من تاريخه، صار طريدة سهلة لكل أشكال القهر، وأخذ يتخلى عن ثقافته ببطء. "إنه مستعد للبقاء أكثر مما هو قادر على الحياة". هذا الإلحاح على استحضار التاريخ مهم لأن فيه توكيداً على مصادر أو جذور الحضارة الإنسانية، وليس الحضارة الغربية وحدها. وهذه المصادر بدءاً من الأزمنة الاغريقية الرومانية القديمة مروراً بفكر النهضة وروح الأنوار وثورة حقوق الإنسان، والديمقراطية السياسية، الاقتصادية والاجتماعية، تبدو بمثابة مرتكزات لا بد من العمل على صونها ومعرفتها وإغنائها.
وأمر لافت للانتباه أن مجتمعاً ديمقراطياً عريقاً مثل فرنسا يطرح على نفسه أسئلة بهذا العمق والجدية، ويجد من الضروري التوكيد على الثقافة بوصفها شرطاً من شروط التطور الديمقراطي، وبصفتها بديلاً لضغط الإرهاصات المختلفة التي يتعرض لها الإنسان في عالم ينزع فيه كل شيء ليكون مادياً واستهلاكياً، لتبدو هذه الثقافة فهماً يستوجب مجهوداً إبداعياً وفكرياً لا يرضى بالتكرار اللفظي يمكنه وحده أن يعيد للإنسانية رسالاتها النبيلة، فالبشرية بحاجة إلى علماء كما هي بحاجة الى رسامين وشعراء وموسيقيين، لذا يتعين النظر الفكري في الثقافة بذاتها ولأجل ذاتها بوصفها قوة ضرورية للوقوف في وجه تنميط الإنسان وتجريده من عالمه الروحي، وإعادة شروط تطوره الحرّ إليه، حين يصبح لكل فرد مجال إبداع خاص به، ومصدر ثقة في المستقبل، كردٍ على النزوع الرهيب الذي به يتحول العالم إلى "سوبرماركت" كبير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال ممتاز
أنور نور ( 2021 / 4 / 19 - 03:21 )
شكراً
مع التحية

اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية توقف رجلاً هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإير


.. نتنياهو يرفع صوته ضد وزيرة الخارجية الألمانية




.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط