الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار فلسفي مع فتاة ذكية

هيثم بن محمد شطورو

2021 / 4 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ـ هل تـتـذكرين تلك القصة في الصور المتحركة للأطفال المأخوذة من ألف ليلة وليلة. قصة تلك المدينة التي تحـول سكانها إلى تماثيل حجرية وكأنها منحوتة لهم لتخلدهم، ولكنها لعنة ساحر شرير أوقف حياة المدينة. المسيح الدجال المتمثل في عديد الشخصيات التي تتحكم في الناس وتحولهم إلى حجر بلا حياة نابضة. ثم بقـتل الساحر تعود الحياة إليهم من جديد. السحر كلمات لها قوة التحويل.. المعنى السياسي واضح هنا ولكنها مثيرة لعدة أفكار متـشابكة..
قالت وأصابعها الرقيقة تلف خصلات شعرها الأسود القصير :
ـ لا أعرفها. ولكن. آه كم هي جميلة.
ـ أولا. فالتماثيل ساكنة لا تتحرك وموضوعة في أمكنـتها لا تتحرك. لا تبتسم ولا تـتكلم ولا تـثير أي خوف أو قلق، وفي نفس الوقت فإنها بمجرد أن تـتعرض لدفعة ما فهي تسقط وتتحطم ربما لأنها فاقدة للإرادة ونبض الحياة. جمالها في سكونها وتبدو كائنات بريئة جدا وطيبة وتبعث الإحساس بالجمال. إنها بالفعل جميلة في تعبيرات الوجه ووضع اليدين والساقين في تلك الحالة الساكنة مثل التماثيل التي نحتها الإغريق أو المصريين القدماء. إنها في النهاية تـتكلم أو بالأحرى تـثير انطباعا وأفكارا وبالتالي فهي تـتكلم.
ـ بالفعل. التماثيل جميلة بقدر موهبة وقدرة النحات.
ـ جميلة بالنسبة لمن ينظر إليها. من ينظرها إنسان حي يفكر ويتـذوق الجمال. انه ينظر إلى حالة ثابتة من الحالات التي يمكن أن يكونها دون أن يتأمل جماله، لأنه يفتـقد القدرة على رؤية نفسه أولا، وثانيا يتأتى للثابت أن يتأمل الثابت ويستمتع به شأن الواقـفين أمام اللوحات التـشكيلية أو التماثيل في المتاحف وصالات العرض. فالمتحرك لا يستمتع بجمال الثابت لأنه لا يقف عنده أي في مقاربة لنفس الوضعية. العكس صحيح. فحين تمارس رياضة الهرولة ويعترضك شخص يهرول كذلك فإنك تستمتع للمماثلة، خلافا للحالة التي ترى فيها شخصا يهرول وأنت تمشي أو على سيارتك حتى وإن أعجبك ذلك. يمكن أن نصل إلى قاعدة نفسية هنا وهي أن المتعة تـقوم على التماثل قدر الإمكان في الوضعية وليست مجرد حكم من الذهن.. يبحث الإنسان عن شبـيهه لأنه يرى نفسه العالم فلا عالم في النهاية إلا هو بقدر اكتشافه له وتمثله له..
قالت وهي تعاود تلمس شعرها الأسود الرقيق:
ـ بالفعل. التمتع بجمال الغابة أو البحر كبير عند الواقف وأقل متعة للمترجل أما على السيارة فإحساس المتعة ضئيل. يعني الإحساس بالجمال والتمتع به يفترض أكبر قدر من التـشابه أو التـقارب في الوضعية.
ـ كذلك فالعنصر الثابت حتى لو ظهر جميلا إلا انه فاقد للحياة، وبالتالي تخليده في موقف ما ما هي إلا خدعة فكرية، فما يحضر بالأساس من تـفاعل وجداني حي هو بالنسبة لصانع الحالة وليس للحالة نفسها. تبدو هنا فكرة الخلود خدعة. التماثيل اليونانية باقية إلى اليوم لما يزيد عن ألفي سنة وكذلك التماثيل المصرية أو العراقية لآلاف السنين، فهل خلدت أصحابها أم خلدت صورة ما وبالتالي فكرة؟ الأهرامات المصرية دفنت في ربوع صحرائها آلاف العمال الذين شيدوها والمهندسين البارعين الذين هندسوها، وحتى الفراعنة المدفونين المحنطين فلم تخلد منهم سوى الصورة، وبما في ذلك تلك الجداريات داخل الأهرامات التي صورت كثيرا من الأحداث الهامة وذكرت أسماء شخصيات عديدة وحفظت شيئا من تاريخ مصر القديم. آلاف السنين للأهرامات لم تخلد منهم سوى الصورة والفكرة في النهاية. الصورة العامة لفكرة عن عظمة شعب مات وانتهى وتحول إلى تراب. عبقرية الحياة تلك المتحولة إلى تراب هي التي من المفترض أن نحتـفي بها ونـفكر فيها وليس مجرد الإندهاش والإحساس بالعظمة أمامها كمجرد انطباع. تلك الحيوات النهائية للآلاف الذين عاشوها خالدة أو لانهائية في حياتهم بفضل تعلقهم باللانهائية وانصراف مجمل قواهم ووعيهم ووجدانهم في العيش في الخلود بكل ما يفجره فيهم من عظمة حقيقية يعيشونها في كل لحظاتهم، وهم بذلك فعلا قد خلدوا أنفسهم في حياتهم المفعمة بفكرة الخلود والمفعمة بتلك الغبطة التي تشحن الفؤاد والذهن بطاقة رهيبة تحفزهم إلى الخلق والى تدمير المستحيل ليقولوا "تبا للمستحيل".. أذكر التمثال الشهير للحكيم المصري "أمنحتب بن حابو" من معبد الكرنك، فمصر الفرعونية كانت تحتـفي كثيرا بحكماءها مما يدل على الوقدة الفكرية الهائلة لكل حضارة ولا حضارة بلا فكر وفكرة جوهرية. أذكر التمثال الجميل للسيدة المتـقدمة في السن الموجود حاليا في متحف فلورنسا، بوجهها الارستـقراطي الهادئ الذي يحف به شعر مستعار ثـقيل يحوي عددا لا حصر له من الخصل كموضة ذلك العصر وزهرة اللوتس المقدسة عند المصريين كرمز للحياة في يدها.. تلك الآثار تقول أن الحياة النابضة النهائية تـقول وتعيش فكرة لانهائية تعبر عن المدى الكبير الذي يمكن للإنسان الحي الفاني أن يبدعه. في النهاية فالأحجار أثر يعبر عن رسالة إنسانية. الرسالة لأناس ماتوا وانتهوا واضمحلوا ترابا ولكنهم لم يموتوا بفعل ما أنجزوه من تحويل للحجارة إلى بقاء أكثر مدى وتمردا أكثر مدى على مبدأ الفساد في الكون. ما بقي هي فكرة التمرد على الموت ومعانقة الحياة الأبدية. في ذاك التمرد وتلك المعانقة يعيش الإنسان الوهيته وبالتالي خلوده الغير محسوس سوى في ذاك الاغتباط العظيم في حياته نفسها التي تبدو هنا كأنها بالفعل ومضة تجريـبـية لحياة حقيقية أكثر مدى وأكثر حياة وهي ما نسميها بالحياة الروحية الخالدة.
من قام بصناعة التماثيل والأهرامات وحدائق بابل وبابل وبوابة بابل عشتار العجيبة ذات اللون الأزرق المثير والمحير للعلماء أثبتت أن التمرد الكبير لم يكن على فكرة الموت فقط بل على المعطيات الفيزيائية، تلك البوابة مكسوة بكاملها بالمرمر الأزرق والرخام الأبيض والقرميد الملون. وكانت مزينة بـ 575 شكلا حيوانيا بارزا منها التـنين المعروف بالسيروش والثيران. وعلى جدرانها تماثيل جدارية تمثل الأسد والثور والحيوان الخرافي المسمى (مشخشو) وهو يمثل رمز الآلهة مردوك، وهو كبير الآلهة البابليين..
علومهم ومناهجهم العلمية لا نعرفها وهو ما يحيط تلك الانجازات بنوع من القدسية والغموض. إلى اليوم ليس هناك اتـفاق على كيفية بناء الأهرامات وعجائبها مما يدل على عدم إكتـناه مناهجهم العلمية وذلك لأنها مختلفة عن المناهج العلمية اليوم. اللون الأزرق لبوابة بابل والمحافظ على ذلك الأزرق السديمي الملتمع لآلاف السنين محير للعقل العلمي اليوم، وحتى بإجراء عديد التجارب تم التوصل إلى معادلة معقدة جدا لصناعة ذاك اللون من مواد غير عادية لا يمكن أن تـنـصهر إلا بعمليات جد معـقدة.. كذلك فكرة الجسد الحيواني والرأس الإنساني فهي تعبر عن فكرة عميقة في ازدواجية الكائن البشري، ولكن النظرة إلى الحيوان ليست احتـقارية بل بالعكس فهي تُجل الحيوان نظرا لكونه روح ولكنه مبهم لا يتكلم. هناك حيوانات مقـدسة مثل القطة عند الفراعنة وكذلك البقرة في مرحلة ما وانتـقـلت الفكرة إلى الهند كما الثور كان مقدسا عند البابليين والمصريين. كان هناك شغف بالوجود واستـنطاق له وروح حرة وقلقة في نفس الوقت تعيش تمردها على الفناء وتعيش مستـنطقة العالم بكل قوة واندفاع وتركيز جماعي..
إننا لا نعرفهم وحتى إن عرفنا أسماء مشاهيرهم فذاك هراء لا يعبر عن خلودهم فهي مجرد أسماء هم سموها ولكن أعمالهم، والأعمال في ذاتها لا تكتسي أهمية اعتبارية إلا بقدر ما تعبر عن تلك النبضات والمشاعر والجهد والفعل والتهافت الكبير على الخلود. يمكننا أن نتخيل مشاعرهم وقلـقهم ويمكننا أن نستـدل على أفكارهم من بعض كلماتهم. وفي النهاية ما خلدوه فكرتهم التي تجاوزوا بها أنفسهم وحياتهم الساكنة العادية لأجل إظهارها وتجسيدها. تلك الفكرة التي كانت تلم بشغاف قلوبهم وتـتملك عقولهم. تلك الفكرة التي أحرقـتهم و حولتهم إلى شعلات متوقدة، فإلى سناءات شمسية أرجعتهم إلى مكونهم الشمسي. تلك الفكرة التي هي هم في النهاية هي حقيقتهم فما خلد إلا حقيقتهم الجوهرية. حقيقتهم التي عاشوها بمجمل حركتهم الوجودية الصاخبة في الوجود. وبالتالي فالارتـفاع والتعالي العقلي والنفسي ومجاهدة النفس في ذاك التعالي الذي يستوجب التمرد على النمط العادي للحياة، وهذا النمط العادي الذي هو ليس من صنعنا حتى وان بدا من صنعنا. التمرد على الاعتيادية والسهولة وتـقليد الآخرين في سمفونية جنائزية تمحو الذات المتـفردة بمحو ما يحقـقها فعليا بحرية، والإرتكان إلى حياة البطن والمظاهر. ذاك التمرد لأجل البحث عن الفرادة الذاتية، والبحث عن شغف الذات والإرتـفاع نحو إرادة تحقيقها بكل غبطة ذاتية فردوسية الرائحة والإحساس بتحوله إلى فكرة كونية شاملة فيما يعيش وفيما يفكر، والعمل بها ووفقها وفي اتجاهها. ذاك هو الخلود الذي يمكننا عيشه في فنائنا. خلودنا نحقـقه في حياتـنا إذن. نعيمنا وجحيمنا الأبديـين نحقـقهما في نهائيتـنا الامتـناهية. ملكوت السماء في الأرض ومنها...
قالت وأصابع يدها تداعب خدها الأسيل:
ـ يعني، الجنة والنار هنا.
قال:
ـ هذا ما يمكننا أن نحدده بوضوح في حياتنا، وبالتالي ما يمكن أن نبني به عالمنا. أما فيما لا ندركه فلا بأس أن نؤمن به، فما هو واضح للعقل المدرك هو استعار الجحيم في الأمعاء والوجدان والعقل المتـلظي بنيرانه، وجنتك في غبطتك ومرحك الوجداني والعقلي. فما ينطبع في كيانك انه ارتـقاء وتعالي وخير ويبعث فيك إحساس الغبطة، فتلك هي الجنة في قلبك، أما الحقارة والسفالة والشر الذي تتحسسه كنار توقـد وجدانـك فهي الجحيم المستعر. لربما تـنـطبع تلك المشاعر في لوح الأبدية الموضوعية. لكن ما هو مؤكد لدينا الآن، هو هذه الوجدانات في قلوبنا. هذه الوجدانات التي من المفتـرض للإنسان العاقـل أن يقف عندها ويعيشها بملء إرادته. من المفتـرض أن لا يمر عليها مرور الكرام. من المفترض أن لا يهملها ويعتبرها مجرد مشاعر وأحاسيس تمضي. إنها لا تمضي بل تتحول إلى أمراض بدنية ونفـسية في الحالة الجحيمية وبالتالي هي علامة الفناء، وهي تتحول إلى صحة نفسية وبدنية في الحالة الفردوسية المشاعرية فتكون علامة للسعادة والخلود. فوجودنا هو إشارات وفق "ابن عربي" بالنسبة للأبدية. نقف هنا عند المعاني العميقة لقول الرسول محمد أن " العقل السليم في الجسم السليم"، بما انه تعني أن الجسم السليم في العقل السليم كذلك، وان تلك السلامة هي غاية الوجود الإنساني وبالتالي هي غاية الدين وغاية الإسلام في الدنيا والآخرة باعتبار التواصل بين العالمين في إثراء الحياة الإنسانية الغنية والامكتشفة بعد في مدى تدفقاتها الممكنة.
قالت وسبابتها تداعب أرنبة انفها:
ـ من هنا نفهم قول النبي " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا".. يعني عش بالمشاعر وللمشاعر. يعني عش نفسك. يعني لا تعش لتـقلد الآخرين، وبالتالي تحسد الآخرين وتـقلدهم في نفس الوقت.. بالعربي عش بما كتبه لك الله..
ضحك وقال:
ـ ايه والله صحيح. بكل بساطة. كلمات ومفاهيم متداولة جدا في ثـقافـتـنا ولكن لا نـفكر فيها بجدية وكأن التـفكير الفلسفي عندنا يعني القطيعة مع هذه الثـقافة ومع روح شعبها أو شعوبها.. ليس من الصعب تقبل فكرة أن نفسك في النهاية هي ما كتبه لك الله. ليست هذه هي المشكلة التي يثور عند حوافها بعض المتحذلقين في الفكر المتفلسف.. لنقـفـز مباشرة، فنقول إذن، أن تعيش نفسك يعني أن تعيش الله الذي في داخلك بما أن كلمته المعبر عنها بـ"ما كتبه لك الله" هي أعمق أعماقك، وبالتالي قدرك هو أن تعيش فكرتك التي تعيش بواسطتها الله بما أن الله قد كتبها لك. صحيح أن الله وكتابته مختلفان ولكن كذلك مترابطان، وبالتالي فأن تعيش الله هو أن تعيش ما كتبه لك الله.. بهذا المنطق من زاوية ميتافيزيقية فالله هو الذي يعيش بواسطة آناته النهائية في ذاتها واللانهائية بما هي الله في نفس الوقت. الخلود إذن في الحياة النهائية وفق الإرتـفاع والالتـقاء مع الله أو قدرك المحفور والاندفاع في عيش ذاك القدر.. أما الهرب من نداء الذات العميق الهامس بتحويله إلى مقولة القدر فذاك قمة النفاق والتـزيـيف للقدر نفسه. القدر لا يقدر إلا الإرتـفاع نحو الإرتـقاء الذاتي.. لا تـقل لي أن الحياة المحطمة والمهدمة هي قدر من الله فتلك سفالة قادت إليها أعمال سافلة جماعية أو فردية. ما من نكبات إذن إلا نتيجة خدر جماعي أو فردي..
قالت وهي تترشف قهوتها:
ـ لكن عادة ما يقولون عش ما كتبه لك الله، ليس بمعنى التمرد على الموجود والتمرد على الحياة الرتيبة والتمرد على التـقاليد المعيقة للحياة اليوم مثل حفلات الزواج ومصاريفها التي تصرف الشباب عن الزواج، ومحاولة عيش ما تريده بالفعل في أعماقك لتعيشه إن تمكنت فعلا من معرفة نفسك حق المعرفة وهو ليس بالأمر الهين كذلك.. يقولون "عش بما كتبه لك الله"، لتبرير الرضاء بالموجود، أي عكس ما قلته بالتمام..
ـ بالضبط. لأجل ذلك يتوجب علينا مسائلة ثـقافـتـنا الغنية من جديد بروح فلسفية وعلمية وإبداعية. التركيز على مفاهيم الحركة وليس السكون. فالحركة هي قانون الحياة و الموت هو السكون..
ابتسمت لشاب وفتاة مرا بجانب مجلسهما في مقهى التنين وهما بدورهما بادلاها الابتسامة التي كانت تحية، ثم قالت:
ـ ما رأيك إذن في القول أن من اكتـشف الانشطار النووي ومن صنع السلاح النووي، انه قد عاش نفسه ولكنه تسبب في موت الآلاف من البشر في ناكازاكي وهيروشيما.
ابتسم وقال:
ـ يا لك من قطة تجيدين القفز بمهارة وذكاء. لكن، هل من عاش شغفه في اكتـشاف الانـشطار النووي كان ينوي قـتل الآلاف أم كان يتـتبع خطى اكتـشاف مجهول بكل غبطة الباحث المكتـشف لسر من أسرار الطبـيعة؟ التـفكير بالسبـبـية وتركيب الأشياء على بعضها عنوة لا يفيد شيئا سوى في كبح الجامح عن المغامرة ولذة المغامرة. الأمور منفصلة عن بعضها تماما. العالم والمكتـشف يعيش عقليا في خضم المعادلات والتجارب العلمية وفي ذلك يعيش الوهيته، أما من يقتل فهي النفس الإجرامية المناقضة تماما للعقل. النفس الإجرامية هي بكل تحديد الرئيس الأمريكي "ترومن" ومستـشاريه وداعمي هذا القرار من البنتاغون أي وزارة الحرب العدوانية على العالم. هذه النفس الإجرامية التي تـقـتل لتعيش وتـقـتل لتظهر هي الأقوى بمحو الآخر وهذا مرض وجحيمية ستلاحقهم إلى يوم الدين.. إنها تعبير عن القصور العقلي وانعدام النظر إلى الأمور بعقلانية. وهي أمريكا بمجملها حالة إرهابية منذ تأسيسها واجتماعيا ستـتـفكك ذات يوم بحرب الكل ضد الكل لان ثـقافة العنف والمحو هي ثـقافتهم، ومثلما تولوا يولى عليكم..
تساءلت:
ـ لماذا نفترض أننا نريد ما نفترض انه خير. ربما الخير فيما نراه شرا. لماذا تقبل الأمريكان وحلفائهم ذاك التدمير الهائل؟ في نفس الوقت ألم تـنهي القنبلتان الحرب التي لم تكن تـقـتل إلا المدنيين في الغالب؟ فالقنبلة النووية مشكلتها أنها قتلت الآلاف من البشر في نحو ساعة أو ساعتين، ولكن الآلاف كانوا يموتون في فترة بضع أشهر بواسطة الطائرات الحربية والصواريخ وغيرها.. يعني أن الفاجعة هي فاجعة كمية وليس نوعية. كمية في زمن قصير ولكنها كانت بأضعافها في زمن أطول.. لا ننسى أن الحرب العالمية الثانية قتلت في مجموعها ما قدروه بنحو خمسين مليون إنسان. يعني بضع آلاف من اليابانيين في ساعة زمن لا تعتبر فاجعة كبرى استـثـنائية بل عادية جدا مقارنة بعدد القتلى في الحرب برمتها..
في نفس الوقت، اليابانيون الذين ماتوا اعتصرت أرواحهم لتكون عنصر قوة للشعب الياباني فعاشوا حريتهم واقـتدارهم وحقـقوا معجزة اقتصادية وتكنولوجية يشهد بها العالم. يعني استـثمروا شهداءهم وموتهم العارم لتحقيق نهضة شاملة. إذن من الممكن أن يكون "ترومن" قد عاش نفسه في ذاك القرار، برغم انه من الجائز أن نار الجحيم كانت تستعر في وجدانه، فالجحيمية لا تعني دائما العيش خارج ما تريده أنفسنا. ربما تـنـتج الجحيمية من تحديدنا الثابت للخير والشر.. يعني، انه لو نبني المفاهيم حول إرادة عيش أنفسنا في إرادتها الحقيقية الجوهرية باعتباره الخير دائما، فانه من المفترض أن نبني المفاهيم التي تجعلنا نتـقبل الصراع بين الخيرات المتـقابلة والمتصارعة.. يعني نستغني عن ترسانة السب واللعن وننـتـقل إلى التحاليل المنطقية والعلمية والفلسفية..
أشعل سيجارة بوجه يملؤه الحبور، وهو يقول بحماسة:
ـ اووه.. رائع.. أنت أذكى مما كنت أتصور..
انه لم يكتـشف ذكاءها فقط بل تملكه الذهول. من المفترض أنها اصغر بكثير مما يسنح بهذا العمق في التـفكير وهذا الانـفـتاح الحر على السؤال. على كل، فقد اكتشف من خلال عمله كمدرس الذكاء الخارق للجيل الجديد. الذكاء الذي يجعله لا يـبالي بثـقافـتـنا التي يتحكم فيها تـفكير الوعاظ المسجدية حتى عند العلمانيين الحداثيين فيظهر لنا هذا الجيل تافها لأننا لا نفهمه. "لنا" المقصود بها جيل التسعينات وكلمة الجيل تعني الفترة التي تشكل فيها طريقة الوعي العام والشخصية. جيل التسعينات هو جيل انتقالي من ثنائية الثقافة التـقليدية والحداثة الساذجة الاتباعية إلى العولمة، بينما هذا الجيل، جيل بدايات القرن الواحد والعشرين فهو جيل العولمة والعالمية. العولمة حتى في تمثل الثـقافة التـقـليدية والعولمة في الفضائيات والانترنت والهواتف النقالة الذكية..
قال:
ـ شعوريا يصعب علي تـقبل هذه الفكرة، ولكن منطقيا فكلامك هو ما هو مفترض أن نحدد به نسبية الخير والشر باعتبارهما مقولتان ذاتيتان، فما يمتعني ويسعدني خير وما يؤلمني ويضر بي شر. ما هو موجود هو تعميم الموقف الذاتي على الوجود، ولكنه يساهم في مغالطتـنا لأنفسنا وفي عمائنا وفي عدم نقد أنفسنا وتبين مسئوليتـنا فيما يحدث ومعرفة مواطن قصورنا وتأسيس نظرة علمية لواقعنا وتحفيز إرادة حقيقية لتجاوز هذا الواقع لتأسيس خيرنا الخاص بنا فعليا. يمكن بلوغ نوع من الموضوعية بواسطة تـفكير ديالكتيكي حي يخرجنا من ثنائية التعـظيم الوهمي لذواتـنا والتـنكيل الوهمي بها وبالتالي نخرج من الصراعات الوهمية غير الحقيقية.. في النهاية يمكن الإتـفاق على تحديد أخلاقي يقوم على قدسية الحياة وعلى تـقديس الكرامة البشرية وبالتالي فكل انتهاك إنسان لإنسان هو شر سواء كان على مستوى بضع أفراد أو آلاف البشر..
قالت:
ـ الإتـفاق البشري العام هو أن القنبلتين النوويتين على اليابان أمر مرعب، لكن بدل أن يعاقب هذا الإتـفاق أمريكا فانه جعلها الاها. تـقبلوا بكل وضاعة سيطرتها على العالم وتقبلوا خوفهم منها.
قال مبتسما، وكأنه يعبر عن ارتياحه من الخروج من مأزق الأخلاق المطلقة والأخلاق النسبية، ولكنه ربما ابتسم لهذا الموقف النقدي منها:
ـ العالم لم يخضع لأمريكا. الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية وحركات المقاومة للامبريالية وثورة "كاسترو ـ غيفارا" الأسطورية في كوبا، وآخرا العراق البابلي العباسي البعثي.. أما التحالف الامريكي الأوربي فهذا منطقي جدا فهو منظومة أوربية واحدة رغم تناقضاتها. هي منظومة ثـقافية وتاريخية وعرقية. تجمعهم عقدة الإنسان الأبيض، الإنسان الأجمل وبالتالي الأرقى والأقرب إلى الجمال الملائكي وبالتالي الأقرب إلى الله. تجمعهم هذه النرجسية. نرجسية الجمال والمدنية العريقة في التاريخ. لكن هناك تناقض أساسي عميق بين أوربا وأمريكا هو تناقض طبقي في حقيقته. أمريكا والولايات المتحدة أساسا، هي في النهاية تركيبة طبقية لأفنان بريطانيا ومن ثم معدمي أوربا. أولئك الفلاحون الذين تحرروا من الفقر والعدمية لما عرفته بريطانيا من تحرر اجتماعي نسبي بداية من القرن 13 تقريبا، مما سمح بتحرر الاقنان من الارتباط بالاقطاعيات شيئا فشيئا، وبعضهم تحول إلى مقاولين بفعل تنظيم الأعمال المنزلية التي تطورت إلى ورش ومنهم نشأت البورجوازية لأولئك القذرين المغبرين نتيجة ترحالهم الدائم لبيع منتوجاتهم.. لكن باكتـشاف أمريكا هرع آلاف الاقنان المعدمين إلى ارض الفردوس التي رأوها تحقيقا لوعد الاهي بالخلاص. تـدفـقوا على أمريكا ارض الثروات المهولة. ارض الذهب بكل نهم وجشاعة وروح إجرامية مقدسة. كانوا بمثل ما قال "طارق ابن زياد" عند غزو اسبانيا : " البحر ورائكم والعدو أمامكم". تلك الجملة التي خلقت الفردوس العربي الإسلامي على الأرض خلقت الفردوس الأوربي في أمريكا. باسم المسيح وباسم الرب وفي النهاية بنزعة قوية في الانبثاق من العدم إلى الوجود، اندفعوا بقوة غرائزية مؤدلجة دينيا. لأجل ذلك، فالروح الأمريكية هي روح العنف الدموي الشبقي الذي لا يرتوي من التدمير في مساره الأرضي وهو نفسها في روح الحرية المتمردة والمدمرة لكل ما يعيقها والمدمرة للعالم القديم فأصبح التجديد دينهم والإبداع دينهم والعمل هو العبادة الجديدة. يعني عكس مقولة "كل بدعة في النار"..
تساءلت قائلة :
ـ لم أفهم كل بدعة في النار هذه.
ـ انتهت العقلية الإسلامية إلى تحديد معيار ثنائي أساسي في تفكيرها. هذا المعيار في الحكم على العالم وليس تفسيره، بل غلق باب التفسير. أي الخروج من العالم الواقعي. هذا المعيار هو ربط كل شيء بالجنة والنار بعد الموت. يطلق هذا العقل على أي شيء جديد بأنه بدعة وكل بدعة في النار. الغريب أن هذا الحكم هو خارج القرآن تماما وهو الكتاب المفترض بأنه الأساس لهذه العقلية. هذا الكتاب بدوره أصبح مجرد اثر للحفظ المادي الملموس والحفظ دون تفسير وفهم وتـفكير فيه. ربما أصبح الوجود الواقعي الحقيقي متناقضا معه لذلك تمت إزاحته بشتى الحيل. أصبح حتى التـفكير فيه مزعجا لواقع دخل مرحلة الانحطاط. تم دفن العقل والوجود في الماضي المقدس وهو ما يسمى السلف الصالح. تواصلت هذه الثنائية إلى القرن العشرين ومن أيقض المسلمين من سباتهم هي أوربا بحضارتها الجديدة واكتشافاتها العلمية وثورتها الصناعية. لكن هذه الحضارة الإنسانية الجديدة لولا الاستعمار المباشر لما تمكنت من دق الأجراس للشرق النائم في سبات دوغمائي عميق مازالت آثاره إلى اليوم. كانت الطباعة حرام ثم الهاتف حرام والراديو أصوات الجن والشياطين إلى أن غدا العالم الإسلامي كله يعيش بالبدعة فأصبحت البدعة هي الجنة. ولكن بنية التفكير الإسلامية مازالت بشكل عام وليس بشكل مطلق تخاف الجديد وترفضه في البداية ولكن سرعان ما تقبل عليه فيما بعد، ومازالت سجينة التـقليد ومضادة للإبداع الذاتي كما أنها مازالت تتمسك بمقولة السلف الصالح ولو في القول فقط دون الواقع الحي ولكن الوعي العام مازال لم يرتـقي إلى التـفكير النقدي والى الإيمان بالذات..
قالت:
ـ الفارق الأساسي إذن هو بين عقلية مغامرة شجاعة تصنع عالمها وعقلية جبانة مرتعبة من العالم. أماتنا الجحيم في عقولنا ونحن أحياء.
ـ خلافا لكوننا لم نقرأ القرآن بعد مثلما قال المفكر التونسي "يوسف الصديق"، فإن الإيمان الإسلامي بان الله هو الاه الناس جميعا لم يتبعه الإجابة عن سؤال أساسي وهو : هل إن العالم الحديث والحضارة الحديثة والعلوم الحديثة المبهرة صناعة إنسانية بحتة خارج الإرادة والوحي الالاهي؟ فهل مات الله مثلما قال نيتشه، أم أن الإيمان بالقرآن يفترض إعادة التفكير في كون الله هو الموحي لهذه الحضارة المعاصرة وهذا التقدم الإنساني بمثل ما أوحى لنا بشكل مباشر في القرآن؟ كان هذا هو السؤال الضائع وبدلا عنه انشغل العرب بسؤال كيف نلحق بالغرب، يعني كيف نكون تابعين له وكان من المفترض السؤال المنسجم مع العمق الثقافي العربي الإسلامي وهو استـنطاق رؤيتـنا للعالم ورؤيتـنا للقرآن والإسلام ولتاريخنا برمته.. هذا هو السؤال الضروري لإبداع أنفسنا من جديد وخلق ولادة حضارية جديدة لنا وللإنسانية..
قالت وهي تضحك:
ـ يعشق المسلمون البكاء على الأطلال..
ضحك هو الآخر ثم قال:
ـ هه.. هذا مختصر الكلام. أنت فتاة مرحة، فهل أنت غير مسلمة؟
ـ آه. لم أسأل نفسي هذا السؤال. يعني من المفترض أننا مسلمون دون سؤال فهي ليست قضية مطروحة وحتى أولئك الشيوخ المضحكين بلحاهم ووجوههم المنفرة الذين هبوا علينا بعد الثورة لم يثيروا إلا الضحك. ياخي شبيهم وماذا يقولون ومن أي عالم جايين؟؟ على كل، أنا أعيش حياتي وفق ما أراه وما أحبه وما أفكر فيه وما يقنعني. صحيح أن البكاء لذيذ ولكني اكره الحزن. أكره كذلك من يحدد لي كيف أعيش. كيف ألبس. كيف أفكر. لكن لم يخطر ببالي أن أقول أني لست مسلمة.
قال وهو يمدد ظهره على مسند المقعد:
ـ يعني، لم يخطر ببالك أن تكوني تمثالا حجريا مثلما يريدون برغم أن تماثيلنا الإسلامية قد تحطمت بفعل الدفعة الأوربية وهذه البقايا من الشيوخ الإسلامية هم مجرد حطامها المتـناثر. هي تحطمت ولكن لم ترجع التماثيل إلى حالتها الإنسانية بالشكل الكافي مثل قصة ألف ليلة وليلة. كأنهم لازالوا ينظرون إلى حطام تماثيلهم الغير موجودة أصلا في الواقع. يبدو أن من قتل ساحرهم الشرير الذي أحالهم إلى تماثيل حجرية، قد أخبرهم بعدما عادوا إلى إنسانيتهم أنهم كانوا تماثيل حجرية. مازالوا يتخيلون أنفسهم كذلك، بل مازالوا يبحثون عن حطام التماثيل.. مازالوا يعانون من فقدان الذاكرة ولم يتعرفوا بعد على أنفسهم الحقيقية قبل أن يحولهم الساحر الشرير إلى تماثيل..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجارات أصفهان.. قلق وغموض وتساؤلات | المسائية


.. تركيا تحذر من خطر نشوب -نزاع دائم- وأردوغان يرفض تحميل المسؤ




.. ctإسرائيل لطهران .. لدينا القدرة على ضرب العمق الإيراني |#غر


.. المفاوضات بين حماس وإسرائيل بشأن تبادل المحتجزين أمام طريق م




.. خيبة أمل فلسطينية من الفيتو الأميركي على مشروع عضويتها | #مر