الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العقل الأنترنتي في مواجهة العقل المنطقي

حسن عجمي

2021 / 4 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تصارعت عقول عديدة عبر التاريخ منها صراع العقل المنطقي والعلمي من جهة و العقل الخرافي من جهة أخرى و ما زال هذا الصراع قائماً. لكننا نشهد اليوم صراعاً جديداً ألا و هو الصراع بين العقل المنطقي العلمي و العقل الأنترنتي الذي يعارض و يقاتل المنطق والتفكير العلمي.

مثلٌ على معارضة العقل الأنترنتي للعقل المنطقي هو التالي : إذا بحثت على الأنترنت باللغة العربية أو الإنكليزية عن العقل فسوف تجد تعريف ويكيبيديا للعقل ألا و هو "العقل هو مجموعة من القوى الإدراكية التي تتضمن الوعي ، المعرفة ، التفكير ، الحكم ، اللغة والذاكرة..". وبذلك العقل مُعرَّف من خلال القوى الإدراكية كالوعي والمعرفة والتفكير. لكن القوى الإدراكية التي من ضمنها الوعي والتفكير والمعرفة ليست سوى العقل. من هنا يُحلِّل هذا التعريف العقل من خلال العقل ما يجعل هذا التعريف الأنترنتي يقع في الدور المرفوض منطقياً. و إن بحثت عن "العقل" باللغة الإنكليزية فقط فسوف تجد على الأنترنت تعاريف أخرى تقع في الدور أيضاً كتعريف معجم "ميريام-وبستر" القائل بأنَّ "العقل عنصر أو مجموعة من العناصر التي تشعر ، تدرك ، تفكّر و تريد و تعقل..". و هذا تعريف يقع في الدور كتعريف الماء بالماء لأنَّ الإدراك والتفكير والتعقل ليست سوى حالات ومصطلحات عقلية و لذا هذا التعريف يُعرِّف العقل بالعقل. هكذا العقل الأنترنتي عقل معجمي يقاتل المنطق فيقتل إنسانية الإنسان الكامنة في المنطق ومراعاة مبادئه.

تكاد الأمثلة على معارضة المنطق لا تنتهي إن بحثت عن أيّ مصطلح أو مفهوم على الأنترنت ما يبرهن على معارضة العقل الأنترنتي لأبسط مبادىء التفكير السليم كمبدأ تجنب الوقوع في الدور. مثلٌ آخر هو تعريف الواقع حيث تقرأ على ويكيبيديا أنَّ "الواقع... يعني حالة الأشياء كما هي موجودة..و ما وجد فعلاً في مقابل الخيال والوهم..". لكن حالة الأشياء كما هي موجودة ليست سوى الواقع ما يجعل هذا التعريف يعرِّف الواقع من خلال الواقع فيقع في الدور المرفوض منطقياً. أما الموقع المعجمي "ميريام-وبستر" فيقع في المشكلة نفسها بقوله إنَّ "الواقع هو صفة أو حالة أن يكون الشيء واقعياً و هو الحدث أو الكينونة أو الحالة الواقعية ، و مجموع كل الأشياء والأحداث الواقعية..". و هذه تعاريف للواقع من خلال الواقع فتعاريف للواقع على أنه الواقع. وبذلك هي تعاريف بلا مضامين لأنها تحلِّل الماء بالماء من جراء وقوعها في الدور. أما المعرفة فمُعرَّفة على ويكيبيديا على أنها "الإدراك والوعي و فهم الحقائق". ولكن الإدراك و الوعي و الفهم ليست سوى أنواع من المعرفة وبذلك المعرفة هنا مُعرَّفة من خلال المعرفة ما يوضح وقوع هذا التعريف في الدور أيضاً.

كل هذا يرينا أنَّ العقل الأنترنتي خالٍ من مضامين لأنه يناقض المنطق كمناقضة مبدأ تجنب الوقوع في الدور. فحين يقع العقل الأنترنتي بالدور لا يُقدِّم أيّ مضمون لأنه حينها يُعرِّف الماء بالماء. من هنا ، العقل الأنترنتي هو دمقرطة الجهل و التخلّف بدلاً من أن يكون دمقرطة المعرفة بما أنه عقل يناقض المنطق فيفشل في تقديم معان ٍ مفيدة أو مضامين حقيقية. فلا إفادة في تعريف الماء بالماء تماماً كما لا مضمون حقيقي عندما نعرِّف الماء بالماء.

أما العقل المنطقي فيحلِّل المفاهيم و يفسِّر الظواهر على ضوء مراعاة مبادىء التفكير السليم فيطرح مضامين فعلية و مفيدة كتعريف العقل على أنه الدماغ أي الحالات الفسيولوجية في الدماغ كما لدى الفيلسوف ديفيد أرمسترونغ أو كتعريف العقل على أنه ميول للتصرّف كما يقول الفيلسوف غلبرت رايل أو كتحليل الواقع على أنه معلومات و تبادلها كما يؤكِّد الفيزيائي جون ويلر أو كتحليل الواقع على أنه معادلات رياضية كما لدى الفيزيائي ماكس تغمارك. فكل هذه التعاريف الفلسفية و العلمية لا تقع في الدور على نقيض من العقل الأنترنتي الذي يُروِّج لمعارضة المنطق و محاربة مبادىء التفكير الموضوعي و العلمي. لذا الصراع حتمي بين العقل المنطقي العلمي و العقل الأنترنتي. فهل سوف ينتصر العقل الأنترنتي أم العقل المنطقي؟ هذا قرارنا نحن.

من جهة أخرى ، التواصل على مواقع التواصل الاجتماعي تواصلٌ بلا سياق فلا يتضمن السياقات السلوكية والفكرية الضرورية في اللقاءات الاجتماعية والثقافية بسبب عدم الحضور الفعلي للأفراد و عدم تفاعلهم في الواقع المعاش بالإضافة إلى اختصار العبارات ضمن التواصل الافتراضي على الأنترنت أو حذف العبارات كلياً واستخدام الأيقونات ما يحتِّم اختزال السياق أو حذفه كاملاً. لكن السياق هو الذي يُحدِّد معاني العبارات. وبذلك التواصل الافتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي خالٍ من معان ٍ لأنه تواصل بلا سياق. فحين نتواصل على الأنترنت يغيب حضور السياق كغياب سياق الحضور الفعلي للأشخاص و تعابيرهم الجسدية و غياب سياق المحيط الطبيعي أو الاجتماعي المصاحب للتفاعل والتواصل الإنساني في الواقع المعاش. وبذلك يتناقص ما من الممكن أن يُستنتَج من هذه السياقات فتتناقص المعاني إن لم تغب كلياً. هكذا العقل الأنترنتي و ما يتضمن من تواصل افتراضي قاتل السياق فقاتل المعاني.

بالإضافة إلى ذلك ، وسيلة التواصل تُحدِّد مضامين الرسائل التي نتبادلها على مواقع التواصل الاجتماعي. فمثلاً ، الفيسبوك و التويتر يحدِّدان أن نختصر العبارات المتبادلة و أن نعبِّر عما قد يثير إعجاب و محبة الأصدقاء الافتراضيين لكي تنال منشوراتنا أيقونات الإعجاب والمحبة فيدلّ على النجاح. هكذا هذه الوسائل تحدِّد مضامين ما ننشر على مواقع التواصل فتسجن بذلك حريتنا في تشكيل مضامين معتقداتنا و كيفية التعبير عنها ما يحتِّم اغتيال معتقداتنا و حريتنا في آن. من هذا المنطلق أيضاً تروِّج مواقع التواصل الاجتماعي لإعادة صياغة العقائد والمعتقدات فالسلوكيات السائدة في المجتمع بدلاً من التفكير ببناء معتقدات وسلوكيات جديدة و أكثر تطوّراً و ذلك من خلال ترويج ما يطلبه القارئون أو المستمعون لكي تنال منشوراتنا الأنترنتية قبول القارىء أو المستمع و إعجابه. من هنا ، هذه المواقع تساهم بقوة في عملية انغلاق و اغلاق الفكر والتفكير واغتيال إمكانية التحرّر مما هو سائد و قتل إمكانية التطوّر.

كما يقتل العقلُ الأنترنتي العقلَ الإنساني من خلال قتله للمنطق والمعاني يغتال أيضاً المشاعر الإنسانية. فضمن العقل الأنترنتي نستخدم على مواقع التواصل الاجتماعي أيقونات معيّنة كأيقونات الإعجاب والبكاء والغضب بدلاً من استخدام عبارات ذات معان ٍ مُعبِّرة عن مشاعرنا الإنسانية الحقيقية. وبذلك نستبدل الأيقونات بالمشاعر ما يقضي على أية مشاعر مُكتسَبة و مُعبَّر عنها بلمسات و همسات لغوية إنسانوية و شخصية. هكذا يقتل العقل الأنترنتي مشاعرنا و يحوّلنا إلى سجناء الأيقونات المُحدَّدة سلفاً. و بهذا نخسر إنسانيتنا الكامنة في المشاعر. من هنا أيضاً العقل الأنترنتي قاتل الإنسان و إنسانيته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس وزراء بريطانيا يعلن عن أكبر حزمة مساعدات عسكرية لأوكران


.. متظاهرون يحتشدون أمام جامعة نيويورك دعما لاعتصام طلابي يتضام




.. الجناح العسكري لحركة حماس يواصل التصعيد ضد الأردن


.. وزير الدفاع الروسي يتوعد بضرب إمدادات الأسلحة الغربية في أوك




.. انتشال جثث 35 شهيدا من المقبرة الجماعية بمستشفى ناصر في خان