الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حسب الشيخ جعفر في (الريح تمحو والرمال تتذكر) عودة للذائذ الموسكوفية، المضمخة بالوجع العراقي

شكيب كاظم

2021 / 4 / 20
الادب والفن


هذا كتاب آخر جميل يضاف إلى الرصيد الإبداعي الثرّ للشاعر الناثر حسب الشيخ جعفر، وأكثر الشعراء، لا يحسنون البوح النثري، إلا قلة منهم، وحسب الشيخ جعفر من هذه القلة المتميزة في عالم الكتابة النثرية المحلقة.
هذا كتاب أسماه صاحبه (الريح تمحو والرمال تتذكر) ولأنَّ العنوان شاعري يمتاح من اللغة الشعرية لشاعرنا حسب، فقد أعطاه كاتبه عنواناً فرعياً مبيناً نوعه، إنَّه (سيرة) ذاتية، ويكاد يشكل امتداداً لكتابه السيري الرائع والممتع (رماد الدرويش) المطبوع في إحدى المطابع الأهلية ببغداد سنة 1986، وأرى ضرورة إعادة طبعه لأنّه –كما أرى- مفقود من أسواق الكتب لنفاده.
الكتاب هذا يتحدث عن الأشهر الثلاثة التي أمضاها الشاعر في موسكو، حين أوفد خريف عام 1989، مشاركاً في الدورة الصحفية، التي كان ينظمها اتحاد الكتاب السوفييت مرة كل سنتين، والعودة إلى الأماكن التي عاش فيها سنوات الدراسة أيام العقد الستيني، ولكن بفارق أنّه يعود إليها، وقد رحل الشباب، وهذه لينا معشوقته الدائمة وقد ذَرَّفَت أعوامُها على الثامنة والخمسين، فما بين إغماضة عين وانتباهتها يغير الله حالاً إلى حال، لكن ما زال الشاعر يعب من اللذائذ، كما يعب الخمرة والنبيذ، إنّه مشغول باقتناص اللحظة الحاضرة، فالذي ذهب من العمر، قد ذهب، والمستقبل في ضمير الغيب، فما عليك سوى لحظتك هذه، فما إنْ حطت به الطائرة في مطار موسكو حتى كان يهاتف من الفندق المحبوبة القديمة (لينا) الذي ظل اسمها عالقاً في ذهني منذ أيام قرأت كتابه (رماد الدرويش) فضلاً عن سونيا وتونيا وتمارا ونينا وكتيانا وميرا وكاتيا، لكن تبقى فُضلاهن (لينا) التي يواصل معها حياته طوال الأشهر الثلاثة التي أمضاها في موسكو موفداً.
وإذا كان (رماد الدرويش) سرداً ذاتياً لذائذياً آنياً، فإنّه في (الريح تمحو والرمال تتذكر) الذي أصدرته دار المدى للثقافة والنشر سنة 1996، قد استخدم طريقة تيار الوعي، في استذكار أيامه الماضية في العراق، وجعل هذه الاستذكارات الموحية والرائعة بين هلالين، كي يدل القارئ على نوعية الكتابة هذه، وإذا كان حديثه عن أيامه في موسكو يأتي بضمير المتكلم وبالفعل المضارع، فإنه يأتي بضمير الغائب وبالفعل الماضي، لدى استخدامه تيار الوعي، إنه مزاوجة جميلة بين الحاضر المعيش والماضي الغارب والعائش في تلافيف الذاكرة، إنه حديث عن موسكو، وحديث عن تلك القرية العراقية الغافية على أكتاف الهور. وتستطيع وأنت تقراً هذه الانتقالات، قراءة الحال العراقي ما قبل تموز عام 1958 وما بعده. كما تستطيع استقراء السطور وما بين السطور في الحياة الموسكوفية، وهي تذهب بعيداً نحو التغيير، ناقلاً أحاديث الناس ما بين معارض لما يحصل من ما سمي بالبريسترويكا والغلاسنسوت التي كان يقودها غورباتشوف فالمخازن تكاد تخلو من البضائع، وسيادة السوق السوداء، وحجب البضائع عن أبناء البلاد، وبذلها للضيوف والسياح والوافدين، مما ينذر بأشد الأخطار فداحة وقسوة وتلمس شغف النساء هناك بالبضاعة الأجنبية، حتى إنَّ الروس يغبطونه لأنّه يستطيع شراء السجائر الأمريكية والبلغارية، في حين يكون نصيبهم السجائر الروسية، وكثيراً ما طلبت منه فتاة من فتيات الحانات لفافة، لأنها لا تجد في المخازن لفافة تدخنها ((واندفعت نحوي صبية حلوة ببنطلونها الأحمر الضيق، مسرحة شعرها الأصفر الباهت إلى الوراء:
- هلا أعطيتني لفافة؟
(... ) وفي حانة القبو سألت عن السجائر أولاً، فلم أجدها، وعلمت من عاملة البار أنّهم في انتظارها منذ أسبوعين (...) وفي السوق الحرة وجدت السجائر الأجنبية مكومة كالمعتاد (...) فلا فودكا في مخازن موسكو الأخرى (...) لم يشأ سائق التكسي اصطحابي إلا بعد أنْ أغدقت عليه.)) ص15.ص16.
لا بل إنَّ غائب طعمة فرمان وقد التقاه هناك يحذره من أنَّ موسكو لم تعد آمنة في الليل، في فندقكم نفسه قبضوا على عصابة خطرة من اللصوص الأوغاد قبل شهر، يبدو أنّها مافيا جديدة، إنهم لم يتورعوا عن القتل من أجل غنيمة أو صفقة مربحة، الأفضل أنْ لا تحمل معك نقوداً. ولا تتجول وحيداً في الطرقات الليلية كما هو شأنك من قبل. حين تعود من سهراتك وفتياتك. لقد تغير الوضع تماماً. يبدو أنَّ البلد على حافة الخراب، فلا بضائع كافية في السوق.. والناس يتذمرون...
((وانفلتت من مجموعة متسكعة من الشباب فتاة في بنطلون (أمريكي) أزرق، وأسرعت لتقف عند وجهي تماماً.
- أعطني لفافة من فضلك. أشعلت لها اللفافة وهي ترمقني قائلة.
- أتريد أن أغير لك دولاراتك؟
- شكراً أنا لا أحمل شيئاً منها.
- هلا أعطيتني لفافة أخرى؟ وابتعدت مهرولة عنا... ص24.
ويظل الحصول على لفافة، الشغل الشاغل لهؤلاء الفتيات لا سيما إذا كانت أمريكية أو بلغارية، على أنْ لا تكون روسية، مما يؤكد انهيار الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي لذلك المجتمع، وذهاب اليوتوبيات الثورية، والشعارات الجوف إلى هباء، فلقد كان الوضع تجذيفاً ضد التيار، تيار الحياة، لذا سرعان ما انهار، ولو كان مبنياً على أسس صحيحة لما انهار بهذه السرعة القياسية، أيصح أنْ ينهار مثل هذا الحكم الحديدي على يد شخص واحد، ومن غير نظرية المؤامرة التي شغف بها المؤدلجون حباً؟!
حسب الشيخ جعفر في انتقالاته الزمنية، عائداً إلى حياته في تلك القرية الجنوبية، عند تفرع دجلة إلى نهري المشرح والبتيرة، والغافية عند ضفاف الهور، إنما كان يعيدني إلى سنوات عشتها في المنطقة ذاتها أو قريب منها، ناحية العزير جنوبي العمارة، يوم عينت موظفاً في مستودعها النفطي صيف عام 1965، وعشت مع أولئك الناس الطيبين نحو أربع سنوات، أنسَوْني – للطفهم وكرمهم وأخلاقهم العالية- حتى أهلي وأصدقاء طفولتي في محلة الشواكة، ولدى مقارنة هذه الانثيالات قبل تموز وبعده، لنجد الحال نفسه، لا بل كان ينحدر نحو الأسوأ، فمداهمات الشرطة قائمة على قدم وساق، والبحث عن الكتب الممنوعة ما زال متواصلاً، والفصل من المدارس آخذٌ مداه، حتى إنَّ فتانا حسب الشيخ جعفر ما اكتفى بصيغة الماضي وضمير الغائب في سرد انثيالاته تلك بل أطلق لفظة الفتى على ذاته، كما أطلقها الدكتور طه حسين وهو يسرد علينا سيرته الذاتية في كتابه (الأيام) أو كتابه الرائع (أديب) الذي يقص علينا من خلاله حياته الدراسية في القاهرة ومن ثم في باريس وحديثه عن زميله في السربون: صبري السربوني، الذي لم تنصفه الحياة ولم ينصفه النقد، على الرغم من ما قدم للثقافة العربية والمتوفى عام 1978، وكذلك زميلهما في البعثة إلى باريس جلال شعيب، الذي مرض هناك وأعيد إلى بلده مصر ليموت فيها، وهناك من الباحثين من يرى أنَّ طه حسين إذْ كتب كتابه (أديب) إنما كان يعني جلال شعيب، الذي ترك حقيبة ملأى بالأوراق والكتابات، لدى صديقته الفرنسية، لكن وإذْ رحل جلال شعيب، فلم تجد هذه الإنسانة أجدر من طه حسين بها، كونه صديقه وزميله في البعثة وابن بلده، لكن المعاصرة حجاب، تدفع إلى الغيرة والتنافس والإغباط، فيتركها من غير أنْ يراجعها وينشر بعض ما يستحق النشر، إكراما لذكرى زميله جلال شعيب، قائلاً ((وقد حفظت هذه الحقيبة بضعة عشر عاماً، لا أعرف من أمرها، إلا أنها مملوءة بالأوراق. فلما أتاح الظالمون لي شيئاً من فراغ ]يقصد طه حسين هنا يوم أقيل من عمادة كلية الآداب[ نظرت في هذه الأوراق فإذا أدب رائع حزين صريح، لا عهد للغتنا بمثله فيما يكتب أدباؤها المحدثون. وقد هممت بنشره وقدمت بين يديه هذا الكتاب، ولكن هل تسمح ظروف الحياة الأدبية المصرية بإذاعة هذه الآثار يوماً ما؟!)).
وأتساءل: هل يجوز هذا، قدمت كتاباً حمل عنواناً غائماً (أديب) ماذا لو سميته جلال شعيب ونشرت بعضاً مما امتلأت به حقيبة صديقك؟ لكنها سخائم الروح.
((وتجيء أخت الفتى خائفة شاحبة الوجه، قائلة إن أفراد الشرطة قد داهموا الصريفة، وهم يصرون على تفتيش الخزانة حيث تلوح الكتب خلف الزجاج المقفل، والمفتاح معه. فأعطاها المفتاح وهو قرير آمن، فلا شيء في الخزانة أو المنزل مما يبحث عنه المفوض والمختار. وينقلب القارب عائداً بالشرطة إلى (الطوّيل) مسرعاً مثلما جاء. ها هي أيدي الشرطة تتحرى، ولم يمض إلا عام واحد بعد الرابع عشر من تموز! )) ص173.
الشاعر حسب الشيخ جعفر، كما هو في (رماد الدرويش) يذكر الاسم الأول من أصدقائه وزملائه، ولقد تعرفت في (رماد الدرويش) على غائب طعمة فرمان وغازي العبادي وماهود أحمد وشقيقه الباحث اللغوي والنحوي الدكتور صاحب جعفر أبو جناح ومحمد صالح العولقي، الذي أصبح وزيراً لخارجية اليمن الديمقراطية الشعبية وسقطت به الطائرة يوم الثلاثاء 1/5/1973 والشاعر السوداني جيلي عبد الرحمن، فإنّي استطعت التعرف على معلمه الأديب المناضل حسين العلاق. صيف عام 1958، التقيا في حفل أقيم على الضفة العالية من نهر الكحلاء، وكان الفتى هو شاعر الحفل! وكان المعلم العلاق قادماً من بغداد، تحف به ذكرى استشهاد أخيه الثوري الشجاع حسن في انتفاضة تشرين (1952) تراجع ص81، وما أظن هذا المعلم، سوى الباحث الكاتب حسين صبيح العلاق، وما زلت أعود إلى رسالته التي نال عنها الماجستير الموسومة (الشعراء الكتاب في العراق في القرن الثالث الهجري) وقد نشرت مؤسسة الأعلمي ببيروت ودار التربية ببغداد هذه الرسالة العلمية بكتاب صدرت طبعته الأولى سنة 1979، ويقع في نحو ست مئة صفحة. فضلاً عن جلال ولعله جلال الماشطة.
الشاعر حسب الشيخ جعفر في كتابه هذا (الريح تمحو والرمال تتذكر) كان أقل بوحاً في وصف العلاقات الحميمة، ولعله عوتب على جرأته الحسية في (رماد الدرويش) أو أنَّ للسن أحكامها، فقد كتب كتابه ذاك تحت فورة الشباب المتوقد العاصف، وكتب (الريح تمحو..) تحت وطأة ثقل السنين وكهولة مبكرة، والناس في بلادي يشيخون بسرعة بسبب صعوبة الحياة وقساوتها وعصفها.
لغة الكتاب، لغة رائعة، صب فيها حسب الشيخ جعفر الكثير من شعريته وشاعريته، حتى إني كنت أقرأ وئيداً، كي أمتع ذاتي بهذا الوصف الجميل واللغة الموسيقية الشاعرية وكثيراً ما أعدت فقرات عديدة، من أجل مزيد من الإمتاع والمؤانسة، وأنا هنا أستعير عنواناً لأحد كتب جدنا أبي حيان التوحيدي. ثم إنَّ المؤلف يصف مكاناً محدداً، يكاد يكون ثابتاً، لكنه لثراء لغته واكتنازها لا يكاد يكرر أوصافه، إنه يمتح من بئر خزينه اللغوي الثر، ضافياً على نثره، وصفه، غلالات ندية من شاعريته الرائعة ((طالما هزته هذه الذكرى الدامية الفاجعة، فكتب المراثي باكياً الإمام الشهيد. ذلك الصيف أصيبت عيناه بالرمد، وتورمتا تورماً مخيفاً. وفي أول الليل، ولم يعد يدري أكان صاحياً أم هي إغفاءَة عابرة؟ في أول الليل كان مستلقياً على الفراش في فسحة من الأرض بين الأكواخ الثلاثة.. فإذا بالزرقة القدسية العجيبة تغمر، فجأة، كل شيء، وإذا به لا يرى غير هذه الزرقة مترعة الفراغ بين السماء والأرض، وعلى كرسي أخضر يرتفع بقوائمه عن الأرض، لا يمس شيئاً منها، قائماً في الهواء على كرسي أخضر أبصر بالإمام الشهيد متعمماً بعمامته الخضراء ملتفاً بعباءته السوداء، صامتاً لا يتحرك، مشيحاً بوجهه عن الأرض، نيراً، قدسياً مسربلاً بالطهر والنقاء.. وكان وجهه الساكن واضحاً بهياً، ولم تدم الرؤيا إلا برهة واختفى كل شيء.. فأزاح الفتى العصابة عن عينيه المحتقنتين فإذا به يرى الأشياء في وضوح، وقد انحسر الورم من عينيه وتلاشى دفعة واحدة، واختفى الرمد اختفاءً، ولم يصب الفتى بعدها بالرمد. ولم يزل يتذكر تلك الهيئة النورانية الطاهرة، والزرقة القدسية الباهرة العجيبة (...) ولم تكن هذه بالرؤيا (الصوفية) فيما يظن، بل هي رحمة خصه بها الإمام الشهيد المظلوم...)). ص126.ص127.
ولقد رأيت لغته أكثر روعة وهو في تيار وعيه مستذكراً حياته في العراق، من لغته وهو يحدثنا عن حياته الموسكوفية، ترى أللجذور العراقية التي رضع من لبانها أثر في ذلك أيعود ذلك لحبه للعراق، فتتألق لغته - من حيث لا يدري أو يتقصد- حين يتحدث عنه؟! إنّي من خلال استقرائي وإدامة نظري في نصوص الكتاب وجدت هذه الظاهرة، ولعل من يقرأ الكتاب يجد مصداق قولي.
على الصفحة 165/ قرأت نصاً، أعادني إلى سيناريو فيلم (الرز المرّ) المنتج عام 1949 وقامت ببطولته جميلة جميلات ايطالية (سيلفانا منكانا) إلى جانب فيتوريوكاسمان ورالف فالوني، ونشرته وزارة الثقافة السورية/ المؤسسة العامة للسينما - دمشق 2004 بكتاب أمتعتني قراءته، بعد أنْ شاهدته فيلماً بالسينما (.. وفي مهب الرياح الصيفية بتمايل الفروع الواهي بأوراقه العريضة في فسحة من الأرض الخلاء، وتحوم الحدأ عالياً وتنعق الأغربة.. وتخور الأبقار وهي تطرد ويصاح بها عن حواشي الحقول المائجة بالرز الأخضر اليافع. ومع انحدار الشمس تخف حدة الحر وتطول الظلال... )).
المؤلف يستعمل صيغة (أفعلة) بدل (فعلان) جمعاً للغراب وللبساط والحصير، فيأتي بالجمع منها: أغربة وأبسطة وأحصرة، وهي جموع صحيحة لغوياً لكنها قليلة الاستعمال، أو غير مستعملة، فالسائد استعمال الجمع على صيغة (فعلان). غربان. حصران، و(فُعل) بُسُط لبساط.
كما أنَّه يستعمل طيلة، والطيلة تعني العمر، ومنها قولهم: أطال الله طيلته، أي عمره. كما أنَّ الصفة تتبع الموصوف في عشر حالات منها: الإفراد والتثنية والجمع، فلا يصح قولنا: الرايات الخضراء، لأنَّ الخضراء صفة للمفرد، الراية الخضراء، والصحيح قولنا: الرايات الخضر، لمطابقة الصفة للموصوف جمعاً ففي القرآن الكريم: جدد بيض وغرابيب سود. أي: جبال بيض الصخر وغربان أو أغربة سود على لغة حسب الشيخ جعفر!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با