الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (8)

احمد جمعة
روائي

(A.juma)

2021 / 4 / 24
الادب والفن


مرت من أمامها سنوات العمر العشرون كأنها سراج يتضاءل زيته فيتلاشى منه الضوء تدريجياً ولا حضن للسماء ولا فوهة للبحر تنفذ منهما لتبقى على السطح، خدر ينزلق عليها بحمم من الأفكار السوداوية يجفل بها الخيال الواسع وهو يستعطفها على الغرق في مزيد من المتاهة، كان الشعور الطاغي هو الخوف والشكوك يملآن الكون من حولها ولا أثر للأصدقاء والرفاق والعشاق، ولا صوت للغناء والسمر ولا رائحة لطعم فناجين شاي "السنقين" الذي كانت تدور أكوابه محيط الدوار في المساءات الباردة والممطرة التي تشكل فيها حلمها بالتغيير، هل كانت الثورة لعبة أطفال؟
تساءلت مرات عدة وهي ترنو بحسها الرقيق نحو الأفق بحثاً عن حبلٍ تمسك به وتخرج من البئر المعتم الذي انزلقت إليه، أمسكت بالهاتف مرات عدة ولوحت لنفسها بالرقم الذي يوصلها ويعيد تعبيد الطريق أمام الحب المنتهي الصلاحية، فتعجز عن مجرد الولوج لفكرة الاتصال فتعود قانطة وتندس في الفراش الذي لم تستبدله منذ هوت في فوهة الوحدة والتحمت بالحزن الذي آنسته مع الوقت وهو يمر ويعمق فجوة الليل ويثقب النهار بأنين المشاعر المتحجرة من هول الفاجعة.
تذكرت البحر والقرية والأولاد يلهون بالطين وهي طفلة بعمر الخامسة، تنبش اليابسة إثر الجزر وانبثاق السطح وخروج السرطانات الصغيرة الرمادية تتدفق منزلقة نحو الأرض فترتجف من الخوف وتهرع في حضن والدها الذي يجمع الأعشاب البحرية، ثم تفلت منه وتصعد السيارة الجاثمة على حافة الساحل محملة بأكياس الأعشاب لاستخدامها طعم داخل أقفاص صيد الأسماك، كانت رحلة مضيئة بالمرح والفرح.. يحتويها البحر في جزره ومده حين ترقص عند أطراف أمواجه الصغيرة التي تضرب الساحل، كاشفة عن ساقيها حتى لا يبتل فستانها المزهر بالورود الصغيرة، فتتلقى توبيخ والدتها التي تستقبلها باستنكار ملوحة لها بمنعها من مرافقة والدها مرة أخرى لأنها لا تعتني بنظافتها حيث تفوح منها رائحة الأعشاب المائية وينفذ من سطح بشرتها ملح البحر، تتذكر في هذه اللحظة الآنية كل تلك الصور القديمة والأحلام الأشبه بالأصداف، لا وجل ولا نذر ولا شكوك، كانت أيام مزهرة بالمرح وهي صغيرة تسبح في فلك من البراءة بقلب أبيض يخفق في وحل الطين ومستنقعات الأمطار والجري وراء السرطانات والهروب منها، يمر الصيف بمذاق ملح البحر ويمر الشتاء بوحله ولا تشعر إلا بوهن يسدلها بأي مكان من الدار فتغط بنوم عميق في خدر لذيذ فتهاجمها الأحلام منذ بداية الليل وحتى تفتح عينيها عند بزوغ الفجر، كانت أحلام صغيرة متناهية ليست كالحلم بالثورات المنكوبة.
تجرعت المساء التالي بتغيير طفيف في المزاج، أفاقت من لظى الحسرة وفتحت اللبتوب وأنزلت عدداً من أغنيات فيروز عبر الانترنيت، قضت وقتاً تبحث، وتستمع وتحفظ حتى بلغ الوقت الذي قضته أكثر من ثلاث ساعات بلا كآبة لأول مرة منذ حبست نفسها بالغرفة، فكان ذلك شعوراً مغايراً اجتاحها وهي تسمع فيروز، فأوعزت إلى مشاعرها بالتحرر من جلجلة أغنيات الانتفاضة، فبدأت تدريجياً تنسل من فجوة فوهة البئر الذي كانت تسكنه لأيام وليالٍ.. لكنها لم تنزلق ولا قيد أنملة نحو رقم الحب.


****


جلس سعد بن ناصر في ردهة المستشفى الخاص الذي تم نقل بوعلي الهوى إليه، وحوله اجتمع عدد من الرجال بينهم يعقوب وحمد، تطلع الرجال نحو سعد بن ناصر الذي بدا يمسك بأنفاس الجميع وهو ينظر إلى كل واحد منهم بنظرة صارمة تحملهم على السكون والارتياب مما سينطق به بين فينة وأخرى، كانت الحركة في المكان هادئة والسكون يخيم على ردهات المستشفى باستثناء همهمة بعض الممرضين والممرضات وبعض الزوار يمرون من وقت وآخر، تصاعدت حدة الروائح وزكمت أنفاس سعد بن ناصر الذي لم يعتد الجلوس في ردهات المستشفيات أو الانتظار في الردهات باستثناء هذه المرة التي التحق مع أتباعه بالرجل المريض الغامض وهو يشكو من عدم النطق الذي لحق به منذ عودته من غيابه المبهم، لم يسأل يعقوب أو حمد سعد بن ناصر عن مصدر اختفاء خالهما رغم شكوكهما بان ثمة يداً لرجل المال المعروف في ذلك ولكنهما بذات الوقت لم يشكا بأنه من ألحق به الأذى خلال مدة الغياب، وأرجعا الأمر إلى حالة الخال المفعمة بالهوس الجني، ولقد سبق له خلال سنوات عمره الطويلة أن تخفى عامداً جرياً وراء حدس بوجود قوى خارقة غيبية تعمل من ورائه واجبه أن يلاحقها ليصد ضررها عنى الآخرين، أو يقوم بحرف اتجاهها من الشر إلى الخير، ولشدة خنوعه لهذه القوى فقد ساورهما الشك بوجود هذه القوى وسبق لهما مع سكان الحي من الجيران أن سعوا إليه في العديد من المحن التي مروا بها لصد الشر وامتصاص قوته المدمرة التي تتحين الفرص للضرر بالآخرين، شكل الخال خلال غيابه لغزاً محيراً في الحي عندما طال غيابه هذه المرة عن المعتاد وشعر الجميع بظل خطر يحدق بالرجل الذي طالما راوغ الأخطار طوال عمره المديد، إلا أن الحالة الطارئة التي مرت بها البلد خلال فترة الاضطرابات الدامية قد تكون وراء اختفائه، رغم علم جميع سكان الحي والأحياء المجاورة ببعد الرجل عن التورط في الأحداث، لا فكراً ولا عملاً، فقد ظل حياته ملاحقاً الجن والبحر، إذ عاش في بهو البحر وانغمس في عالم الجن وجرى وراء الصيد والسفن ينسل من بين كل مباهج الحياة وانشغالات الدنيا إلى البحر، مختالاً بين مقاهي المحرق الشعبية، مندساً في زوايا الأحياء، متسللاً في ثنايا الأزقة الضيقة بحثاً عن سرٍ لم يتوصل أحد من أهله أو أصدقائه إلى ماهيته، كأنه يطارد شبحاً مدى الزمن.
ظل سعد بن ناصر هادئاً يكتنفه غموض شائك بالألغاز في دوره بالأحداث، لقد شاهدوا معجزات ترفل في زهو انتصارات شعبية وسياسية له يد فيها ولم يعلموا ماذا فعل؟ أو كيف أدار الوقائع المتلاحقة في الفترة الأخيرة من الاضطرابات؟ مستلهمين تفسيرهم الوحيد بكونه صاحب سلطة ونفوذ ويملك المليارات كما كانوا يشيعون، وقف يعقوب عند ناصية الردهة من المستشفى محدقاً بضراوة وتأمل، سارحاً بأفكار تبحر شمالاً ويميناً في شخصية الرجل الكهل النحيف الجالس على مقعد فولاذي بمقدمة الباحة المؤدية لغرفة التشخيص الرئيسية فيما يستند عدد من الرجال المرافقين له على جدار الممر ويجلس حمد على عتبة عند مدخل البهو، ظلت نظرات يعقوب ساهمة بذهول في الرجل النحيف المتهالك على الكرسي وقد بدا كما لو سينهار من فوقه في أي لحظة، فجأة راعه منظر الرجل العجوز، فطرد الأفكار الخيالية من ذهنه وتقدم بهدوء يحدوه خوف من أن يوقظ الرجل من نعاس بدا عليه..
- سعيك لن ننساه يا طويل العمر، لا نريد أن نثقل عليك بالمكوث هنا، لقد تكفل الجميع بكل شيء، لا نريد أن نثقل عليك.
رفع الرجل حاجبيه وقطب جبينه وحدق بنظرة رافلة في غضب مكبوت ينم عن تصميم على إكمال الطريق، لم ينبس بكلمة مما حدا بيعقوب على الانسحاب من أمامه ليعود ويستند على حائط الردهة.
مر الوقت بطيئاً، كان خلاله الجميع يتبادلون النظرات وسط صمت قطعه فجأة سعد بن ناصر وقد نهض من دون إنذار وسار حتى نهاية الممر ثم دلف غرفة الفحص مجتازاً علامة ممنوع الدخول، ما دفع بأحد الرجال للتعليق مبتسماً.
- لا يفهم القوانين..
فرد آخر.
- ولا ينتمي للبشر..
اقترب حمد من يعقوب وهمس له..
- الخال في أيدي أمينة..
- بعد الله سبحانه وتعالى
في الخارج كان المساء مقطباً جبينه وينقش ظله الكئيب على الوجوه الحائرة وهي تقطع الطرق والشوارع وكأنها في دورة الأفلاك السماوية، ولون قرمزي يمسح على البنايات والعمارات والبيوت الراكدة في زحمة التيه الناجم عن حالة الطوارئ، لوناً باهتاً انعكس على كل شيء من الوجوه والسيارات الرتيبة في حركتها والسريعة كالجنون لدى بعضها الآخر، كانت أصوات الراديوات تنبعث من السيارات المارة وهي تنطق بالأخبار والتعليقات السياسية وبعضها تطلق الأغنيات الوطنية، ومن نوافذ المنازل تنبعث روائح الطبخ ومن المقاهي تعبق روائح الشيشة فتطير في الهواء، كانت معالم الحياة مشبعة بالغموض والحذر والناس تهيم بلا وجهة سوى الحركة الروتينية بانتظار ما تسفر عنه الأحداث الدراماتيكية الجارية منذ سريان حظر التجول الذي لم يلتزم به أحد فيما لم تلزم السلطات الناس بعدم التجول وكأنها تريد الإيحاء بمناخ الطوارئ من دون توقف الحركة في الشارع، فالمطاعم والسوبرماركت ودور السينما والمقاهي جميعها تعمل وتعج بالرواد من مواطنين ومقيمين لكن من غير أن تبدو على الملامح ما يعبر عن مشاعرهم، البعض تنفسوا الصعداء بعد الأيام الدامية التي سادت فيها الاضطرابات وعمت الفوضى وخرجت البلاد عن السيطرة.
من شرفة البحر التي اعتاد سعد بن ناصر الاختلاء فيها بنفسه، تأمل البحر الذي كان طائشاً، ابتلع ما تبقى في كأسه وانتفض من مكانه وضرب رقم
هاتفه الجوال ثم بدأ الحديث متمهلاً في اختيار مفرداته ..
- يا أم محمد ودي أزورك والجلوس معك ومع الأولاد، لو ترحبين في كما في الأيام الخوالي.
ثم استأنف بعد لحظت صمت بدت له اختباراً لرد فعلها..
- لو ننتهي بسرعة من هذه المحنة ونستأنف زواج محمد ونكسر رتابة هذا الشعور.
أعقب ذلك بعبارة وقد تبدى له من وراء سماعة الهاتف صوت أنفاسها تتصاعد.
- لأجل الأيام الخوالي..
هدير أنفاسها يتصاعد من وراء الهاتف تجرفه الصدمة كما يجرف المحيط الأصداف، حدسه ينبئه عن دخان يستعر بقلب المرأة الصامتة ويصب حممه عليه من دون أن يرى وجهها الذي نسى ملامحه وذابت بين تخوم النسيان الأزلي، شعر برأسه يحلق في ملكوت الأفلاك التي غادرها منذ سنين بمحض إرادته، فاختلطت الفوهات المفتوحة على كل الجهات فهوت من حوله قناديل الليل السوداء تحاصره في عزلة تحتويه بلا حضن دافئ ، لا من أولاد بقربه، ولا أحفاد ينثرون كيمياء المرح في المكان، كانت الغابة المفعمة باللذة نهايتها الغربة والوحدة والأحلام المندلقة من جوف السنين الطويلة التي قضاها، لا من يعد له القهوة ولا من يحمل صينية الطعام سوى الخدم والنادلة، لا يقارعه أحد في امتصاص رحيق الحياة حتى استنزف بئر اللذة من قاعه حتى آخر دغل الثمالة، بعدها تربع على عرش الوحدة الباردة من أي إحساس بدفء الأسرة بداخل نسيج البيت الواحد كما كان في بداية تكوين حياته، قبل أن يشطرها المال والسلطة والنساء حتى أضحت الدنيا من حوله فلك من أفلاك التيه الباردة، تذكر الليالي التي كان يقضيها في داره البسيطة المطلة على ساحل البحر، ينأى بنفسه عن الدنيا ومن حوله، أم محمد أكبر أولاده الذي تبرأ منه، و خالد ولولوة وحورية، يحيطون به بعد العشاء يدخن سيجاره الرخيص ويثمل على صوت صالح عبد الحي و"ليه يا بنفسج بتبهج وأنت زهر حزين" حتى يأوي الأولاد إلى أسرتهم فيختلي بأم محمد ويروي لها أحلامه وطموحاته في الثراء ويعدد لها المشاريع مستعيناً بالخيال يحصي من خلاله محاولاته في ركوب الأمواج العاتية والمجيء بالمعجزات، كان يروي قصصاً عن الفرص المتاحة للعمل ومدى سعة الساحة لكل من يطرق باب المال والأعمال، كان مأخوذاً بالأفكار الجديدة المنتشرة عن المقاولات وأعمال البناء وسهولة جلب العمالة المدربة وتوظيفها في السوق، كانت الأجواء بينه وبين المرأة التي رافقته رحلة الطريق قد بدأت تتيح له لانطلاق حتى بدأت الثمرة بالسقوط وبدأ من يومها الطيران بجناحين يركل بهما الهواء ويحلق في الفلاة حتى بدأ يبتعد عن البحر والساحل والمقاهي ومخالطة سكان الحي والاستماع لقصص الجيران السمجة التي شبع من اجترارهم لها.
لأجل الأجواء والأيام الخوالي، عليه الآن أن يعشق البحر كما كان، وعليه أن يدفئ بحضن الأولاد والأحفاد وأن يفتح باب قلبه لعودة أولاده وأن يعيد لأم محمد كنيتها الأولى، عليه أن يعيد بناء الجسور فلم يتبق في العمر سوى ومضات كأنها حبات الكرز وهي تبدأ حمراء قانية وتضمحل متحولة للسواد قبل أن تذوي وتفقد بهاءها ولا يتبقى منها سوى النواة لتتحول للتراب، رأى كل هذا الوميض في عيني بوعلي الهوى وهو على فراش المرض ورأى في عينيه البحر والزمن الجميل والبريق الذي لم تطفئه السنون لأنه عاش في قلب الأسرة وهو الذي لم يملك الأسرة ولم يتزوج لأنه عاش البحر، ولم ينس الجيران ولا المقاهي ولم يُشغل بالملايين والنفوذ، ود لو يخر راكعاً للرجل الذي انتشله من موت بطيء، رأى فيه فرصة العودة للنبع بعدما تأمل وجهه مقروناً بالماضي الجميل الذي ولى فأيقظ فيه الموقف القلب الذي مات..
- تعال في أي وقت، لا تنس أنه بيتك.
كان بوعلي الهوى قد غير داخل الرجل ونفخ فيه حياة أخرى وأعاد له ظله الذي فقده لعقود مضت، كانت النظرات المتقدة والوجه الذي فقد تضاريس البشرة محتفظاً ببريق الحياة، رأى فيه الماضي كله بجلاله وقامة التاريخ والناس والبراءة حتى مع شقاوة الطفولة والمراهقة.
نهض من شرفته ودخل القاعة الداخلية التي كانت معتمة إلا من ضوء خافت سطع من زاوية بمحاذاة كنبة مستطيلة ذات نقوش حمراء موردة استلقت عليها لونا وكانت ترتدي قميص نوم مطرز بحاشية مثقوبة وراحت تقرأ في كتاب صغير، وحالما اقترب منها ألقت بالكتاب من يديها واعتدلت في مكانها وانتظرت منه أن يسأل أو يبدي ملاحظة غير أنه رمقها بنظرة مقتضبة مصحوبة بابتسامة صفراء ..
- أنت بخير؟
سألته مندهشة من نظرته لها.
هز رأسه ثم سار نحو الباب الذي يفصل الصالة عن غرفة كانت مفتوحة ودلف وسط دهشة المرأة التي عادت لوضعها السابق.


****


أمطرت السماء بوقت لم يكن متوقع، فالشمس كانت ساطعة والغيوم كانت جزئية متناثرة في فجوات متباعدة ودرجة الحرارة مالت للتصاعد والغبار عاد بعد أسابيع من انقشاعه ولم يفاجئ التغيير في المناخ بوعلي الهوى الذي أسند رأسه على كتف شقيقته وهو يطل على البحر من شرفة المنزل الصغير الذي خصصه له سعد بن ناصر مع أسرته الصغيرة ليقضي بقية حياته قبالة البحر الذي سكن فيه منذ ولادته، كان المنزل عبارة عن طابقين من عدة حجرات وصالتين مع شرفة بحرية واسعة وتطل على بقية الحجرات الشمالية على البحر بمنطقة البستين التي طالما توجه الهوى نحوها وقت التأمل..
- انه طالع المؤخر، فيه العمر يعكس سنواته، فكل شيء فيه يعبر للوراء وهذا المطر يعكس أواخر الشتاء،كما في البداية، وهكذا أعمارنا نحن البشر.
ابتسم سعد بن ناصر الذي كان جالساً بمحاذاته على الشرفة فيما شريفة التي كانت تسنده نهضت وخرجت، فاعتدل سعد في جلسته التي كانت متكلفة بحضور المرأة وهمس للآخر..
- تعني أن نعود أطفالاً..
- أقول لك يا بومحمد عد لمكانك الأول ولكن لا تغير مكانك الحالي أذا كنت مستريحاً فيه، وعش الحياة كما كنت تعيشها من قبل.
- حيرتني يا الهوى، أيعني ذلك أن أعود لأم محمد وأبقي على لونا؟
- حَول روحك ترفرف روح الآخرين فكل من شاركك العيش أنت مدين له، انظر إلى "أخوك" أخذتُ من الدنيا كل ما فيها، وحين أُسجى التراب سأكون ممتناً لكرمها.
انسل الشفق الأرجواني من قسمات سعد بن ناصر وارتسمت علامات التعجب على وجهه الواهن وقال باسماً.
- أنت تقول ذلك؟
فرد الهوى بابتسامة مماثلة.
- لا تعجب أخذت أكثر منك.
المساء أسدل خيوطه على الأفق الطويل الممتد من حافة المياه الضحلة نحو السماء وانعكس على لجة البحر المتناهي، كانت هناك باقة من الأشجار بزاوية من الشرفة تفوح منها رائحة ورق الشجر حينما يبتل بندى رطوبة المساء، كانت رقة المساء الكئيب بلونه الزهري الباهت يتناغم مع حالة الطوارئ التي قلبت الأوضاع رأساً على عقب، فمن بعد التوتر والخوف والانتظار بصبر قطع الأنفاس، صار الوضع مختلفاً، فشاحنات الجيش تملأ الشوارع العامة والحواجز منتشرة في الطرقات والميادين ورجال الأمن يملئون الأمكنة بكثافة لا تسمح بمرور ذبابة ورائحة الأجواء تفور بالترقب وشائعات الاعتقالات والتوقيف مع تنامي الشعور بالحذر يملأ نفوس الجميع من كلا الطرفين المحتقنين، زمر الشباب ينتشرون عبر طرقات وممرات المحرق وبقية قراها ورغم عودة الحياة شبه الطبيعية إلى الأعمال بعد الإضرابات التي شلت المؤسسات، عاد الجميع إلى أعمالهم باستثناء الذين تم توقيفهم لمشاركتهم في الأعمال الاحتجاجية، ورغم هدوء وانتشار الجيش وساعات منع التجول إلا أن الشوارع والمدن اكتظت بالسكان وكأن البلد في إجازة، فقد دأب الناس خلال هذه الفترة على البقاء خارج المنازل في كرنفال عفوي لتعويض الأيام التي حبسوا أنفسهم في منازلهم خلال الاضطرابات، كانت أخبار الوقائع القادمة من المدن تلقى صدى طيباً لدى البعض وصدى حذراً وترقباً من البعض الآخر خشية ردة الفعل، فالمشاعر محتدمة في كلا الطرفين، انعكس ذلك على حالة البلد وعلى جغرافيا المكان وظهر في شفق الكون الذي ضاق واتسع بحسب الشعور السائد لدى كل فرد من السكان بحسب الجنوح الذاتي الذي ولد من رحم الوقائع.
طفق الناس يتوالون السهر حتى منتصف الليل، فكانوا كمن يعيشون حياة مختلفة عما كانوا عليه قبل أيام وهذا ما دفع بسعد بن ناصر للخروج ليلياً والقيام بزيارات مباغته وسريعة لمعارفه وأهله وأصدقائه وكان من بين الأماكن التي دأب على التردد عليها منزل بوعلي الهوى الذي خصصه له في غضون ساعات حتى قبل أن يخرج من المستشفى وسط دهشة يعقوب وحمد، وامتناع الهوى عن قبوله غير أن سعد بن ناصر حسم الأمر بالإيعاز لمكتبه بسرعة نقل كل محتويات المنزل القديم ووضع الهوى في الأمر الواقع من حيث لم يترك له خيار، وقد لقي هذا الحدث ترحيباً من مشاعر البهجة لدى شقيقته وولديها.
كانت خطط سعد بن ناصر تبرز على السطح بسرعة الضوء، فما يكاد يؤشر بحركة من يديه المرتجفتين حتى يسارع فريقه لتنفيذ الأمر خشية ردة فعلة غير المتوقعة والتي قد تصل للطرد من العمل لأدنى خطأ أو تباطؤ في التنفيذ.
- هل صحيح ما يحكى عن الخوارق التي تقوم بها، عن نفسي لا أصدقها.
جرى الحديث بين الرجلين في عزلة وهدوء ينساب مع ضوء المصابيح المنعكسة على البحر.
رد الهوى مقهقهاً..
- الناس صدقت..
- هل فعلاً بلعك الحوت وخرجت منه؟
- حصل.
- لا .. لا أصدق، وإن صدقت فلا عقل لي.
سرح بوعلي الهوى برهة ثم أستأنف متسائلاً..
- هل سافرت إلى أمريكا وقت المحنة حين احتلوا المرفأ المالي وخاطبت الرئيس الأمريكي ثم عدت بنفس اليوم؟
ضحك الآخر وقبل أن يرد صب له فنجان قهوة وأردف قائلاً.
- نعم حصل.
- إذن الناس صدقت ما حدث.
من خارج الشرفة وصلت قهقهات الرجلين إلى مسامع يعقوب وشريفة اللذين كانا ينتظران أي إشارة من بوعلي الهوى الذي أمرهما بالبقاء إلى جانبه عندما يزوره سعد بن ناصر، باستثناء حمد الذي خرج مستعجلاً بعد تلقيه مكالمة خاطفة.
- سبق وقلت هذه الدنيا خداعة ولا يجب أن تخدعنا.
ردت شريفة مستفسرة..
- طوال عمري ما فهمت الدنيا ولا أطمح لأفهمها.
- أفضل لك حتى لا تتعذبي.
حين سمعا الرجلين يودعان بعضهما عند مدخل الشرفة، هرولت شريفة نحو الداخل فيما نهض يعقوب متحيناً اللحظة التي يخرج فيها سعد بن ناصر ليرافقه إلى السيارة التي تنتظره خارج المنزل.
عند مدخل باب السيارة وقف كل من السائق ويعقوب ينتظران الرجل يدخل وقد وضع قدماً في السيارة وقدماً على الأرض والتفت إلى يعقوب قائلاً..
- عندكم كنز بالدار فحافظوا عليه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا