الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


درس (1) من دروس شباب باب العامود؛ من الدندرة إلى الجكارة؛ باعتبارها ترميز للفعل النضالي

بلال عوض سلامة
محاضر وباحث اجتماعي

(Bilal Awad Salameh)

2021 / 4 / 26
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


لكل مرحلة مفرداتها، ولكل حالة ثورية ترميزها ونظريتها، ولولاها، سيبقى الفعل بوابة الوعي المتجسد في السلوك ومؤشر عليه وموجه له دون عقيدة أو رؤية، فهذه المفردات تعمل على شحن العاطفة كما الفعل، وتعمل على توجيهه وشده الدائم لدائرة الفعل والمعنى الذي يراد منه، في حال غياب ثقافة وطنية ونظرية نضالية، ومواجهة شاملة.
لم يكن النضال بالفعل الثوري الخشن فقط ، فقد يتحايل المضطهد والمستعمَّر بكلمات مواربة أو متحايلة تتسع للسخرية والتحدي في مواجهة من يشكل السلطة والقوة والقمع والهيمنة في الواقع المعاش اليومي الذي يختبره، فإطلاق النكات والتنكيل المعنوي والسخرية من الاحتلال الاسرائيلي قد يندرج ضمن هذه الفئة، فإذا لم تستدعي المواجهة الفعل الخشن وفرض الحضور والهيمنة على الحيز الجغرافي الفلسطيني، يكون بعض من هذه الكلمات "دندرة وجكارة وخاوة وفزعة" -الممتلئة بالمعاني والسلوك- كحالة وسطى انتقالية من المقاومة بالحيلة كما يراها جميس سكوت، إلى المواجهة المباشرة عبر القوة الجسدية كما جسدها جدنا عز الدين القسام.
وهنا حتى نفهم معانيها وقيمها، لا يمكن ان تفهم ضمن سياقات تاريخية أخرى تخلع منها أي فعل نضالي وتحيله إلى الاجتماعي والمجتمعي والاستنزاف الداخلي لطاقات الفتية والشبان، والهرج والمرج، والنكاية دون وجود هدف أو غاية، لا يراد الايصال منها سوى فرض العضلات بحالة الجكارة او كثرة الهرج والخروج عن حالة الانبساط والضبط الاجتماعي المتعارف عليه، في كلمة الدندرة.
إذا، وعليه؛ فإن سياق المعنى والفعل الفلسطينيين هما اللذان ينتجان دلالات ومعاني هذه الكلمات ويحورانها لتخدم في التعبير عن غاية سلوكهم بمفهوم الفرد شوتز، فمن بلدة سلوان إلى داخل اسوار القدس العتيقة لتتمدد وترتقي كمؤشر لثقافة التمرد والفعل المقاوم والنضال والتحدي في المجتمعي المقدسي، كمنهج بحثي للفلسطينيين الذين يفهمون الثقافة ببعدها التقني والتخصصي فقط، فكيف يمكن يفهم الفلسطيني العالم والوجود السياسي والاجتماعي له، ودوره فيه إلا من خلال وعينا كأفراد وجماعات في سياق استعماري، ويؤطرة ثوريا عبر ممارسة ميدانية تقول ما يجب أن تقوله وبكلماتها التي تكثفها بثقافة شعبية فلاحية خالصة، لأن هذا الوجود في سياقنا الاستعماري وشروطه ومفردات الوصف فيه، لا معنى لها بمعزل عن وعينا بها، وهو إجابة للتساؤل الرئيسي كيف يفهم/يدرك المقدسيين على وجه الخصوص واقعهم ،ويصنعون من الكلمات "خاوة، دندرة، جكارة، فزعة" عالماً ذو معنى نضالي يكثف نظرية ثورية عبر هذه الكلمات ومن خلالها فقط.
فإذا نزعنا دندرة من سياقها الفلسطيني، فقط تعني الكثير من المعاني مثل الكلام/السلوك الزائدين عن الحد، وبدون فائدة وعقلانية، وقد تعني كثرة الهرج والمرج في الكلام والسلوك المتحلل من المنظومة، بمعنى الانفلاش وعدم الانصياع والامتثال لما هو متعارف عليه، وكذلك الجكارة، التي توشي بالالحاح والنكاية دون وجود غاية للسلوك سوى مكايدة المقصود من الفعل، فكيف تحولت الدندرة إلى فعل اشتباك يومي وشرط اجتماعي لفتية سلوان والقرى المحيط بها، لتعني الانضباط والتجهيز للاعلان عن الاشتباك/ الانقضاض مع/على دورية جنود الاستعمار الاحلالي أو سيارات المستوطنين كأداة مدنية للمخططات الاستعمارية، وكيف يتحول معنى الجكارة إلى رباط يومي مقدس بمعناه السماوي والدنيوي، وبمعناه الديني والوطني وحتى الاجتماعي للاشارة أننا هنا، وما زلنا هنا، وسنبقى هنا.
فالفعل يحدد في المعنى، وبكلماتنا أو بالأحرى بكلمات المقدسين وشباب باب الواد وباب العامود وحارات البلدة الأخريات من البلدة العتيقة والمقدسة بأفعال شبانها وفتيتهم وحضورهم الدائم لمخططات الاستعمار/ الاستدمار الصهيوني الهادف لهندستهم اجتماعيا وسياسياً واقتصادياً وثقافياً؛ هذا الحضور وهذه النظرية النضالية التي تكثفها كلمة ""الجكارة" لهي عبارة عن جملة من التصورات/المسلكيات للشبان المقدسيين دون ان تتخلى عن المعنى لهما باعتبار أن الوجود/السلوك المقدسي بشبانه ونساءه وكباره وأطفاله امتداد للفعل النضالي الدائم الشحن للعالم الذي يريدون أن يخلقوه، في تحديهم لسياسات التهويدة وعربدة المؤسسة الاستيطانية الهادفة للمحو للفلسطيني، وانتاجهم على أقل تقدير كأجساد طيعة، التي يبرهن عليها دايماً المقدسي بأن أجسادنا لنا ووعينا ووجودنا ونحن نصيغه على مزاجنا وبالصورة التي نريدها.
إن السخرية والنكاية "والتمكلز بالفلسطيني" على القوات العسكرية الاحتلالية وبوجهه وليس من خلفه أو بعيداً عن أنظاره، هي منطقة وسطى ما بعد التحايل لجميس سكوت لأنها ليست خطاباً خفياً وانما ظاهراً ومتحدياً وعصاً؛ ولانها لا تقف عندها فقط، ولان التحايل والجكارة قد تعني كدعوة للتأقلم مع الواقع وكتبرير للرضوخ للأمر كما توشي بعض من أمثالنا الشعبية، فيذهب شبان باب العامود للكشف عن المعنى النضالي والصمود والتحدي"للجكارة"، ولأنهم لا يعيشون ازدواجية في السلوك، فخطابهم وسلوكهم الخفي والظاهر واضح المعنى للاحتلال والأهم لنا، لتعلن عن خطوة متقدمة لمرحلة ما قبل الانفجار الثوري في الاشتباك والمواجهة مع الجنود، وقد فُهم الدرس والارادة المقدسيين من قبل الاجهزة العسكرية والشرطية والاستخباراتية منذ معركة البوابات الالكترونية في تموز عام 2017، وهي تدرك تماماً -تلك الأجهزة- إذا ذهبت ممارساتهم إلى أبعد من ذلك، فإن المواجهة الحتمية والشاملة قادمة لا محالة، والتي بدأت تتوسع به ومن خلال الاحتجاجات الفلسطينية من قرى ومدن ومخيمات غزة حتى الضفة الغربية، لتقترب إلى هبة جديدة أخرى.
للسخرية أهمية في النضال كما يقول غسان كنفاني في هذه السياق كما هي الجكارة كحالة نضالية، كتنكيل معنوي بالمحتل وتوعية مجتمعية في صور أخرى، فتنبع أهمية كنفاني لا في كونه أديباً أو مثقفاً ومناضل فقط، وإنما في كونه مثقفاً شعبياً قادم من الجموع المناضلة والفقيرة اللذان ينتمي لهم، وكان لديه قدرة عالية على اشتقاق الثورة من كلمات وأفواه الفقراء واللاجئين والفلاحين، ولا يقف عندها، وإنما تأطيره للثقافة الشعبية وتنظيمها في ثقافة محرضة على المقاومة والجلد والصمود للفلسطينيين، فيقول في هذا المجال "السخرية ليست تنكيتاً ساذجاً على مظاهر الأشياء، لأن ورائها نظرية ثورية، وإلا لأضحت تهريجاً" ويضيف "الشي الوحيد الذي نعرفه كفلسطينيين جيداً هو الضحك، وهذا دليل أننا بشر".
ويعلق أيضاً على كلمة "الصنج" -بمعنى الاصابة بلفحة الهواء باللهجة الفلسطينية- فعلى المصنوج –الملفوح: المصاب باللفحة- "العودة إلى البيت وطمر جسده تحت الأغطية والامتناع عن الحياة الاجتماعية وخصوصاً السياسية، والعلاج أن يعرق المصاب حتى يسيل العرق، ويمكن أن يحدث ذلك عن طريق الخجل، أما اذا كان المصاب لا يخجل فحالته اليومية ميؤوسة"، فبنفس المعنى والدلالة والرمزية نسوق ثقافة الجكارة، والتحدي والتواجد على درجات باب البيت "العامود" الذي يمنعهم الجنود من الجلوس أمام باب منزلهم الأوسع في المدخل الرئيسي للبلدة العتيقة، فالجكارة هنا تعني تثبيت الحق والاعلان عنه، وأن المسألة لم تعد تسمح بالانصياع أو التأقلم لإعلان السيطرة على الحيز، وفي هذه الحالة "باب البيت لشباب البلدة العتيقة".
هنا، كيف يمكن أيضاً أن نفهم سلوك الطفل الفلسطيني في الفيديو الشهير الذي يمتطي حماره ويمر كفارس من أمام الخيالة من الجنود الاسرائيلية؟، فيقلب مشهد الاشتباك إلى حالة من السخرية والاستهزاء بهم، ولعله يقول في قرارة نفسه اثناء الحدث "اليوم بدي أقلبها دندرة بالمفهوم السلواني"، وربما ايضا سلوكه وفعله يندرجان ضمن ثقافة وقيمة الجكارة، في مجتمع يتنفس ويضحك ويعيش معاناة الاستعمار بنفس الوقت، فالضحك هو ما يميزنا كبشر تحت الاستعمار كما عنى كنفاني إن جاز لنا القول، وبنفس الوقت لا يوجد تبجيل أو خوف، فمقاومته لم تعد خفية، وحضوره لم يعد مرئي، لقد مر من أمام اعينهم، فالمحتل في هذه الحالة هو من يقوم بالتحايل والتورية وادعائه بأنه لم يشاهده، فمشاهدته وفهم سلوكه يعني التصرف بعدوانية معه.
وينطبق المعنى نفسه على سلوك المهرج الشقي في الشارع أمام باب العامود الذي لم يكن يختبأ بقناعه، لأن فعله وحضوره وحتى عمله الدائم بهذه المناسبة وبمناسبات أخرى في القدس كواجب مقدس في التحريض والتوعية في السياق الاستعماري، لقد كان مسنوداً بنظرية ثورية تندرج تحت مسمى الجكارة، وخلف القناع معناً في حضوره المشهد، ليعلن عن تعددية في الجكارة من رفض الانصياع إلى الاشتباك بالأيدي والرد بالايدي على عنف الجنود في توقيف واعتقال الشباب، وهو كحال الفتى الذي صمم ان يأخذ نفس أرجلية في خضم اعتقاله من منزله من قريبه، ليعلن أنني في راحة كاملة، فالمشهد بالنسبة لي ضمن سلسلة "الدندرة" وحتى وانا مساق للاعتقال، هذا الشموخ وهذه الهامة العالية تجدها في أعين وملامح الشباب المتعتقلين والمحاطين بزمرة مدججة من الجنود واسلحتهم، لينطبق عليهم أغنية "منتصب القامة أمشي"، فالشباب يخجلون ان يبقوا بمنازلهم كمن هو مصاب "بالصنج" لأن لديهم عاطفة ثورية تدفعهم للجكارة.
إن الجكارة/الصمود والنضال هي تكثيف رمزي يُحمل الواقع والسياق المقدسي بمعنى واحد، وهو الحقيقة التي تضع يدها ونفسها على ما ينبغي التصدي له والنضال في سبيله بأدوات متاحة وأخرى غير متاحة، فالترميز كما السلوك بهذه الحالة ليس لغوي شعاراتي لانهما متطابقات، وإنما ذكاء التوظيف للمساحات القابلة للنفاذ أو الاقتحام عنوة، والاعلان عن الحضور والسيادة الفلسطينية على باب العامود، بإشارة العلم الفلسطيني وبسلوك الجكارة الفعال، وليعلنوا: لن يغلق باب مدينتنا، فلعل بعضهم لم يذهب للصلاة كما دعت اليه فيروز، ولعل بعضهم قصد ذلك، وهنا تقبل الجكارة كل فعل ديني مقدس واجتماعي ووطني وأيضاً مقدس كذلك، فكما اختبرنا معركة البوابات الالكترونية والحضور الفلسطيني بمشاربهم المختلفة، ولكن ثقافتهم الموحدة هي الاعلان عن الوجود الدائم والحاسم، وبهذا المعنى يصبح التواجد على باب العامود للمرابطون والمناضلون، إلى الذين يبحثون عن نسمة هواء لا حيز يشجبها، ووصولا إلى من يرتشف فنجان قهوته للحديث او التسامر، إلى الدعاء وصلات التراويح؛ فعلا وقولاً وتجسيداً "للجكارة" بقدسيتها الوطنية والدينية.
أما الذين لم تتغلغل لديهم ثقافة الجكارة وتلامس عاطفتهم النضالية وسلوكهم اليومي، خصوصاً من المتحزبين والمحسوبين على احزاب سياسية وازنة، فلم يكن لديهم حياء أو خجل، فالتزموا بيوتهم في اليوم الرابع من سلسلة التحدي والصمود، متمني لهم العلاج من فعل "الجكارة"، حتى تبقى بمعناها النقي والنضالي وإعلان الفلسطيني عن حضوره وفرض سيادته بالمعنى الوطني الشامل لا الحزبي الخامل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Triangle of Love - To Your Left: Palestine | مثلث الحب: حكام


.. لطخوا وجوههم بالأحمر.. وقفة احتجاجية لعائلات الرهائن الإسرائ




.. الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا


.. الشرطة الأميركية تعتقل عدة متظاهرين في جامعة تكساس




.. ماهر الأحدب: عمليات التجميل لم تكن معروفة وكانت حكرا على الم