الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جاستون باشلار المعرفة والمكان

علي محمد اليوسف
كاتب وباحث في الفلسفة الغربية المعاصرة لي اكثر من 22 مؤلفا فلسفيا

(Ali M.alyousif)

2021 / 4 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تمهيد
جاستون باشلار 1884 – 1962 فيلسوف فرنسي, متوزع الاهتمامات الفلسفية, يعتبر من أبرز فلاسفة القرن العشرين في مبحث العقلانية العلمية, وكان في بداية مسيرته الفلسفية متأثرا بانشتاين منتقلا الى جانب مغاير تماما إهتمامه بنيتشة مع ما تحمله أفكاره من تشتيت فلسفي وتداعيات غير نسقية أطلق عليها قطوعات (الشذرات ).
وإهتم باشلاربالمبدأ الفلسفي التقليدي في الظاهراتية (الفينامينالوجيا) لدى هوسرل بموضوعة الوعي القصدي الذي كان مصدر إجماع فلسفي وصل الى الفلاسفة الاميركان من بعد فلاسفة اوربا. ليتوجه باشلار بعدها دراسة الفن والجمال والشعر, وعمل استاذا بجامعة السوربون الفرنسية العريقة الشهيرة, مؤلفاته أغلبها مترجمة الى العربية, حيث اصدر كتابه العقل العلمي الجديد عام 1934, وكتابه الثاني تكوين العقل العلمي1938 والعقلانية التطبيقية 1848,, وكتابه المادية العقلانية 1953 وهي المرحلة الاولى في تركيزه على فلسفة العلم قبل إنتقاله الاهتمام بفلسفة المكان والفن والشعر برومانسية. باشلار فيلسوف لا نستطيع القول عنه موسوعيا بالقياس الى غيره من فلاسفة القرن العشرين لعل أبرزهم ماركس هيجل بيرتراندراسل ولايبنتيز وهيوم وغيرهم, لكن لا يمكن غمط حقّه أنه متعدد الاهتمامات الفلسفية التي لاقت إقبالا متميزا.
باشلار لم يكن فيلسوفا يلفت الانتباه إلا في أواخر سني حياته. والمتتبع لفلسفته يجده يمزج تفكيره الفلسفي العلمي بنوع من المثالية التي تجعله شأنه شأن العديد من الفلاسفة الذين وجدوا التمركز حول الذات ربما يكون الطريق الوحيد فلسفيا لإدراك العالم ومعرفة حقائقه المعرفية العامة والعلمية المتخصصة معا.واضعا مرتكز فسفته تقوم على ثيمة اللاشعور والتداعي في تمازج الافكار بين النفس والمكان وتعبيرات خلجات النفس التي ترى بالطفولة مرتكز بناء الذات بلغة هي أقرب للادب منها للفلسفة.
الوعي القصدي وباشلار
مرتكز الوعي الذاتي القصدي رغم تشّعب وجهات النظر الفلسفية حوله نجده أصبح قاسما مشتركا بين عديد من الفلاسفة منذ أشار برينتانو اليه ليتبّناه هوسرل في الظاهراتية الفينامينالوجيا ليأخذه هيدجر عنه, ومن بعده سارتر في تحفظ منفرد خاص به, لينتقل ويصبح الوعي القصدي مبحثا خصبا لدى الفلاسفة الاميركان مثل جون سيرل, وريتشارد رورتي, وسيلارز وسانتيانا وغيرهم.
وسمات الوعي القصدي الفلسفي نعرض بعضها:
- الوعي الذاتي وسيلة إدراك الوجود والعالم الخارجي بقصدية مسبقة. حيث الوعي القصدي لا يروم تحقيق ذاتيته بالمغايرة الوجودية مع غيره, وإنما الوعي القصدي هو أولا وأخيرا من أجل فهم العالم وليس من أجل إدراكه بحيادية فقط. الوعي القصدي وعي معرفي وليس وعيا إدراكيا محايدا.
- إقصاء وعي الذات من معادلة التوسيط بين الإدراك المعرفي للعالم وبين توكيد فاعلية الذات كوجود يثبت نفسه بالمغايرة, يخلق شرخا معرفيا غائرا في تفكير العقل فهم الوجود. الوعي خلاصة تفكير العقل بمعرفة الوجود بموجوداته.
- الوعي الذاتي لا يكتفي بفهم العالم بمجردات الفكر, وإنما الذات تكون لها أهمية تجربية علمية ربما تتجاوز, المحايدة العلمية الصارمة التي ترى أسبقية المعرفة العلمية تقوم على حيادية التجربة العلمية وليس على أهواء الذات الإدراكية. فما ينتج عن التجربة العلمية ربما لا يطابق الوعي القصدي المرجو سلفا تحقيقه بألتجربة.
- ربما يكون جاستون باشلار متفردا فلسفيا إعتباره الذات المحضة في تعبير قريب من العقل المحض عند كانط, قوله " موضوع المعرفة مستقل عن التجربة, وكل معرفة محددة, أي ميتافيزيقا"". الذات دونما قصدية تسبقها وتوجهها تصل الى إدراك لا تحدّه الذات بل تحكمه نتائج التجربة.
من المرجّح أن باشلار أراد القول أن طرق الوصول الى المعرفة عديدة ومتنوعة بعديد وتنوع مواضيع المعرفة المختلفة, لذا إعتبر عدم إقصاء الذات المحضة, يحد من لا محدودية المعرفة بإعتبارها فضاءا مفتوحا يصل الى أن يكون مبحثا ميتافيزيقيا.
باشلار يجد في الباحث العلمي إستحالة وصوله مرحلة التحرر من مكبوتات اللاشعور المعيقة والآراء الذاتية المسبقة التي تجعله يصل مرحلة حيادية نقدية متحررة من كل معيقات الإنحياز للمعرفة العلمية الخالصة.
من الملاحظ في فلسفة باشلار أنه من حيث تعالق المعرفية العلمية بالوعي التجريبي نجده في تحوّله الفلسفي اللاحق حين يغادر أهمية مركزية فلسفة العقل في معرفتنا العالم, متجها نحو دراسة جمال ألمكان والشعر والفنون مغادرا الطابع النسقي العلمي العقلي الذي كانت تحكمه مواضيع مؤلفاته الاولى, الى مجالات مفتوحة لا يستطيع منهج نسقي يحتويها نظاميا مثل الكتابة الفلسفية عن الفن والجمال والشعر فهذه مباحث لا يحتويها النسق المعرفي القائم على وعي علمي معرفي..
باشلار والمعرفة العلمية
بضوء بعض الاقتباسات لباشلار نستطيع المقاربة الفلسفية منها وتوضيحها بعد تثبيتنا لبعض منها: "الواقع لا يكون ابدا ما يمكن أن يظن أنه عليه, بل هو دوما ما كان علينا نعتقده, وكل كشف لحقيقة يتم في جوهر من الندم الفكري, والفكر هو إمام يسبق المعرفة العلمية لا يكون قط حديث النشأة, بل شيئا مثقلا بالسن, لأنه يحمل من ورائه عمرا طويلا يعادل عمر أحكامه المسبقة. 2" كما طالب باشلار وجوب القيام بمراجعة نقدية على الدوام لبعض المفاهيم التقليدية الموروثة في فلسفة المعرفة, لأنه ليس هناك لا حقيقة علمية مطلقة ولا قانون علمي مطلق, معتبرا المعرفة بطبيعتها تجربة عقلية نسبية يعتريها النقص...
تعقيب توضيحي:
- باشلار في عبارته الاولى يجد الواقع معرفة تسبق الفكر الإعتقادي القصدي المسبق عنها. لكنها تكون معرفة سطحية, كون كل كشف لحقيقة تتم في جوهر من الندم مبعثه البون الشاسع العازل بين الحقيقة المعرفية وتعبير الفكرالقاصرعنها في وعي الذات لها.
والمفارقة أن يعتبر باشلار الفكر يتقدم حقيقة المعرفة التي تحمل ميراثا طويلا من عمر الافكار المسبقة التي تجعل من المعرفة متراكما متجددا كيفيا يسبق تصورات الفكرعنها.
هنا باشلار يعتبر الفكر مكافئا جوهريا يوازي التراكم المعرفي الذي يتجدد كيفيا ذاتيا ولا يقاطعه,,ويتغافل باشلار عن حقيقة المعرفة هي تراكم خبرة مكتسبة لا تمتلك قابلية التجدد المستمر وبناء نفسها ذاتيا دونما تداخل فكري معها جدليا. المعرفة لا تتجدد في تراكم نوعي مصدره الذات المعرفية المتحررة من تداخل الفكر معها..
كما أن المتراكم المعرفي لا يحمل ذاتا تعي علاقة الفكر الجدلية معها في نشدان تطورها. دائما يكون الفكر محكوما عقليا في توجهه بخلاف متراكم الخبرة المعرفية الذي يحمل القيمة الدفينة فيه, ولا يمتلك الفكر قابلية عقلنته.
- الانطلاق من حقيقة الواقع جدلية متغيرة وسيرورة متجددة غير ثابتة على الدوام, لذا تكون علاقة المعرفة بالفكر ليس علاقة تبعية ولا علاقة أسبقية بل علاقة جدلية تكاملية تفاضلية بمنطق الرياضيات, .
جدل يقوم على علاقة تخليقية جديدة للمعرفة يتطورالفكر هو أيضا نتيجة هذا التداخل الجدلي بينهما المعرفة والفكر. والكشف عن المعرفة الحقيقية حين تكون ندما فكريا متراجعا بالنسبة لتخلف مواكبة الفكر للمعرفة حسب تعبير باشلار حيث يتراجع الفكر في تفسيره الواقع العلمي الذي يغّذ السير التقدمي الحثيث نحو معرفة علمية في تخلف مواكبة الفكرلها.
- الفكر حسب تعبير باشلار قدوة أمامية للمعرفة العلمية, العلم يتقدم الفكر هو شيء طبيعي, وطبيعة عكسية أن العلم يسير بهدي الفكرالنظري القبلي لا بهدي التجربة البعدية ...
هذا الفهم في علاقة الجدل بين المعرفة العلمية والفكر نجده غائما ولا يقوم على وضوح فلسفي نسقي, حيث نجد أحيانا عند باشلار تقاطعات فلسفية تتوزّعها تعالقات الأفكار بالمعارف تخرج عن محدودية التجربة المعرفية الى فضاءات تجريدات الفكر خارج محدودية التجربة ..
- منجزات العلم والفكر علاقة من الجدل الخلاق ليس بالتأثير المتبادل فقط, بل في جدل يحقق التسارع المتقدم في فارق زمان المسار بينهما. ويبني باشلار على هذه الحقيقة , نتيجة هي أن الجهل بحقائق الاشياء لا يجعل منها كينونات من وجود فارغ خاوي, فهو حسب فلسفته يعتبر البدء من نقطة جهل نحو السعي لتحقيق معرفة, في فلسفة باشلار تكون نقطة الجهل هي معرفة بذاتها...المعرفة لا تبدأ من صفر معرفي يسبقها بل تبدأ من حيث توقفت معرفيا.
باشلار يلغي الفكر المعرفي السابق بأنه جهل خاطيء هو نقطة صفر معرفية من التقاطع المعرفي معها الذي يبدأ الشروع في التحقق من بنائات معرفية متعددة سابقة يعتمدها... ويرى باشلار مجرد إدراك الفكر الجهل بالمعرفة يجعل من الجهل نقطة إنطلاق شروع معرفية . كون العقل العلمي لا يبحث عن معرفة سبق له أن إكتسبها من قبل وأصبحت خبرة تراكمية مخزّنة. بل هو يبحث عما يجهله من معارف جديدة.
وفي تعبير باشلار"المعرفة لا تنبثق عن جهالة كما ينبثق النور من الظلام" 3 يعني ليس هناك معرفة بدرجة الصفر في تقبّلها النقد والاضافة والتجديد بلا مقدمات معرفية تسبقها موجودة فيها. باشلار يؤكد لا توجد معرفة جديدة قائمة من فراغ لا معرفي سابق عليها.
- لا يمكن لأحد نكران المعرفة هي موروثات من الخبرة التراكمية والنوعية المكتسبة لا يوقفها قطار الشد والجذب المعيق لتقدمها, المعرفة بطبيعتها هي صيرورة متقدمة الى أمام ونزوع دائمي في تحقيق معارف جديدة على أسس تشييد بنى معرفية سابقة عليها.
- وبهذا المعنى يعتبر باشلار مسار المعرفة هو مسار تاريخ تصحيح الأخطاء العلمية, وهي العبارة التي نجد قرينتها المتطابقة معها في تعبير فينجشتين أن تاريخ الفلسفة عموما هو تاريخ تصحيح أخطاء تعبيرات اللغة في ملاحقة تمام المعنى الصادق والصحيح في نقد الأخطاء وتحليلها.
وهو نفس المسار الذي دأب البحث عن معاني اللغة الجديدة التي لم يتم التعبير عنها بوضوح كاف. لذا يتوجب أن تكون المراجعة النقدية لتاريخية المعرفة هي تاريخ تصحيح أفكار معرفية خاطئة وليس تاريخ إلغاء تام لها والبداية من نقطة شروع معرفية جديدة من الصفر حيث لا يوجد بالمعرفة نقطة صفر معرفية.
- الجدل عند باشلار هو نوع من جدل يقوم على تكامل الفكر والواقع, ولا يقوم على التفسيرالجدلي المادي الماركسي القائم على التضاد. ويعتبر النقد منهجا في التفكير غير محايد, وهو إجابة عن تساؤلات يبتدعها النقد المعرفي البنّاء, ولا يجد تلك التساؤلات ناجزة ماثلة أمامه ليصطدم بالإجابة عنها. لذا تكون عملية النقد عملية إضافة معرفية متجددة على الدوام.
إتخذ باشلار موقفا فلسفيا منحازا الى المنهج الذي يرى في المسار العلمي ليس عملية مطرّدة في التقدم الى أمام, بل هو مسار متعثر تتخلله قطوعات تراجعية وأحيانا راكدة تشبه الى حد كبير القطوعات التي تعترض مسار التاريخ الانساني المليء بالصعوبات والرؤى المتناحرة المتضادة في تفسيره. ويقترب باشلار كثيرا من الفهم الماركسي إعتباره التقدم العلمي هو تراكم خبرة تتخلها طفرات نوعية تلزم تقدم المسار التاريخي بحتمية الى أمام.
انتقالات باشلار الفلسفية
في متابعة ما ذكرناه نجد باشلار متعدد المباحث الفلسفية التي ينتقل بها من التفكير العلمي الصرف الى نوع من التفكير المثالي المتقاطع مع منهجيته التفلسفية. ففي بدء إهتماماته الفكرية كان مرتكزه العقلانية العلمية القائمة على التجربة, نجده في مرحلة عمرية لاحقة يتجه نحو علم الجماليات والفن والشعر تحديدا. يدل على ذلك بوضوح مغادرته صرامة العقل ليتعمّق في مباحث علم النفس في كتابه التحليل النفسي للنار عام 1937 ثم كتابه الماء والاحلام 1941, والهواء والرؤى وجماليات المكان.
مؤلفاته المتأخرة هذه تشير لحقيقة إهتمام باشلار في المدوّنات النفسية والجمالية والفنية وفي إيلائه مبحث الشعر أهمية إستثنائية, رغم إطلاعه أن مبحث معالجة الشعر فلسفيا لها موروث سابق على إهتمامه,معتبرا المخّيلة الشعرية هي حمولة فلسفية لا يمكن حدّها قوله " نحن نعيش في عالم نائم علينا إيقاظه بواسطة الحوار مع الاخرين, وما أيقظ العالم إلا شجاعة الوجود بأن نوجد ونعمل ونبحث ونخترع ونبدع ونخلق" 4
باشلار وجمالية المكان
جمالية المكان هو عنوان أحد مؤلفات باشلار الذي يرى في بيت الطفولة خيالا رومانسيا يطلق عليه حلم اليقظة التي يستثيرها المكان البيت تحديدا. يتجاوز محدداته الهندسية كبناء مادي, ليكون المكان ذخيرة مخيّلة تسرح وتحلم بفضاء أفقي ممتد غير محدود لامتناهي العواطف والانفعالات النفسية التي تعتبر موجودية المكان ماديا هي موجودية خيالية من الهناء.
باشلار رغم محاولته المستميتة تجريده المكان من طبيعته المادية الثابتة كبناء قائم على شكل هندسي, إلا أننا نجده يعامله على أنه مصدر إستثارة عاطفية نفسية تتعالق بروحانية المكان لا في ماديته.
باشلار يعالج فهمه الفلسفي للخيال متجاوزا منظوره الذي إعتدناه أنه خيال ماض إسترجاعي مستمد من الذاكرة , وليس تجريدا معرفيا في معالجته موضوعا انطولوجيا واقعا حضوريا. الخيال في منظوره هو ملكة أو قابلية تحويل ما هو مادي الى مصدر خيالي غير محدود وبالعكس ايضا.
يعتبر باشلار الخيال وعيا ذاتيا يترجم دواخل إرتباط الوعي كمدرك قصدي لا يشترط أن يكون موجودا انطولوجيا, بل الخيال له تداعيات من اللاشعور في تجريد قائم على موضوعات تقوم هي الاخرى على إحالة الى تجريد خارج مألوفية أن يكون الخيال إدراكا حّسيا لمكان متعيّن وجودا, يحدّه الادراك الزمكاني حين يكون موضوع الخيال غير مطلق بل محدود بزمانية تحكمه بالادراك المكاني.

باشلار والشعر
باشلار يبحث الشعر في جوهره الشكلي على أنه صورة المخيلة الشعرية, ويعتمد فلسفيا المنهج الظاهراتي الذي مرتكزه اللاشعور النفسي وليس التقيّد بمنهج الفينامينالوجيا التي تجده الظاهراتية هو الوجود المدرك حسّيا أي فينومين. وما لا تدركه الحواس ومنظومة العقل الإدراكية هو النومين أو الوجود بذاته. الذي إعتبره كانط لا يمكن إدراكه عقليا ومن الأجدى الأنفع ترك الخوض في غمار بحث لا يمكن التثبّت منه بنتيجة..
باشلار يجد في اللاشعور إنتاجية المخّيلة الشعرية للصورة الشعرية التي يعبّر عنها بقوله " هي نتاج مباشر للقلب والروح والوجود الانساني, وهي مدركة في حقيقة هذا الوجود "5, يبدو واضحا باشلار يستعير المنهج الظاهراتي في إثارته إشكاليات معلقة لا يعطي هو حلا لها بل يتوخى غيره تفكيكها والإجابة عنها.
مثال ذلك تعبيره " كيف يمكن لنا أن تكون ظاهرية الصورة تسبق الفكرة, لذا علينا أن نقول الشعر هو ظاهراتية الروح أكثر من ظاهريات النفس " 6
محاولتنا قراءة مفهومية لهذا التعبير الذي يقودنا الى المنهج الظاهراتي عليه تكون ليست هناك إشكالية معيارية منطقية أن الشيء بظاهراته المدركة يسبق فكرة التعبيرعنه. من حيث ندرك الوجود بصفاته الخارجية في تجريد تعبير الفكر عنه لغويا. موجودات الوجود ما عدا الانسان لا تمتلك ماهيّات ولا جواهر تحتجب خلف صفاتها الخارجية التي يمكننا إدراكها.
تعبيرات باشلار بمقدار وضوحها الفلسفي المباشر إلا أنها توقع المتلقي في غموض إبهامي إستعصائي يصبح متناقضا إشكاليا, فمثلا حين لا يكون هناك تعبيرا واضحا بين النفس والروح بعلاقتهما في اللاشعور المستثير للمّخيلة الشعرية. فهو يعتبر الصورة الشعرية تمثل ظاهراتية الروح وليس ظاهراتية العقل. وسبب ذلك أن الصورة الشعرية تستمد حقيقتها اللاشعورية من الروح التي من الممكن أن يعتبر معنى النفس المرتبطة بالشعور وليس معنى الروح المحّلقة التي هي أقرب الى اللاشعور الخيالي المستمد من الذاكرة.
ويثير باشلار أرجحية إرتباط " الشعور الذي يعتبره هو التزام الروح والوعي المتصّلين ببعضهما, ويكون الوعي بذلك أكثر إسترخاءا وأقل قصدية من الوعي المتصّل بظاهرية العقل, وهناك قوى تتبدى في الأشعار(الشعر) لا تمّر عبر دوائر المعرفة المعلقة "7. خارج تصورات الشعرية التي يكون الوعي أكثر إرتباطا بالشعور من الإرتباط بالعقل المقفل منطقيا.
العقل يتعامل مع الشعر بصرامة المنطق الشعوري بما يلغي خاصيّة الشعر أنه فعاليّة مستمّدة من مخيّلة اللاشعور غير المحدود إدراكيا إستقباليا.
تعبير باشلار عن الروح حتى وإن بدا لنا ملتبسا في معناه أنه يرادف لفظة النفس, فهي لا تحتوي الوعي الشعوري. "وأن الشعر يكون أدخل الحرية في جسد اللغة ذاتها" 8 وهو ما لا غبار عليه أن الشعر المعاصر أدخل الحرية باللغة, التي لم تغفل الفلسفة هذه الميزة حيث هي الاخرى أدخلت الحرية في الفلسفة بما ليس له حدودا. الحرية مفهوم مطلق متحقق لمجمل نواحي الحياة وإبداعات الانسان بالفكر والمعرفة والعلم وفي كل شيء.
الحرية خارج التداول الايديلوجي السياسي وإمتدادها الى متداخلاتها مع حقوق الانسان ومحاربة التمييز العنصري وحقوق المرأة وحرية المعتقد وحرية التعبير وغيرها, وفي كل هذه المناحي المنسحبة على الادب والثقافة, جعلت حرية الشعر إنعتاقا متمّردا على كل تقييد بما يحتويه من عواطف ومشاعر وجدانية تأخذ تعبيرها اللغوي المتحرر تماما من كل القيود.
لكن حين أدخل الشعر الحرية في جسد اللغة, جعل الحرية تشتّت الوعي الجمالي في تذويتها الصورة الشعرية ضمن فضاءات إحتوائية وتموضعات غير حقيقية , وتم التعبير عن هذه الحقيقة " لا شعر دون خلق مطلق". مطلق التعبير اللغوي عامة هو الوعي القصدي الذي يحكم عبور اللغة الى ما بعد اللغة كما يرغب الشعر تحقيقه. وهذا النوع من التعبير يجعل من لاشعور الصور الشعرية ترتبط بكل فضاء مفتوح روحاني والأصّح نفسي هارب من هيمنة منطق العقل الصارمة.
يذهب باشلار التسليم أن الشعر هو تسامي روحي متفائل يعلو سايكولوجيا النفس الشقية "وذلك كون هذه الحقيقة لا يمكن إنكارها أن الشعر يمتلك الهناء الخالص مهما كان حجم المأساة التي يصورها" 9
هذا التعبير المنسوب لباشلار لا يمكننا التسليم بصحته في حال تناولنا الشعر في جميع أغراضه ألمستوحاة من الحياة, الشعر هو تحليق في خيالات عابرة الواقع المعيش في نشدانه الافضل بالحياة. وبهذه الميزة الشعر يعبر عن الفرح بالحياة والتفاؤل بنفس وأهمية تعبيره عن فواجع الحياة وأحزانها, فالشعر ليس بهجة مطلقة تقوم على أنقاض حياة مأساوية يسودها الفقر والإستلاب والقلق الوجودي والامراض وغير ذلك. ثم أن تحليق الشعر في مخّيلة اللاشعور لا يمنحه أن يكون نفحة روحية متعالية على الواقع تصل مرحلة الانعتاق الصوفي عن العالم المادي, فليس كل شاعر يكون صوفيا في تعبيره (الروحاني) الشعري.
باشلار والمكان
ربما نختصر الكثير إذا قلنا باشلار يعامل المكان بضوء سايكولوجيا النفس وليس بضوء الروح كما يعبّر هو عن ذلك والفرق بين النفس والروح لا يستهان عدم الأخذ التفريق به.. بالنسبة للمكان باشلار رغم محاولته المستميتة في تجريده المكان من حقيقته المادية الهندسية كمعمار بنائي (بيت), إلا أنه تعامل مع المكان بجمالية عاطفية تصورية يداخلها الخيال الادبي الروائي بتعبير لا يجعل المكان يخرج عن رمزيته النفسية في خلق إستثارة مشاعر وعواطف دفينة تعود الى مرحلة الطفولة, إضافة لمعاملته مرجعية هندسية المكان خزينا تجريديا بالذاكرة بضوئه تتحدد معالم حلم اليقظة اللذيذ والخيال الخصب الجامح وتداعيات النفس والشعور في تداخلهما مع اللاشعور..
وينسب لباشلار قوله " البيوت التي سكناها منذ الطفولة نعيشها مرة أخرى كحلم يقظة, تجعل من هذه البيوت تعيش معنا طيلة حياتنا, وبدون البيت يصبح الانسان مفتتا كون البيت هو جسدا وروحا " 10
لا يعتبر باشلار حقيقة الانسان الوجودية كائن قذف به في أتون الحياة بلا رغبة منه منذ الطفولة مقولة صحيحة, هي عنده كي تستقيم بمعناها يجب إعتبارها مقولة تبدأ من النهاية للانسان كوجود, التي تقر بها فلسفة باشلار في علاقة ولادة الطفل في البيت هي البداية وليس مرحلة بلوغ الانسان تساؤلاته المشروعة عن مصيره ومعنى وجوده بالحياة كائنا يدركه الموت شاء أم أبى.. فلسفة باشلار في جمالية المكان ترتكز على تأكيده علاقة الروح التي تعيش الهناءة والتفاؤل الدائم كما يحلو لها مع البيت كمرتكز لوعي ذاتي من أيام الطفولة والصبا, عندما يرجع الانسان بذاكرته لأيام الطفولة وذكرياته المختزنة عن نشأته الاولى في البيت العليّة والقبو (السرداب) وباحة الدار والحديقة وما تثيره هذه الأماكن من جياش عاطفي متسام يصل مرحلة التعالي الروحي كما يرغبه باشلار..
باشلار حين يعتبر التعبير الفلسفي الوجودي المتشائم من مصير الانسان يلغي خصائص عديدة يتجاوزها مثل ذكريات الطفولة ودفء البيت البيولوجي والنفسي التي هي البداية في معرفة الوجود. لا يناقش أحد تعبير باشلار في تمجيده الدار بسايكولوجية نفسية طفولية تصنع حياة الانسان التي يعود مرتكزها العيش فيها كحلم يقظة جميل لو لم يكن للبيت قيمته الوجدانية الحضورية لما كان توفر لنا جمالية ندعوها جمالية المكان.
يركز باشلار كثيرا على هناءة الطفل بالوجود حين يقذف به في بيت وليس في عراء أو غابة أو في شارع. ويعبّر بكل إصرار وجوب عدم أخذ النظرة الفلسفية التشاؤمية التي ترى الانسان وجودا بائسا بالحياة ويعتبر ذلك نهاية ميتافيزيقية لا يجب التوقف عندها كبداية هانئة لوجود الانسان وليس نهاية مأساوية يختمها الموت..
وأستعير بهذا المعنى عبارة مؤثرة للاديبة اللبنانية ديزي الامير قولها (أن تحكم على الانسان بالحياة أسوأ كثيرا من الحكم عليه بالحياة ). باشلار يعتبر الفلسفة التي تنطلق من لحظة "القاء الانسان في العالم " هي فلسفة ثانوية تنكر وتقفز من فوق اولويات هي بنظره أهم من هذه الفلسفة التشاؤمية الوجودية التي ترى الانسان مقذوفا بائسا ينتظره الشقاء في مصادرة كل مباهج الحياة التي يعيشها منذ الطفولة. باشلار لا يرى في ذكريات جمالية المكان غير البهجة والهناء التي لا يوفرها سوى البيت الذي يحمينا من التشرد والضياع النفسي. ولا يناقش مفاهيم فلسفية تخص الوجود والانسان كيف ولماذا وأين؟.
باشلار يصّور دفء البيت وإحتوائه الانسان وحمايته له من عالم العراء في الشتاء الى عالم حالم يرى الانسان فيه : البيت قارب من حجر تتقاذفه أمواج ورعود وعواصف وأمطار وثلوج وهو ثابت لا يتزحزح عن مكانه ولا يخذل ساكنه أنه الملاذ الذي يحميه أيضا من مزعجات الشوارع والأضواء الصاخبة وإزدحامات المحلات.
لغة باشلار لغة روائية صادرة عن نفسية أدبية حالمة حيث يصف الكوخ قائلا " يتحول الكوخ على الفور الى عزلة مركزة إذ لا يوجد كوخ مجاور, حيث تكثر التخيّلات الاسطورية والحكايات المفزعة " ويضيف أحب أن يكون بيتي شبيها بريح البحر المترجرج بالنوارس, وحين يعيد الحالم بناء العالم من شيء يحوله سحريا, عبر عنايته به, يجعلنا نتقتنع أن كل شيء بحياة الشاعر مادة للخلق " 11
ختاما يمكننا القول أن جماليات المكان في فلسفة باشلار تقوم على تصورات حلم يقظة تلعب به عواطف النفس وانفعالاتها وهواجسها أكثر مما نجد جمالية المكان حسّيا كبناء هندسي معماري قائم بذاته. وتبقى في كل الاحوال حقيقة الفلسفة في تقاطعها أن تكون تعبيرا بلغة الشعر والادب, كما تبقى متقاطعة ايضا أن تكون سردية مصدرها النفس وأحلام اليقظة عن المكان.
هوامش:
1, 2, 3, 4, عبد السلام بن عيد/ مقالة جاستون باشلار والمعرفة الضد/ موقع كوة الالكتروني نيسان 2021.
5, 6, 7, 8, 9, 10, 11, ملخص كتاب جماليات المكان جاستون باشلار/ اعداد د. نبيل سلامة / كوكل.
.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو: حماس تمارس إبادة جماعية ورفضت جميع المقترحات المتعل


.. الدكتور مصطفى البرغوثي: ما حدث في غزة كشف عورة النظام العالم




.. الزعيم كيم يشرف على مناورة تحاكي -هجوماً نووياً مضاداً-


.. إيطاليا تعتزم توظيف عمال مهاجرين من كوت ديفوار وإثيوبيا ولبن




.. مشاهد جديدة وثقتها كاميرات المراقبة للحظة وقوع زلزال تايوان