الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


االبحث عن موسى

عيسى بن ضيف الله حداد

2021 / 4 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


البحث عن موسى
" الحفريات في أسفار التوراة "
[ منهجنا المعتمد ]

" في زمننا، لا يوجد عملياً على مستوى العالم، أي عالم يعمل بجدية في هذا الموضوع، ويدعم الزعم القائل بكون الأسفار الخمسة (أي التوراة) قد كتبت من قبل موسى، وحتى من قبل كاتب واحد. لقد غدا كل كتاب من هذه الكتب موضوعاً للبحث من قبل الأخصائيين لمعرفة كم من المؤلفين قد أسهموا في كتابته. كما يجري السجال لمعرفة، إلى أي من وثائق الأصول الأولية ينتمي هذا السطر أو ذاك.."
فريدمان، من كتب التوراة، ص 27









استقدام معطيات من التاريخ
كمستهل والتزاماً مني بمنهجي، يجدر بي بين حين وحين استقدام لمعطيات من التاريخ بما له صلة تحديداً في المسألة بحدودها المعلنة..
يذكر التاريخ بأن الأبجدية السامية لم تظهر إلا في القرن الثالث عشر قبل ميلادي، بينما الكتابة في العبرية القديمة لم يتضح حضورها إلا في القرن التاسع ق م.
من المفترض وجود مأثورات انتقلت شفوياً لدى قبائل الشمال والجنوب، تكون قد شكلت أولى المنابع لما هو مفترض للوثيقة الشمالية -(الإيلوهيمية E) أو ما يحاكيها أو للوثيقة الجنوبية J (اليهوهية) أو ما يماثلها.. أو مع ما أشارت إليه النظريات الأخرى..
وفقاً لما تقدم، أننا مازلنا نتجوّل في زمن سيادة الثقافة الشفوية لدى القبائل العبرية.. بل ومن ذا الذي يزعم، من دون المؤسسة الكهنوتية، بكون موسى قد ترك أثراً مكتوباً.. ؟
من هذه الحقيقة التي لا يدانيها الشك، سنبدأ تجوّالنا عبر أسفار التوراة، لعلنا نعثر في ثناياها على إشارات تتفق أو تفترق مع هذه الواقعة التاريخية.. وغيرها..
سأحاول في سياق تجوالي ما استطعت، أن أحدد إلى أي من الوثائق التوراتية انتمى إليه هذا المؤشر أو ذاك. (أي الوثائق: اليهوهية، والإيلوهيمية، والكهنوتية والتثنية) - حتى لو كان شأن هذه الوثائق بصفتها القطعية، قد تزلزل..
إخلاصاً لمنهجي لي أن أشير هنا بكوني سألجأ إلى الاستعانة بطرفي المعادلة، المتمثل بالمعطيات المستمدة من علم التاريخ والآثار من جهة، ومن المعطيات المُنتجة من علم تشكّل التوراة من جهة ثانية..

البحث عن موسى ككاتب للتوراة
من الضرورة بمكان أن نبدأ من نقطة البداية، من موسى الذي حٌمّل رغماً عنه عبء كتابة التوراة الآيلة إلينا.
عبر هذا السلسبيل سأغوص في أعماق النصوص وطياتها وأتحاور عما تخفيه بين سطورها، بالاعتماد على معول المنهج الذي قد أشرت إليه، وعلى هدى مؤشرات ترشدنا نحو دلالات تبدو في أعماق موقعنا الأثري هذا - المتمثل بنصوص التوراة..
ميثاق عهد أم توراة: تعرض أسفار التوراة ذاتها عن مرويتين متباينين: المروية الأولى تتعلق بميثاق عهد، يظهر في مرويات سفر الخروج، بينما تفصح الثانية عن نص توراة في مرويات سفر التثنية.. سنرى لاحقاً لهذا التخصص شأناً..
السرد الروائي الأول (ميثاق عهد)، مستمد من سفر الخروج:
يحكي هذا السفر عن لوحي شهادة مكتوبين بإصبع الله " ثم أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء لوحي الشهادة لوحي حجر مكتوبين بإصبع الله " (خروج 31/18 - من الوثيقة الكهنوتية P).
في (خروج 32/15- 16) تتكرر المروية ذاتها بشكل أكثر تفصيلاً، " فأنصرف موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده. لوحان مكتوبان على جانبيهما. من هنا ومن هنا مكتوبين. واللوحان هما صنعة الله والكتابة كتابة الله منقوشة على اللوحين ".
يستمر (خروج 32/19-20) في سرده: في لحظة غضب لموسى، وعلى مرآى عودة القوم إلى عبادتهم القديمة هم وهارون شقيق موسى.. يكسر موسى اللوحين " وكان عندما اقترب من المحلّة أنه أبصر العجل والرقص. فحمي غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل " - " ثم قال الرب لموسى انحت لك لوحين من حجر مثل الأولين. فأكتب أنا على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين الذين كسرتهما، وكن مستعداً في الصباح " (في خروج 34/1-2- من الوثيقة الايلوهمية E).
" وبكّر موسى في الصباح وصعد إلى جبل سيناء كما أمره الرب. وأخذ في يده لوحي الحجر " (في خروج 34/4- من الوثيقة اليهوهية J) - في خروج 34/27 "- وقال الرب لموسى اكتب نفسك هذه الكلمات. لأنني بحسب هذه الكلمات قطعت عهداً معك ومع إسرائيل " (من الوثيقة اليهوهية J). " وكان لمّا نزل موسى من جبل سيناء ولوحا الشهادة في يد موسى عند نزوله من الجبل ". (34/29- كهنوتية)
[ الجدير بالبيان، يحدثنا هذا النص الروائي عن لجوء موسى أثناء أزمة الردة، لإنجاز مقتلة أو مذبحة عظيمة، تأتي كما لو كانت تقديم أضاحي بشرية للرب التوراتي - (في خروج 32/26- 29): وقف موسى في باب المحلة. وقال مَن للرب فإلي. فاجتمع إليه جميع أبناء لاوي. فقال لهم. هكذا قال الرب إله إسرائيل ضعوا كل واحد سيفه على فخذه ومروا وارجعوا من باب إلى باب في المحلة واقتلوا كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه وكل واحد قريبه. ففعل بنو لاوي بحسب قول موسى، ووقع من الشعب في ذالك اليوم نحو ثلثة آلاف رجل. وقال موسى إملأوا أيديكم اليوم للرب حتى كل واحد بابنه وبأخيه. فيعطيكم بركة.. هل هي أضاحي بشرية، كي ترضي الرب.. !!- على نسق ما سبق من ممارسات طقوسية لدى الديانات القديمة.. وهل هي ما زالت شائعة آنئذ.. !! ]
في سفر الخروج ( 36، 37، 38، 39، 40 - من الوثيقة الكهنوتية P)- على مدى العديد من الصفحات يتم عرض وصف تفصيلي لما لسيرة تابوت العهد من بداية صناعته إلى الاحتفال البرتوكولي بتدشينه، إلى مراحل ومحطات تنقله: صنع بصلئيل بإشراف موسى وتلبيةً لأوامر الرب، تابوت العهد.. ".
تزود هذا التابوت بوصف خيالي أسطوري، يجمع كل أصناف المواد الثمينة
التي استطاع أن يلم بها العقل البشري في ذلك العهد.. وذالك على سبيل الاحتفاء لاحتواء الميثاق أي العهد المدوّن بين الرب وشعبه المحبوب. وتقدم الرواية التوراتية وصفاً احتفالياً خاصاً بحفظ اللوحين في الصندوق المذهب الملقب بتابوت العهد.
الملاحظة الأولى في هذا السرد الروائي، تتعلق بكون مصدره قد عبر إليه من وثائق عدة: يهوهية، إيلوهيمية و كهنوتية.. أي ثلاثة مصادر مروية، وذلك في طور لم يكن لهذه الوثائق- أو ما يحاكيها في النظريات الأخرى - من حضور بعد، من حيث تعود بزمن انبثاقها إلى عصرٍ تالٍ لعصر موسى، يُجهل تحديده بدقة.. ! ؟
السرد الروائي الثاني (توراة) المستمدة هذه المرة من سفر التثنية (31/ 24-26):
" فعندما كمّل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتابٍ إلى تمامها، أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلاً، خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهداً عليكم "(تثنية D). الأمر يتعلق هنا بتوراة تم ضمها إلى تابوت العهد الحاوي لميثاق العهد.
من سياق هاتين المرويّتين يمكن ملاحظة ظاهرتين:
الظاهرة الأولى- تتعلق بما يمكن أن يبدو في نمط من التناقض بينهما: - في المرويّة الأولى، لسفر الخروج - لا تعدو المسألة أكثر من لوحين يحتويان على وثيقة عهد.
في المرويّة الثانية لسفر التثنية - يتعلق الشأن بتوراة مكتملة.. وكلاهما قد تم وضعهما في تابوت العهد..
أيهما نصدق.. يا ترى ؟ بيد أننا سنرى لاحقاً تفسيراً لهذه الظاهرة، من خلال تناولنا المتكامل لمسار التشكّل التوراتي- حسبما أرى.
في الظاهرة الثانية- تتحدث التوراة عن ذاتها بقلم غير قلم موسى، وتذكر على الدوام الإله وموسى بصيغة الغائب من قبل راوٍ ثالث.
اضطراب وتناقض داخلي في المرويّات - بصدد مرويّة الألواح الحجرية: لنتصور مساحة هذه الأحجار التي يجب أن تستوعب تلك التوراة ذات المئات من الصفحات..!
أما إمكانية إيداعها و حملها قي تابوت العهد الخشبي ذي القياس المتواضع الصغير الحجم، وفي كل مراحل الحل والترحال العبري.. ينطوي هذا الشأن بلا ريب، على استحالة كبرى..! وهاهو بصلئيل قد حدد ضيق مساحتها: في خروج 37/- 2 " وصنع بصلئيل التابوت من خشب السنط طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف وارتفاعه ذراع ونصف، وغشاؤه بذهب ".
لا يقف الأمر عند هذا الحد، من حيث تطالعنا مرويّة أخرى نجدها في الإصحاح 27 من سفر التثنية (1 إلى 8) " وأوصى موسى وشيوخ إسرائيل الشعب قائلاً. أحفظوا جميع الوصايا التي أنا أوصيكم بها اليوم. فيوم تعبرون الأردن إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك تقيم لنفسك حجارة كبيرة وتشيدها بالشيد وتكتب عليها جميع كلمات هذا الناموس حين تعبر لكي تدخل الأرض التي يعطيك الرب إلهك أرضاً تفيض لبناً وعسلاً كما قال الرب إله آبائك. حين تعبرون الأردن تقيمون هذه الحجارة التي أنا أوصيكم بها اليوم في جبل عيبال وتكلسها بالكلس. وتبني هناك مذبحاً للرب إلهك مذبحاً من حجارة لا ترفع عليها حديداً. من حجارة صحيحة تبني مذبح الرب إلهك وتصعد عليه محرقات للرب إلهك. وتذبح مذابح سلامة وتأكل هناك وتفرح أمام الرب إلهك. وتكتب على الحجارة جميع كلمات هذا الناموس نقشاً جديداً.
يقر هذ النص بضرورة تحضير حجارة عظيمة، ليست قطعاً، بطول ذراعين ونصف وعرض ذراع ونصف وارتفاعه ذراع ونصف "- حسبما صنع بصليل.
الجدير بالبيان، أنه من المفترض أن يكون هذا الناموس هو التوراة ذاتها
وليس أحد مكوناتها، الأمر الذي يؤكده سفر يشوع ذاته- كما سنرى- حيث يروي هذا السفر أنباء عن إشادة بناء المذبح على جبل عيبال ونقش التوراة عليه.
على مرآى من هذا السياق، نرى ثمة مرويّة ذات علاقة بكتابة التوراة مستمدة من نصوص التوراة (الخروج)، لا تتفق مع مروية أخرى مستمدة بدورها من نصوصها (التثنية).
تندرج هذا الظاهرة بما تمتلك من قوة الإثارة.. بما يظهر في غمار المروية المستمدة من سفر التثنية، من حيث قد أعلن الإصحاح 27 (1-8) من هذا السفر، عن تواصل نصوصه روايتها المتعلقة بكتابة التوراة حتى نهاية الإصحاح 34 - وذالك بعد أن تم الإعلان قبلاً عن اكتمال كتابة التوراة لذاتها وإيداعها في تابوت العهد..
بالأحرى تستمر التوراة الإعلان عن كتابتها لذاتها، بعد تكاملها وأرشفتها لدى خزانتها في تابوتها المقدس..
والمفارقة الكبرى تتجلى عبر هذه المرويّة - بقلم موسى- من حيث كون التوراة قد أضحت منذ اللحظة جاهزة، ويُطالب بنقشها مستقبلاً (في اليوم الموعود) على حجارة البناء المزمع إشادتها في جبل عيبال..؟
تحيرنا هذه المفارقة، هل نعتبر حسب هذا النبأ أن التوراة قد أنجزت، وبالتالي ما مصير الإصحاحات التوراتية التالية لهذا القول..؟ أم أنها ما زالت تتكامل، وكيف يمكن تسويغ هذا النبأ..!
الجدير بالنظر، أنه حسب المنظور اللاهوتي، يكون سفر التثنية بحد ذاته، هو السفر التوراتي الأخير- الخامس - من صياغة موسى ذاته.
لم تأنف هذه الظاهرة إلا أن يتعالى صوتها، وتكرر ذاتها لتعلن مرة أخرى، وهذه المرّة في (تثنية 31/9): " وكتب موسى هذه التوراة وسلمها للكهنة بني لاوي.. "
أرادت المروية مرة أخرى، أن تحفر المزيد من المفارقات في سيرها السردي، لتصرح (في تثنية 31/ 24- 26) " فعندما كمّل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتابٍ إلى تمامها " " خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه في بجانب تابوت عهد الرب.. "..
تتكرر تلك الظاهرة الغريبة، من حيث كون التوراة ذاتها مازال يجري كتابتها.. والعديد من الإصحاحات (32، 33، 34) بمروياتها، وبأحداثها الكبيرة والصغيرة لم تنجز بعد على صعيد التشريع والفعل والكتابة..!
إزاء هذا الاضطراب في المرويّات ذات الصلة بكتابة التوراة، يحدوا بنا أن نتساءل عن، أي توراة تتحدث هذه النصوص المستمدة من التوراة ذاتها..؟
واقعة قراءاتها على مسمع من الشعب..؟ على هامش هذه المسألة وفي تكامل معها، تتناول مروية سفر (التثنية 31/9 -11):" وكتب موسى هذه التوراة وسلمها للكهنة بني لاوي حاملي تابوت عهد الرب ولجميع شيوخ إسرائيل. وأمرهم موسى قائلاً في نهاية السبع السنين في ميعاد سنة الإبراء في عيد المظال حينما يجيء جميع إسرائيل لكي يظهروا أمام الرب إلهك في المكان الذي يختاره تقرأ هذه التوراة أمام كل إسرائيل في مسامعهم".
والمحير في الأمر: لماذا هذا الميعاد المؤجل للقراءة.. ؟؟.. أهو صدى لما قد تم إنجازه تالياً من أعمال بصدد أعمال ذات صلة بكتابات لنصوص توراتية قادمة..؟
من نافلة القول، في كون تلك الإشارة إلى هذه القراءة المستحيلة.. ؟ مئات الصفحات أمام جمهور محتشد..!! - [ ولكم من المرات تم إعلان قراءات للتوراة أمام جمهور محتشد في عصر تالٍ لموسى، كعصر الملك يوشيّا وعصر عزرا..!!. ]
في عصر لاحق يعمد الكتبة لجعل يشوع بن نون منجزاً لوصية موسى ويبني المذبح وعليه نقوش التوراة (سفر يشوع 8/ 30- 35)..
على هذا النحو تتكامل المسألة، لتصبح بحد ذاتها معضلة.. !!
قرائن أخرى، تشكل بحد ذاتها ظاهرة محيرة كبرى: يمكن استدراكها من التوراة ذاتها لتساهم بدورها، في نفي كون موسى كاتبها (التوراة،).. لها صلة هذه المرّة بمصير موسى وتبوأ يشوع كخليفة نبوي وقيادي للعبرانيين..
والمفارقة المذهلة في عرض هذه القرائن، يتعلق بنبأ موت موسى ودفنه، والتوراة مازالت تكتب بقلم موسى..!!
بصدد هذا الموت الذي قد ظهر بصيغة مبرمجة (في الإصحاح32/48- 52):.. أمره الرب أن يموت في الجبل.. وفي الإصحاح الرابع والثلاثون من سفر التثنية من 1 إلى 6 " وصعد موسى من عربات موآب إلى جبل نبو إلى رأس الفسسجة الذي في قبالة الذي قبالة أريحا فأراه الرب جميع الأرض من جلعاد إلى دان وجميع نفتالي وأرض أفرايم ومنسي وجميع أرض يهوذا إلى البحر الغربي والجنوب والدائرة بقعة أريحا مدينة النخل إلى صوغر. وقال له الرب هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قائلاً لنسلك أعطيها. قد أريتك إياها بعينيك ولكنك إلى هناك لا تعبر. فمات موسى في الجواء في أرض مؤآب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى اليوم " (مسكين موسى، لم يتجلل حتى بقبر..!!)
ويكتب عن خليفته: تروي التوراة بعد تكاملها وإيداعها في عرينها المتمثل بتابوت العهد، عن خلافة يشوع بن نون له، ومهارة هذه الخليفة المتجلية في قدرته على تسيير شؤون العبرانيين..
(في التثنية- 34/9)" ويشوع بن نون كان قد امتلأ روح حكمةٍ إذ وضع موسى عليه يديه فسمع له بنوا إسرائيل وعملوا كما أوصى الرب موسى " . وأكثر من ذلك تتمادى المروية لتذكر " وكان موسى ابن مئة وعشرين سنة حين مات ولم تكل عينه ولا ذهبت نضارته" (34- 7).
ثم في 34/8: أن بني إسرائيل حزنوا عليه، ودام الحداد ثلاثين يوماً..- وفي 34/10-13 " ولم يقم نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهاً لوجه في جميع الآيات والعجائب التي أرسلها الرب ليعملها في أرض مصر بفرعون وبجميع عبيده وكل أرضه وفي كل اليد الشديدة وكل المخاوف العظيمة التي صنعها موسى أمام أعين جميع إسرائيل ".
كيف تسنى لموسى الذي ما زال يخط نصوص التوراة، أن يكتب أنباء عن موته، وتقييم ذاته، وتتويج خليفته، وإصدار ثناء بقدرات وشمائل هذا الخليفة- يشوع المحارب المقتدر.. - كل ذالك بعد أن أنجز المهمة الموكلة له وأودع التوراة في تابوت العهد.. !!
[ ياللغرابة !! هل يكفي..!!].. هل يمكن أن يكون كل هذا وذاك من يراع موسى..؟ وموسى قد غادر الحياة من قبل.. !!
السؤال، إذا استطاع موسى كتابة نبأ موته، لماذا لم يحدد موقع قبره.؟.. وإن كان ذلك من قبل كتابة غيره، من شهود عصره. لماذا لم يُعمد إلى تحديد موضع قبر موسى..!!! ؟
أليست كل هذه المفارقات ما يؤرق مضاجع وثوقية " الكتاب المقدس " من حيث كونها عائدة لموسى.. ناهيكم عن مقولة القدسية التي وسمت بها ذاتها.. !!

موسى في التوراة
ها ونحن نتقصى في التوراة عن دور موسى في كتابتها، تستدعي الضرورة أن ننقب عن موسى ذاته - في التوراة بحد ذاتها..
الجدير بالبيان، أن الأمر لا ينطلق من مجرد رغبة في البحث لمجرد البحث أو التمتع بهواية التنقيب، بيد أن نصوص التوراة ذاتها قد ساهمت بكيفية أو بأخرى بصب الزيت على النار وجعلت من موسى مجرد أحجية، مما يفضي زوال دوره في صنع التوراة إلى حافة الفناء.. ناهيكم عما يلي ذالك من
أصداء..
ها هي التوراة بحد ذاتها، والتي هي من المفترض من كتابة موسى وبوحي من إله موسى، ما برحت تلقي ظلالاً من الغموض على موسى في مناحي شتى: في لغته وهويته وتاريخه ومصيره، ناهيك عن ما كتبه في توراته.. مما يضفي على شؤونه غلالات من الإبهام وإلى إبهام.. في هذا الصدد لنا الآتي.
في لغة موسى: إن كنا نبدأ من مسألة اللغة، ذلك لأنها كما هو معلوم، شأن ثقافي لها دور مركزي في تحديد الهوية. على هذا النحو نحاول التقصي عن لغة موسى من حيث قد عاش وتربى في ظل العرش الفرعوني.
في هذا الشأن تقول التوراة (خروج 4/ 10-17/ نص يهوهي): " فقال موسى للرب استمع أيها السيد لست صاحب كلام منذ أمس ولا أول أمس ولا من حين كلمت عبدك. بل أنا ثقيل الفم واللسان. فقال له الرب من صنع للإنسان فماً أو من يصنع أخرس أو أصم أو بصيراً أو أعمى. أما أنا هو الرب. فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم. به. فقال استمع أيها السيد. أرسل بيد من ترسل. فحمى غضب الرب على موسى وقال أليس هارون اللاوي أخاك. أنا أعلم أنه هو يتكلم. وأيضاً ها هو خارج لاستقبالك. فحينما يراك يفرح بقلبه. فتكلمه وتضع الكلمات في فمه. وأنا أكون مع فمك ومع فمه وأعلمكما ماذا تصنعان. وهو يكلم الشعب عنك. وهو يكون لك فماً وأنت تكون له إلهاً. وتأخذ في يدك هذه العصا التي تصنع بها الآيات. ".
بطبيعة الحال، ليس بوسعنا التشكيك بكفاءة الإله التوراتي في التكلم بكل لغات الأرض، حتى وإن كانت لغته الأصلية ولغة أهل السماء قاطبةً هي اللغة العبرية - كما يزعم التلمود.! إنما يختلف الأمر لدى موسى ربيب القصر الفرعوني.. وأين له من معرفة لغة العبرانيين، اللهم إلا إذا تبنى العبرانيون اللغة المصرية القديمة، وهذا لا يلتقي قطعا مع لغة التوراة، التي تم اعتبارها لغة السماء..!
ليس من المستبعد، بقاء القوم في عزلتهم على لغتهم، بينما تمتع صفوة
القوم بمعرفة لغة مصر وآدابها وعلومها، كموسى وهارون واللاويين.. ومن يدري.. ؟
والسؤال، ألا نلمس في هذا النص حضور عائق لغوي ومشكلة تفاهم، بينه وبين تلك الجماعة البشرية التي دُعي موسى لقيادتها وإهدائها السبيل اللاهوتي القويم..؟
ولماذا يلجأ الراوي التوراتي إلى جعل الإله يوجه خطابه حيناً إلى موسى وهارون معاً، وحيناً آخر إلى موسى طالباً منه دفع هارون لمخاطبة الجمهور..! - أليس للأمر من صلة بعملية ترجمة.. أو أي شيء من هذا القبيل..
أما عن السبب الداعي لعدم توضيح المسألة بصورة مباشرة ؟. ربما مرده عائد لكون كاتب النص رغب إخفاء مصرية موسى، أو أراد أن يُغلف ما قد تبقى في الذاكرة الجماعية من صور بغلاف غيبي لاهوتي.. ومن يدري.. ؟
في ولادة موسى: لم يقتصر الغموض بشأن موسى على لغة موسى، إنما قد طب بدوره على ولادته ونسبه ووالديه..
في هذا الصدد تقول التوراة (خروج 2/1-2 نص يهوهي)- سفر مآثر موسى وبقلم موسى كما هو مفترض - " ذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي. فحبلت المرأة وولدت ابناً.." [ هو لاوي إذن..!! وثمة حديث عن اللاويين بكونهم مصريين.. ؟ ]
لا يلغي من شأن هذا الغموض المحاولة المتأخرة لسفر أخبار الأيام الأول لتدارك الأمر، إذ جعلت له أباً وأماً في شجرة النسب المتفرعة الأغصان، حين أشارت بالبنان (في 6/1-3) إلى بني" عمرام أو عمران "..
ومن المعلوم تاريخياً، أن هذا السفر بقضه وقضيضة - حسب التاريخ - من صنع متأخر. يعود إلى الذائع الصيت بقلمه ومآثره " عزرا الكاتب " أو من مَن في حوله، أو من مَن سار على دربه..
الجدير بالقول، أن موسى ككاتب لسفر الخروج - كما هو مفترض- أحرى بذاته، من أن يعلن عن نسبه، من عزرا المتأخر عن زمن موسى..
في نسل موسى يضيع الأثر: على وتيرة هذا السابق قد تم إقصاء نسله في اللاحق، فلم يظهر أي أثر لولديه جرشوم وإليعازر، بينما قد احتل نسل هارون شأناً هاماً في مسيرة الأحداث الآتية..!
ليس من الصعوبة بمكان معرفة الدوافع الكامنة في هذه المسألة، من حيث كون زوجة موسى عربية أو كوشية، فعلى غرار إسماعيل وعيسو المقصيين تم إقصاء نسل موسى، وكلهم لهم أمهات غير عبريات (على نسق شأن تشريع التوراة).. يزداد شأن التغييب هنا لزوماً ووجوباً، من حيث كون موسى بذاته في أصله وفصله نكرة، وفي ثقافته ولاهوته أحجية..؟..
على رأس هذا وذاك، يعود نسب عزرا الكاتب ذاته إلى هارون، فكيف يكون لنسل موسى والحال هذه من شأن..!
اضطراب مرافق في تسمية حمو موسى: يضاف إلى ما سبق من غموض واضطراب، يأتي هذه المرة على اسم حمو موسى (والد زوجته)، حيث قد ظهر حيناً باسم رعوئيل (في خروج 2/18)، وحيناً آخر في اسم يثرون (في خروج 3/1)، وثالثاً تحت اسم حباب (في قضاة4/11).. فمن يكون إذن..؟ هل هناك أكثر من موسى..؟
في العلاقة ما بين موسى والرب - ثمة إشكالية موسوية جليّة، تكاد تكون متميزة بحد ذاتها، تتمثل هذه المرة بتلك العلاقة الفريدة من نوعها بين موسى والرب التوراتي- من حيث قد ظهرت عبر النص التوراتي كعلاقة معقدة متعددة الجوانب والأوجه: بدت حيناً على علاقة شخصية ودية ومباشرة جداً، جاءت على درجة عالية من الود والرعاية والمحاورة " ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه كما يكلم الرجل صاحبه " (خروج 33/11)، بينما ظهرت في أحيان أخرى مستترة وخفية، كنار مشتعلة في عليقة (خروج 3/3)..
في أحيان أخرى وأخرى، جاءت متوترة، لم يتعفف النص فيها من إظهار الرب كمن يعبث بموسى، حين قال له " ويكون متى أجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز، ثم أرفع يدي فتنظر ورائي. وأما وجهي فلا يرى " (خروج 33/30- 33).
ربما يحق لنا أن نتساءل هنا، عن الكيفية التي كان عليها النص في أصله القديم، قبل أعمال التعديل والتحسين في اللغة والتواطؤ في الترجمة، ولاسيما، بما يخص الصيغة القديمة التي يمكن أن يكون قد جاء بها التعبير الأصلي، في " تنظر ورائي " - لاسيما ثمة وجه لا يرى..؟ -
ما هذا..!! أهي معابثة، أم لعبة أطفال (خباية).. الأمر هنا، يتجاوز موسى ليصيب في إشكاليته على الرب بحد ذاته.. أية بدائية هذه وضع فيها الكتبة، من دون سبب، الرب.. فيا للعجب !!؟.
بيد أن النص التوراتي لم يتوقف عند هذا الحد، من الترنح في العلاقة بين الود والعبث في الصلات بين الله وموسى، حيث تجاوز الأمر إلى حد المطاردة برغبة القتل وسفك الدم، ولولا براعة صفورة زوجته، التي قد أنفذته حين سفكت دماً..
ها هو نص خروج (4/24- 26) يروي لنا:" وحدث في الطريق في المنزل أن الرب التقاه وطلب أن يقتله, فأخذت صفورة صوانة وقطعت غرلة أبنها ومست رجليه. فقالت إنك عريس دم لي. فأنفك عنه. وحينئذ قالت عريس دم، من أجل الختان ".
[ يا للمشهد: غرلة، وأرجل، وعريس دم، وانفكاك وما إلى هنالك من مسالك.. وكل هذا مع الرب ذاته !! ]
الجدير بالبيان، أن هذا النص القصير جداً، قُدر له أن يثير زوبعة كثيفة من الضجيج والعجيج، ولا عجب، من حيث كون الرب قد طلب أن يقتل مَن: موسى..؟ وصفورة بادرت لقطع غرلة مَن: ابنها.. ومست رجليه، رجلي مَن ؟ الرب. وقالت إنك عريس دم لي..؟ لمن ؟ للرب.. فأنفك عنه.. انفك مَن عن مَن ؟ الرب قد انفك عن خناق موسى..
يدعونا هذا النص على قصره التوقف لديه، لما أحتوى عليه من زخم في المفارقة وبما أثار حوله من لغط ومناظرة..: ها هو موسى المنتخب من قبل الرب يصبح هدفاً للمطاردة والقتل من قبل الرب ذاته، لسبب يصعب تبينه.. هل يليق بالرب مثل هذا الفعل، أليس حرياً به بأن يرفعه إليه ويفعل به ما يشاء.. دون اللجوء لهذه المباغتة، ثم إطلاق سبيله بمجرد رؤية الدم، ومسح رجليه بالدم (رجلي الرب- ولم الرجيلن ؟) ولم الدم..! - أمن أجل إرواء الغليل، برؤية الدم.. ؟ - يا للعجب.. كيف سمح لنفسه من كتب، ليضع الرب في هذا المطب..!!
مرة أخرى هنا يدور بخلدنا، إنه من الصعوبة بمكان تصوّر الكيفية التي جاء عليه النص في أصوله الأولى، قبل أن يتاح له الحضور إلينا في صيغته المبتسرة الراهنة - ذه..
يبدو لي، أن بعض من أناط لنفسه للقيام بترجمة التوراة إلى لغات أخرى (الآرامية أو الإغريقية القديمة) أحس بهذا المأزق، فعمد لوضع وسيط سماوي بين الرب وموسى، كي يحملُه مهمة قتل موسى، وهو ملاك الموت.. ولعل هذا أليق..
الجدير بالتسجيل، أن هذا النص كان منذ القدم مجال نزاع، من حيث كونه ينطوي على مأزق لا نظير له، مما حدا بالتلموديين لابتداع مناورة تتسم بالغرابة وهي: أن صفورة كانت قد أُبلغت بضرورة إجراء الختان من قبل ملاك نزل من السماء وابتلع جسم موسى كله باستثناء عضوه التناسلي غير المختن [ أي كما لو ظهر بارزاً، منتصبا،ً وحده في الهواء كي يختّن.!]. لفت الأمر انتباه صفورة، مما دفعها للقيام بفعل الختان.
بيد أن هذه الرواية لم ترق لحاخاميين آخرين، فعمل على وضع المهمة على عاتق الشيطان الذي جاء موسى بهيئة ثعبان، حيث ابتلع موسى حتى نهايته، فحالما سفحت صفورة دم الختان على قدمي زوجها، سُمع صوت سماويي صرخ على الثعبان، قائلاً " ألفظه "..
بكل الحالات، جاءت تلك المحاولات " لتزيد الطين المزيد من البلل "، ولتدفع النص إلى مأزق يجعل منه أحجية، مما دفع الشيخ اليهودي المدعو راشي- في القرن العاشر ميلادي - كي يقول، إن الأمر لا يعدو أكثر من كناية لمرض ألم بموسى فتدبرت صفورة معالجته بشعائر الختان..
ها وقد أطرب هذا التفسير التوراتيين المعاصرين، حيث وجدوا الحل لهذه الحكاية المربكة، فهرعوا ليضعوها على كاهل" قوة الختان المنقذة الغامضة "، من حيث هي " هدف الاحتفاء بهذه القصة ".
أعلق: لا ادري كيف كان النص في أصله في القرن العاشر ميلادي، الأمر الذي استدعى الشيخ اليهودي المدعو راشي لتدخله للتخفيف من وقعه.. وهم قبيل لحظة، قد جعلوا للرب - خلفية جسدية، أو وراء، و رجلين..- بل وكيف كان النص في أصله، لأعضاء من هنا وهناك..!!
إن كنا قد أسهبنا في عرض اليسير مما ألم بهذا النص من مصير عسير، إنما بهدف توضيح المأزق الذي وُضع به موسى في صلاته مع إلهه، الأمر الذي قد ظهر عبر النص التوراتي مرات عدة، وفي أكثر من مظهر..
موت موسى كإشكالية في التوراة:
ها هنا يبلغ السيل الزبى وتتجلّى الطامة الكبرى، حيث يتطاول النص هنا ليصل إلى أعلى مدى في تصوير حراجة موقفه بشأن موسى، وكذلك حراجة موسى ذاته بشأن توراته.. - تأتي هذه الإشكالية لتعلو وتحلق في مأزقها جل الإشكاليات الأخرى.
السؤال، كيف تسنى لموسى ذاته أن يكتب عن موته وقبره وعن خليفته من بعده: كيف تسنى لموسى الذي ما زال يخط نصوص التوراة أن يكتب أنباء عن هذا وذاك، وخاصةً عن موته وتتويج خليفته، وإصدار ثناء بقدرات وشمائل هذا الخليفة، يشوع المحارب المقتدر، ومن ثمّ وصف أحزان الحداد الممتد على نحو من ثلاثين يوماً، والرجل قد غاب عن الورى وتوارى في الثرى..
هل يمكن أن يكون كل ذا من يراع موسى ذاته..؟ - (كما قد ورد قبل لحظة، في مرويات الإصحاح 32، و 34 من سفر التثنية من 1 إلى 6).
والسؤال، إن كان بوسع موسى كتابة نبأ موته، فلماذا لم يحدد موقع قبره..؟. وإن كان هذا وذاك، من يراع غيره من شهود عصره، فما الحكمة من عدم تحديد موضع قبر موسى..؟ [ يذهب عدد من المؤرخين لإنكار وجود موسى ذاته..؟ ]
موت طبيعي أم قتل: يدفعني هذا النص بما أنطوي عليه هناك وهنا من مفارقات، إلى حد التداول مع الفرضية القائلة باغتيال موسى من قبل يشوع بن نون أو غيره ؟ بل وهل تم القضاء عليه بحكم قضائي صادر عن هيئة ما..؟
ما يدعم هذه الفرضية جملة من المؤشرات الأخرى التي تعلنها خفية النصوص التالية: (تثنية32/48-52) " وكلم موسى في نفس ذلك اليوم قائلاً. اصعد إلى جبل عباريم هذا جبل نبو في أرض مؤاب الذي قبالة أريحا في أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل ملكاً. ومت في الجبل الذي تصعد إليه وأنضم إلى قومك كما مات هارون أخوك في جبل هور وضم إلى قومه. لأنكما خنتماني في وسط إسرائيل عند ماء مربية قادش في برية صين إذ لم تقدساني في وسط بني إسرائيل. فأنك تنظر الأرض من قبالتها إلى هناك إلى الأرض التي أنا أعطيها لبني إسرائيل "..(ها هنا، في الأمر خيانة..!!)
يأتي هذا القول بعد تلك القصيدة الموسوية الطويلة التي يضمها إصحاح كامل (تثنية 32/1- 48)، التي توحي بكيفية ما وبسرية ما، عن مرافعة لموسى أمام محكمة يتم فيها هجاء القوم وعقوقهم وخيانتهم، بدأها بنداء إلى السماء " أنصتي أيها السموات فأتكلم ولتسمع الأرض أقوالي.. إني باسم الرب أنادي.. جيل أعوج ملتو.. جيل متقلب أولاد لا أمانة فيهم.. ذبحوا لأوثان.. أنهم أمة عديمة الرأي والبصيرة.. " (إلى آخر الخطاب).
ها هنا يأتي الاتهام جلياً، بالذبح للأوثان وإصدار أحكام بأمة عديمة الرأي والبصيرة، وقبل ذلك استنجاد بقوة السماء وشهادة الأرض والنداء باسم الرب.. هنا رجل يرافع ويدافع ويطلب المدد من ربه ويستغيث..!
وكان النص الأسبق (في تثنية31/14- 15)، كما لو أوحى في خفاياه، بإحضار موسى مخفوراً أمام خيمة الاجتماع، حيث تم إصدار الحكم بالموت " وقال الرب لموسى هوذا أيامك قد قربت لكي تموت. ادع يشوع وقفا في خيمة الاجتماع لكي أوصيه. فأنطلق ويشوع ووقفا في خيمة الاجتماع فترآى الرب في الخيمة في عمود سحاب ووقف عمود السحاب باب الخيمة، وقال الرب لموسى ها أنت ترقد مع آبائك.."، [ بعد اتهامه إياه بالخيانة.. ! ].
أليست هذه محاكمة..؟ ألا يخفِ هذا المشهد بطريقة ما، رجلاً تم اقتياده من قبل آخر، وقفا أمام محكمة، تم إثرها إصدار حكم القتل حتى الموت.. تم عليها الدوران بطريقة ميتافيزيقية، لتروى عبر إرادة ومشهد وحضور إلهي..
لاسيما كما يعلمنا علم تشكّل التوراة، كون سفر التثنية هذا قد تم كتابته في عهد الملك يوشيّا، أي في عصر بعيد عن موسى..! يوشيا الملك الذي ما كان جل شأنه - كما هو واضح عبر سفره، التثنية - سوى تمجيد ذاته ونظامه.. فماذا قد بقي بعد..؟ - [ ألا نرَ، فيما أتى، ثمة دلالات على حدوث مجريات تدوير في النص هنا، ومن قبل هناك وهناك..]
أجل، كانت حياة موسى في سرد التوراة مأساة في مأساة، مأساة في بداياتها، مأساة في مسارها، ومأساة في نهاياتها. أنتهي من حيث قد بدأ، مجهولاً في داره، غريباً في أطواره، طريداً في صحراء، لا رمس له، ضائعاً في " الجواء ".. لم يأتنا عنه، سوى الأصداء، بلا مراء، تلك التي قد تجلّت على لسان الكتبة الذين لم يعرفوه قط..-
[ أواه عليك يا موسى ؟ ] والسؤال المحير: لماذا ؟.

موسى في التاريخ
على طرف هذا التداول يستلزم الاحتكام إلى شهادة التاريخ بشأن موسى.. ؟ يقرر علم التاريخ: كما هو معلوم كثير من الأحداث التوراتية جرت في مصر الفرعونية، وضمت الكثير مرويات الآباء الأوائل، إبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وغيرهم، فلماذا لا تظهر الأبحاث الأركيولوجية المصرية أي أثر لهؤلاء.. ؟
يتساءل علماء المصريات القديمة، هل يعقل لمجموعة بشرية عاشت 430 عاماً في مصر الفرعونية، من بينها 210 من السنين بوضعية عبودية في إمرة عدد من الفراعنة الأقوياء، أن تفلح بمغادرة مصر مُحبِطةً خطط الجيش المصري القوي المعادي..!
هل يمكن لهؤلاء التوصل لإقامة في أرض كنعان في الوقت الذي تسيطر فيه مصر عليها..!
إزاء هذه التساؤلات، لم يستطع الباحثون سوى الإقرار بالمأزق التاريخي للمرويات التي حطت على رأس موسى وأنشطة موسى..!
في هذا المجال، تذكر دورية التاريخ الفرنسية في عرضها لملخص موقف التاريخ من هذه المسألة: لنعلم أن النصوص التي تروي عن موسى، تفترض وجوده في ما بين القرن الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد، في حين تؤكد معطيات التاريخ زمنئذ، كانت مصر تسيطر على بلاد كنعان ولها فيها فرق عسكرية. فماذا يبقى والحال هذه من مرويات الخروج من مصر..! إن المرويات الخاصة بموسى لا تنتمي للتاريخ، فالمروية الخاصة بالطفل الملقى في السلة عبر النهر، قد خصت قبلاً سارغون الأكادي، الحاكم الأول الذي قد وحد بلاد بين الرافدين.. ومرويات السحرة في بلاط فرعون كانت شائعة في ذلك الزمان..
إننا نعلم عبر قرون عديدة، كانت قبائل سامية قد وصلت إلى حدود مصر وأثارت متاعب عدة (الهكسوس)، ربما كان من بينها تلك القبيلة العبرية.. هل كان ثمة وجود لموسى.. ربما.. بيد أن هذا الأمر لا يمكن العثور عليه عبر الإنجيل..
تستند الدورية في مقاربتها لهذه المسألة على باحث مختص بعلم المصريات القديمة (البروفسورJaen Yoyotte عضو شرف في الأكاديمية الفرنسية)، إذ يذكر: إن التاريخ يعلن عن وجود السيطرة المصرية على مجمل فلسطين ولبنان وسورية الجنوبية حتى دمشق في العصر الموافق للأنشطة المعلنة بسفر يشوع بن نون والقضاة... هل يمكن أن يتيح مثل هذا المجال الحيوي المصري، لموسى ويشوع والقضاة، تحقيق مثل هذه الإنجازات !!
يحذر هذا الباحث من النظر إلى تاريخ الشرق القديم عبر المطياف الإنجيلي، كما ينصح بتجنب ما سماه الرؤية المركزية الإنجيلية للتاريخ " بل وهناك من يضع الشكوك التاريخية على مجمل هذه الوقائع وينكر حدوثها بالكلية، حيث يستنتج باحثان إسرائيليان لامعان: بأن الخروج الجماعي من مصر لم يحدث، لا في الوقت ولا حسب الطريقة التي تذكرها التوراة. إن هذا الأمر غير قابل للدحض. ؟ " لا يوجد دليل علمي أكيد على وجود شخصية موسى الموصوفة في التوراة العبرية، ولا على قصة التجوّل في البرية، والعجل الذهبي والصعود إلى سيناء.. - والأرجح في نظريهما- أنه لم تكن هناك أصلاً فترة عبودية في مصر في تاريخ إسرائيل."
الأصل المصري لموسى: تظهر بين الحين والآخر افتراضات تعلن عن مصرية موسى، من بينها مزاعم مطالعات فرويد في كتابه موسى والتوحيد التي يستند فيها على برستد في كتابه فجر التاريخ.
يذكر كتاب قصة الحضارة: ينقل يوسفوس عن مانيثون، وهو مؤرخ مصري عاش في القرن الثالث ق م، قوله، إن سبب خروج بني إسرائيل من مصر هو رغبة المصريين من أن يتقوا شر وباء بين اليهود المستعبدين المملقين.
كما يرى، أن موسى نفسه كان كاهناً مصرياً خرج للتبشير بين اليهود المجذومين، كي يعلمهم قواعد للنظافة على نسق القواعد المتبعة عن كهنة المصريين، وموسى اسم مصري لا اسم يهودي ولعله اختصار للفظ حموس.
يدلي عدد من المؤرخين بدلوهم بصدد مصرية موسى إذ يذكروا: من المهم أن نلاحظ أن اسمه، موسى، اسم مصري، (وهو ببساطة- يعني وليد = ابن)، وهو اختصار لصيغة أطول على غرار " آمون- موسه " أو بتاح - موسه، بمعنى وليد آمون أو وليد بتاح، وسرعان ما باتت لفظة " موسه " أي " وليد " شائعة الاستخدام كاختصار ميسّر للاسم الأصلي الأطول." وموسه " هذه بمعنى " وليد " ليست من الأشياء غير المألوفة في النقوش على الآثار المصرية. ومما لا شك فيه أن والد " موسه " كان قد ألحق باسم ابنه اسم إله مصري أو آخر كأمون أو بتاح، وسرعان ما اختصر ذلك الاسم المبارك بإضافة اسم الإله إليه، إلى الاستخدام الشائع، بحيث بات اسم الطفل " موسه "(واليهود ينطقونها موشه). ويعلق فرويد على آراء برستد في هذا الصدد بذكره، أسماء العديد من الملوك المصريين المشتقة من أسماء الآلهة، كأحموسه (أحمس) وتحتموسه (تحوتمس) ورعموسه (رمسيس).
الحوادث التوراتية التي تحط على كاهل موسى: يتصدى لتلك الحوادث كتاب يحمل عنوان " أسرار الخروج والأصل المصري للعبرانيين" (فريق موسى).
يتساءل في التقديم: كيف يمكن لمجموعة من الناس قد عاشت وتشربت الكثير من مقومات الحكمة المصرية، خلال إقامتها الطويلة في مصر، أن تنزع من ذاتها بكل يسر وسهولة كل هذا الأثر الحضاري والثقافي.؟ -ولماذا لم تظهر أعمال التنقيب في المقابر والهياكل والرمال خلال2000 من السنين أي أثر لهؤلاء البشر.
في محاولته لحل هذا اللغز القديم، يفترض التالي: يمثل هؤلاء الناس مجموعة مصرية بقيت تتمسك بالتوحيد الأخناتوني، اضطرت في عهد ورثته - المرتدين عن نهجه اللاهوتي التوحيدي - للجلاء عن مصر، تضم هذه الجمهرة المصرية مزيجاً من الكهنة والكتبة والأعيان، أي نخبة ممثلة لأول مجموعة بشرية في التاريخ الإنساني اعتقدت بالتوحيد الإلهي ممثلاً بالإله المصري آتون. استطاعت هذه النخبة لف مجموعة صغيرة من الناس حولها، حيث تم طردها من العاصمة المصرية (عاصمة أخناتون Akhet-Aton) الواقعة في تل العمارة الحالي. حمل هؤلاء الناس معهم زيادة عن الغنى المادي، تراثهم الروحي وتقاليدهم المدونة والشفوية. بوصول هؤلاء الناس إلى أرض كنعان (منطقة اليهودية- حول القدس) التي كانت تحت الحماية المصرية، تبنوا الكتابة الفينيقية، وصنعوا تدريجياً أبجدية جديدة.
يستند هذا الكتاب في أبحاثه خاصة على مقولة التوحيد المصري الأخناتوني، وعلى نمط الكتابة العبرية القديمة (النمط التربيعي) الكثير الشبه بالنمط الكتابي المصري الهيروغليفي القديم، وعلى التماثل في المنظور الكوني (Cosmologie) التوراتي والمصري القديم،
الخاص بعالم السماء، العلوي وعالم الأرض، السفلي..
والغريب في الأمر، أن أخناتون كرجل واقعي في التاريخ وكمؤسس للاهوت التوحيد الكوني، قد راح إلى غياهب النسيان، وبقي شأنه صامتاً حتى القرن التاسع عشر، حيث توفر له آنئذ الحظ كي يُبعث أركيولوجياً، بينما موسى الذي مرّ دوره كذاكرة مخلدة عبر التوراة، لم يصن له التاريخ الواقعي أي أثر..! لم يا ترى..؟
بيد أننا نرى لا يمكن لنا اختزال رحيل مجموعة موسى عن مصر (إن حدث) بمجرد أمر عقيدة التوحيد، إذ لابد من وجود عوامل أخرى، حيث لم يظهر التاريخ قط حصول أحداث كبرى لمجرد سبب لاهوتي، إنما قد واكبه على الدوام بعد اجتماعي واقتصادي وحضاري وبعد سياسي- كان في ذلك الزمان ومازال..
قد يجد شأن موسى مكانه في ظل رحيل الهكسوس عن مصر. كما لا يستبعد كون الهكسوس موحدين على غرار أخناتون وربما أكثر، فالتوحيد عريق الجذور في المنطقة - وإن بدا في أشكال متعددة..
وربما للمسألة صلة بحملة مصرية ضمت فيما ضمت أتباع للاهوت أخناتون، فمصر في عصر قوتها وجبروتها قد عملت على الدوام للسيطرة على بوابتها الشرقية سيناء وفلسطين وصعدت شمالاً على طول الساحل السوري.. لعله تم السماح لهؤلاء - ما يشبه جماعة موسى- بهجرتهم إلى مجال يخضع لسيطرتهم.. وأين الضرر في كذا هجرة ما لمجموعة من مصر، على عنفوان مصر في سياساتها ولاهوتها. ؟
كخلاصة نرى: أن أمر موسى راح أسير الافتراضات، لا يمكن البت بأمره من مرويات التوراة ولا من تخيلات فرويد وبرستد ومسود وروجر صباح، ولا من مرويات الطبري وغيره من المؤرخين العرب القدامى..
وسيبقى شأن موسى التوراتي معلقاً في فراغ، حتى لحظة العثور على شاهد تاريخي معاصر لزمنه..؟
أرى، أن هذه الوقائع التي تجعل من موسى مجرد أحجية وشبحاً غامضاً في التاريخ، تشكل دافعاً مكيناً في نفي دوره على الأقل، في صنع التوراة الماثلة أمامنا.
في منظورنا، ليس هناك من كبير أهمية في البحث اللامجدي عن أصل موسى، عبرياً كان أم مصرياً، فالأهم من كل هذا وذاك هو انتماؤه الثقافي.. وهل هناك لموسى غير أخناتون، وكذلك صلته في سيرته ومسيرته بعرب سيناء..؟
أما الغموض الذي اكتنف موسى كظاهرة ومَرَدْ، فإن مبعثه الأساسي من غياب دوره الفعلي في كتابة التوراة - ناهيكم عن تعقد المسار التاريخي لتشكّل التوراة، حيث لم يعد أحد يعتقد بصلته فيها..
هاكم باحث أمريكي يعلن بصريح العبارة " في زمننا، لا يوجد عملياً على مستوى العالم، أي عالم يعمل بجدية في هذا الموضوع، يدعم الزعم القائل بكون الأسفار الخمسة (أي التوراة) قد كتبت من قبل موسى، وحتى من قبل كاتب واحد. بل وقد غدا كل كتاب من هذه الكتب موضوعاً للبحث من قبل الأخصائيين لمعرفة كم من المؤلفين قد أسهموا في كتابته. كما يجري السجال لمعرفة لأي من الوثائق الأصول الأولية ينتمي هذا السطر أو ذاك.."
في واقع الأمر، إن توفر لموسى شأن تاريخي، فلا يمكن للاهوت موسى أن ينأى عن أصله الثقافي، أي عن لاهوت إخناتون ومصر، وإن يكون قد أضطر لتطوير بعض محتوياته لينسجم مع الوضعية المستجدة التي أحاطت به، إذ لابد له والحالة هذه أن يتسم لاهوته بجوهر كوني، من حيث كونه قد ترعرع في ثقافة مصر الكونية، وتبنى لاهوت التوحيد الإخناتوني
الكوني.
وأرى - إن قبلنا بالمروية التوراتية بكيفية ما - أنه في سلوكه الشخصي جاء منسجماً بشكل مطلق مع نزوعه الكوني، فقد تزوج من عربية، ابنة كاهن مديان، الشأن الذي لا يتفق مع تشريع التوراة ونهجها، وهو الحري في تطبيق بنودها قبل غيره - حسبما هو مفترض..
فكيف يمكن والحالة هذه، لصق اللاهوت القبلي للتوراة المغلق على الذات، بلاهوت موسى..؟
ونحن إن كنا قد جلنا طويلاً مع شأن موسى والتوراة وفي التوراة، فإن الأمر ينطلق من التهافت التاريخي لمزاعم المنظور الكهنوتي القائل: بأن التوراة قد تم تسليمها من قبل إله السماء إلى موسى لفافة بعد لفافة (التلمود).
ألا تشكل تلك المقولة الأساس الأول لقدسية هذا الكتاب.. !! - ثم ألا نعلم ما بني على زائف هو زائف..
وكيف يمكن تقليد كتاب قدسية ما، ناهيك عن هبته سمة تاريخية ما، إذا كانت صلته بمؤسسيه وعصرهم، من أولها إلى آخرها مختلقة..؟ - [ ألا رفقاً بعقولنا ؟ ].








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهدافها هدفا حيويا بإيلا


.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز




.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب


.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل




.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت