الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نوابض ضجر

علي دريوسي

2021 / 4 / 30
الادب والفن


تذكَّرتْ بغتةً وكأنّها تناستْ ذاك الحدث الهام في حياتها كما كانت تصفه، أنّه قد سافر إليها قبل بضع سنوات من مدينة درسدن، حيث كان يعيش ويعمل، لحضور حفل دفاعها عن شهادة الدكتوراه في باريس. في ذاك المساء الربيعي لَثَمَ شفتيها بشفتيه خُلسةً لإظهار شّوقه إليها، أهداها باقة ورد أكبر من قرص شمس وقلم حبر نسائي أنيقاً ماركة "مونت بلانك" وبطاقة تهنئة كتب عليها: "هذا القلم مخصصٌ لإلْباس قصائدك فسَاتين من كلمات بهيّة، إذا ما قرَّروا (هناك) اِستكتابه وتجنيده لخدمتهم، سيتمرَّد عليهم معتصماً بالصمت إلى أن يتوقَّف مِدَاده عن النبْض."
ثم تذكَّرتْ رحلتهما المشتركة إلى مدينة شتوتغارت وكيف دخل أنيقاً كعادته إلى صالة مجوهرات في أحد شوارع المدينة، وكيف رحَّبتْ به الموظفة الشقراء بابتسامة بورجوازية، حينها طلب لها طوقاً وهمس بأذنها: "مللت التسكع وحيداً."
قالت له الموظفة: "لأطواق النساء مواسمها وطقوسها وأنواعها وأسعارها، ما الذي ترغبه بالضبط؟" يومها هزّ رأسه بلطف وأجابها: "أريجي تريدُ طوقاً من ياسمين وحسب."
وكانت تعتقد لفترة طويلة أنّ شكل وملمس تفاحة آدم البارزة جذّاب وجميل، وظلّت على يقينها الضمني هذا إلى أن سمح لها أخيراً بملامستها ومعاينتها، لحظتها أدركت كم هي تشبه الشوك والصبّار ونبات العليق، فتعاطفت معه وصارت تتفهّمه حين كان يثرثر بعد أول كأس شمبانيا: "آه كم أرغب باسئصال هذه التفاحة الملعونة."
تمتمت: "مضت سنوات على ذكرياتي، ليتني لو بقيت هناك."
أحضرت القلم ودفتر رسائل من غرفة مكتبها وجلست إلى طاولة الطعام في المطبخ، بعد أن كتبت على صفحة بيضاء لمرات متكررة عنوانها في الوطن، توقيعها، الأحرف الأولى من اسمها "أ. د."، عنوان أهلها، عنوان عمها الذي تحب، بعد هذا كله صارت ترسم خطوطاً دائرية وأخرى ملتوية وحلزونيّة لا معنى لها.
بعد كل خربشاتها هذه تناولت من دفتر رسائلها صفحة جديدة زهرية اللَّون، تفوح منها رائحة طيِّبة، طوتها بعناية وكتبت عليها: "برد الجوُّ، البرد قارسٌ في هذا البلد"
"البرد انْغَلَّ في عظامي"
"سأهاجر إلى ألمانيا - رغبة مكبوتة".
ثم سرحتْ بأفكارها بعيداً.
حنَّت إلى أختها الصغرى جهينة التي هاجرت مع زوجها إلى كندا قبل أن تذهب هي للدراسة في باريس.
بفخر عظيم أظهرت ذات شتاء لأمها أول كنزة صوف ملونة كانت قد أنهت حياكتها بالأصابع والسنارة. ألقت الأم التي تهتم بالفن نظرة متمعّنة إلى الكنزة وأشادت بشغل ابنتها الدؤوبة. لكن جهينة شعرت يومها بالحسد والغيرة من إنجاز وجمال ما أبدعته أختها، لذا كان رأيها مختلفاً عن أمها، فقالت: "بالله عليكما، ماذا يعني حياكة كنزة صوف؟ هذا لا علاقة له بالفن والإبداع، ثم أنه في كل محل للألبسة هناك الكفاية من الألبسة الصوفية."
حين استيقظت أريج من شرودها عادت إلى أوراقها وكتبت: "الغِيْرَة لا تؤلم إلا مريضها، تُقزِّمه، قبل أنْ تقتله بالحَسْرة."
وضعت الغطاء برفق على رأس القلم، أدارته نصف دورة، راقبت كيف راح يجفّ الحبر على الورقة المطوّية، ليتحوَّل لونه فيصير غامقاً مائلاً إلى السواد، أمسكت القلم مرة أخرى وحلّت عنه الغطاء برزانة إمرأة تخاف من الإِفراط في الحبّ، كتبت باللغة العربية المُحبَّبة إلى قلبها، هناك تحت الجملة الأخيرة تماماً:
"أريج، آهاتٌ لا تُحتمل."
من أرض الزيتون القريبة من البيت سمعت صراخ الزيزان.
تذكّرت أنه قد حكى لها كيف كان في طفولته يجمعها عن جذوع شجر الزيتون، يقطّع لها أجنحتها، يحبسها في علبة ثقاب ليُخيف بها الآخرين، يقتلها، يملص عنها الرأس والأحشاء ثم يشويها على النار ويأكلها. وحكى لها بأن هذه الحشرة مازالت تثير فضول البيولوجيين إلى اليوم ولها مدلولات ثقافية متعددة، منهم من يعتبرها رمزاً للإثارة الجنسية ومنهم من يعتقد أنها ترمز للروح الإنسانية، للخلود، للولادة الجديدة والحياة الطويلة.
تناولت من دفترها صفحة أخرى وكتبت في أعلاها ما قاله شاعر يوناني قديم جداً: "تعيش ذكور الزيزان سعيدة، إناثها خرساء."
نهضت كالمسرنّمة باتجاه الكنَبَة لترخي عليها جسدها الرَهيف مثل الفجر، على طاولة الكنَبَة الزجاجية ثَمَّت روايات وجرائد ومجلات قديمة مبعثرة، أزاحتها جانباً، رتّبتها فوق بعضها، رفعتها بيديها الإثنتين ووضعتها بصمت على اللوح الزجاجي أسفل سطح الطاولة.
سألت نفسها: "لما لا يوجد في هذا البلد سينما وبرنامج إسبوعي للأفلام؟"
قبل بضعة أيام حضرت في اليوتيوب الفلم الوثائقي عن حياة الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو مع زوجته الثانية بيلار التي تصغره بثلاثين سنة، وكانا قد تعرّفا على بعضهما حين كان عمر ساراماغو ثلاثة وستين عاماً. كانت قد حضرت قبل ذلك بشهور فلم العمى المأخوذ عن روايته تحت الاسم نفسه وأبدت إعجابها الشديد بالحكاية. لم تقرأ للكاتب ولا واحدة من رواياته وليست ساعية إلى ذلك في المدى القريب، لكن هذا لا يمنعها أبداً أن تعترف بأنه كاتب مشهور استطاع إثبات وجوده عالمياً. حتى أنها قالت في لحظة حماس لم تندم عليها: "لا يمكن على الإطلاق مقارنة السيرة الحياتية، محصلة الإنجازات والاهتمامات، لأديب أجنبي من أمثال ساراماغو مع آخر عربي."
لكنها توقفت طويلاً قبل أن تعطي رأيها بالفلم الوثائقي، الذي أُنتج على ما يبدو بناء على رغبة الزوجة بيلار، إذ بدت فيه حياة الروائي تعيسة وغير سعيدة إطلاقاً رغم محاولته مع زوجته لإظهار العكس. دأبت الزوجة بيلار على إرهاق العجوز ساراماغو، الذي كان قد تجاوز الثمانين مع عمره، بالسفر والمشاركات الأدبية واللقاءات الصحفية بحثاً عن الشهرة والمال، بالأحرى من أجل تحقيق مطامحها الأنانية وتعويض عقد نقصها. لم تعجبها شخصية ساراماغو، وجدتها استعراضية وخفيفة جداً. كما أنها لم تستطع الانجذاب إلى شخصية بيلار ولا التعاطف معها ولا الإعجاب بها إطلاقاً. كما وجدت من السخف والابتذال أن يُهدي ساراماغو كل كتاب من كتبه لهذه الزوجة السطحية، الجائرة، غير المثقفة، الدخيلة، الأنانية، اللئيمة والطفيلية.
تناولت إحدى الجرائد، قرأتْ في صفحة الإعلانات تحت عنوان "اِمرأة واحدة لا تكفي للفصول الأربعة" شيئاً عن حاجة أحد الفنادق لتشغيل محترفات ليل. همهمت بسخرية: "أعجبني الإعلان، أنا غابة من نساء."
أمسكت كتاباً لمؤلف عربي، فتحته وقرأت على صفحته الأولى: "لا يسافر المرء بغية الوصول، إنّما بغية السفر"، يوهان فولفغانغ فون غوته، أديب ألماني. رمت الكتاب من يدها أرضاً، وبشكل آلي سحبت كتاباً ثانياً لمؤلف سوري، قرأت في الصفحة الأولى نصاً مترجماً عن الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس. تمتمت: "ما هذا الهراء الرخيص، ما الذي يجعل كتّابنا تستشهد بما كتبه غيرهم؟"
جرَّبت حظها للمرة الثالثة، سحبت كتاباً، قرأت عنوانه "دعابات الطقس الحار" للكاتب الإيطالي ألبيرتو مورافيا، فتحت الكتاب على صفحة لا على التعيين وقرأت نهاية إحدى القصص: "تزوجنا، وإذا أردت أن ترى زوجين يعيشان في وئام تام، تعال وانظر إلينا." شعرت بالتصالح مع الكتاب فأخذت تقرأ فيه لمدة ساعة.
تسرَّبت إلى أَنفها بقايا رائحة التبغ البلدي التي تركها عمها خلفه قادمة من المطبخ، بعد زيارته الصبّاحية لها لتناول القهوة، نهضت، سارت باتجاه طاولة المطبخ، أزاحت منفضة السجائر عنها، رَمت الأعقاب والرماد في سلة المهملات، لمحت الورقة ذات الخطوط، مزّقتها، تمزَّقت الخطوط الحلزونيّة والمُلتوية معها، تناولت القلم، أفرغته من بقايا الحبر ثم ملأته من جديد.
رمّقت النظر إلى ساعة معصمها، لا فائدة، تأخر الوقت، شارف المسلسل التلفزيوني على النهاية، دقائق معدودات ويموت التيار الكهربائي، إنّهم يُقنِّنونه منذ عشرات السنين بأوقات دقيقة ومبرمجة تفوق بدقتها أحدث النظم الإدارية في البلدان المتطوِّرة، إنّه شكل من أشكال الإجرام والإرهاب، قهر يومي، محاصرة وإخصاء، معاقبة وإجهاض. غمغمت: "ومع هذا لا بأس فمعظمنا حصل على شهاداته تحت ضوء الكاز والشمعة."
في العاشرة والنصف سيعود إلى البيت!
انتبهت فجأةً أنّ موسيقى خفيفة تصلها من جهاز الراديو الأحمر، المتوضّع على الرف الجانبي قرب نافذة المطبخ، فيروز تغني: "لمَ لا أحيا"، لم تحتمل الصوت، أطفأتْ الراديو.
على سطح الطاولة كانت الورقة المطَوّية التي كتبت عليها بخط أسود مائل للزرقة الغامضة "سأهاجر إلى ألمانيا - رغبة مكبوتة" مازالت في مكانها بانتظار من سيقرأها.
وقع بصرها على خزانة الأحذية في المدخل وعلى سطحها تربَّع حذاؤه الرياضي الضخم، كان قد حكى لها مرة أنه لم يكن في مراهقته فخوراً بقدميّه الكبيرتين والعريضتين، بل اِعتقد دوماً أن عليّه شراء أحذية صغيرة بقالب ضيق ومُبوَّزة من الأمام كي تبدو قدماه صغيرتين ولطيفتين ومهضومتين ومحبوبتين وخاصة من الجنس اللطيف كما كان دارجاً وقتذاك. كان مقاس قدميه 44 لكنه غالباً ما كان يشتري حذاء بنمرة 43 لتبدأ المعاناة حالما يحتذيه. وحين كبر وانصقلت تجربته الحياتية؛ كما أخبرها؛ تعلّم بأن القدم الكبيرة عند الرجال أكثر جاذبية من القدم الصغيرة الناعمة، فصار يشتري أحذيته الرياضية بنمرة 47 وأحذيته الرسمية بنمرة 45.
شارفت الساعة على العاشرة تماماً، في العاشرة والنصف سيصل البيت، لعلّه سينظر إلى الرسالة التي تنتظره على سطح الطاولة، لعلّه يقرأ الكلمات المكتوبة، لعلّه سيقلق ويخاف عليها، سوف لن يصدق أنّها تنوي الهجرة حقاً إلى بلاد الألمان، سيذهب حتماً إلى خزانة ملابسها، سيتفقَّد قمصانها وملابسها، سيَشُمّ رائحة ملابسها الداخلية الملوَّنة بالتأكيد، لعلّه يحصي أحذيتها ويَشُمّها أيضاً، شيءٌ ما من هذا القبيل ينبغي أن يحصل معه، لعلّه يهاتف أسرة عمّها في المنزل، لكنه سيتذكَّر أنّ عمّها وأسرته يسافرون أيام الجُمَع إلى بيت الضيعة، لا رغبة لهم بالتواصل التلفوني مع الناس، بل ليس لديهم جهاز تلفون هناك، لعلّه سيبتسم وييأس مستسلماً للأمر الواقع، يتصالح مع ذاته، لعلّه سيُسوِّي شعره الطويل بيديه ويبعده عن نظارته، سيفرك صُّدغيه مرات عدة جيئة وذهاباً، لعلّه يستشعر طقطقة عظم صُّدغيه من تضارب الأفكار وتزاحمها، لعلّه سيضرب كفاً بكف ثم يفك أزرار قميصه الأبيض.
جلست هناك على كرسي في غرفة المطبخ، تساءلت في سرها بشكّ وحيرة: "أتمنى أن أكتب رسالة. لمن ينبغي أن أكتب؟"
القلم مُزَيَّن بشعار ماركة "مونت بلانك" باللون الذهبي، قرأت تعليمات الاستخدام بالفرنسية، أدارت القلم نصف دورة إلى اليمين، قرأت النص المكتوب بخط ناعم بالإنكليزية للمقارنة، حرَّكته بين أصابعها لتقرأ التعليمات بالألمانية، لم تستطع، أَنَّبها ضميرها، لقد قطعت عهداً على نفسها بالاجتهاد وبالمثابرة على حضور دروس اللغة الألمانية عند السيدة بربارة، دون أن تفي بوعدها.
هي تعرف أنه من المستحيل إتقان لغة ما ولا في عشر سنوات، إلا إذا تم تنظيم برنامج خاص للشخص المُراد تعليمه بغية تحقيق أغراض أخرى كالترويج لبضاعة ما، الكوكائين مثلاً. حدث أن تعرّفتْ ذات يوم إلى لوسيانا، إمرأة روسية شابة، زوجة أحد معارف زوجها في المحطة الكهروحرارية، لم يكن قد مضى على تعارفهما وزواجهما أكثر من سنة، ومع هذا كانت لوسيانا تجيد اللغة العربية الفصحى وكذلك اللهجة العامية بشكل مذهل. حين سألتْها أريج من أين لها هذه القدرة المميزة على تكلم العربية وكتابتها، أجابت لوسيانا بأنها قد أمضت في مراهقتها حوالي سنتين في إحدى الحارات الدمشقية. لم تقتنع أريج بجوابها!
نظرت أريج إلى ورقتها المطَوّية، فكرت به، شعرت بلذة العناق، اشتاقت إليه، إنّها العاشرة والنصف، موعد وصوله، موعد انقطاع التيار الكهربائي، أدارت بطارية الإضاءة الخافتة.
فُتِحَ الباب، دخل بقامته المنتصبة، عدّلَ تسريحة شعره بيده اليسرى، حرّك إطار نظارته، داعب صُّدغيه بأصابع يديه مرات، ثم رفع صوته قائلاً:
"أريج، حبيبتي،
أين أنتِ؟
أين الأولاد؟
هل ناموا؟
أنا جائع،
ماذا طبخت اليوم لنا؟"


قصة قصيرة
من كتاب "حدبات بلا عمود"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في


.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة




.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد