الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حسناءُ الرصيف

ضيا اسكندر

2021 / 4 / 30
كتابات ساخرة


بينما كنت أسير على الرصيف القريب من منزلي، على معهود عادتي قُبَيلَ الغروب ككلّ يوم، لممارسة رياضة المشي، وإذ بصبيّةٍ أنيقةٍ حسناء تقترب منّي على عجل، وتمدُّ صوبي يدَها التي تحمل منديلاً أبيضَ ورقياً، وتقول لي بارتباكٍ وهلع:
- من فضلك يا سيّد، لقد دخلتْ بعيني قشّة، برغشة.. لا أعرف بالضبط. هلّا تكرّمتَ وساعدتني بانتشالها؟!
وبنخوةِ بدويّ قابعٍ في خيمته ينتظرُ ملهوفاً أيَّ مخلوقٍ في الدنيا لاستضافته، أجبتُها متحمّساً:
- وَلَوْ، تكرم عينك يا آنسة.
ردَّت مصحّحةً:
- مدام لو سمحت.
- يا ستّي لا تفرق..
أخذتُ المنديلَ من يدها واقتربتُ من وجهها كطبيبٍ حاذقٍ، بعد أن وضعتُ على عينيّ نظّارتي الطُّبّية إمعاناً بالتركيز. تأمّلتها، يا إلهي! سحابة من السلام السماوي ينضح من وجهها. تملك عينين بنفسجيّتين قلَّ نظيرهما في عالم الجمال. وبأصابع يدي اليسرى المرتجفة أنزلت الجفن السفلي لعينها المصابة التي أشارت إليها. هالني صفاء عينيها وطول رموشها. حدّقتُ مليّاً وأنا أقوّس حاجبيّ باذلاً أقصى ما لديّ من قدرة بصرية، ولكن دونما جدوى. وهي تسألني بين لحظةٍ وأخرى: «ألمْ ترَ شيئاً؟!». فأجيبها: «الحقيقة حتى الآن لم ألحظ أيَّ جسم غريب في عينك يا سيدتي. ولكن لن آلو جهداً في البحث». اقتربتُ منها أكثر وقد عدّلتُ من نظّارتي إلى وضعيّتها الصحيحة بعد أن انزاحت قليلاً، كون السيدة أقصر منّي. فداعبتْ أنفاسُها الدافئةُ يدي. وفاح عطرها الأنثوي الفتّان أرجاء المكان. فشعرتُ باضطرابٍ لذيذ، تسارعت على إثرها خفقات قلبي، كمراهقٍ خجولٍ تفاجئه فتاته من حيث لا يتوقَّع. مددتُ يدي اليسرى إلى خلف رأسها لأقرّبها أكثر، وقد تثعلبت روحي ونسيتُ نفسي أنني متزوّج وعندي أولاد. وبيدي اليمنى التي تحمل المنديل عاودتُ إنزال جفنها متعمّداً لمس خدّها الناعم الشَّهي. متجاهلاً نظرات المارّة في رصيف الشارع. وأنا أستبسل برجاء العثور على أيّ شيء لأنال منها كلمة شكر، لكنني لم أرَ شيئاً. قلتُ في سرّي سأمسح أهدابها بطرف المنديل مدّعياً أنني وجدتُ شيئاً ما. وبالفعل، وأنا أقوم بمهمّتي الممتعة بمنتهى اللطف قلت لها: «أعتقد أنني وجدتُها.. ستشعرين بالفرق فوراً». عندما أسدلتُ ذراعي مزهوّاً متظاهراً بالفوز وأنا أبتسم، قالت لي وهي ترمش بعينيها الساحرتين:
- أشكرك جزيل الشكر. لقد أتعبتك معي. من فضلك، أرِني المنديل لِأرَ ما علقَ عليه!
وحيث أنه لم يعلقْ على المنديل أيُّ شيء سوى بلل عينها، فقد آثرتُ الهروبَ من سؤالها. وقلت لها ممازحاً وأنا أضع منديلها في جيبي:
- بعد إذنك، سأحتفظ بالمنديل ذكرى. بل لأقلْ، مكافأةً لي، إن لم يكن لديك مانعاً.
ضحكتْ بعذوبة وأخرجت منديلاً آخر من جزدانها، ومسحتْ به زاويتَي عينيها وهي تقول بغنج:
- كأنك تغازلني؟ ألمْ تسأل نفسك أيُّها الرومانسي لِمَ اخترتك من بين كل المارّة لتساعدني؟
- الحقيقة، لا.. فقد اعتبرتُ نفسي محظوظاً ليس إلّا.. ثم إنه هنيئاً لمن يحظى بمغازلتك يا سيدتي.
عضَّت على زاوية شفتها العليا، ونظرةُ دلالٍ تمرح في عينيها، والبسمةُ لا تفارق وجهها الخلّاب وهي تقول:
- ألم تعرفني؟!
حدّقتُ بها بكل ما لديّ من قوة تأمّل، ورحتُ أعصر ذاكرتي وأنا أضيّق عينيّ ليحدَّ بصرها، وقد بهرني جمالها، ووددْتُ لو أبقى ناظراً إليها إلى الأبد، وأجبتها مرتاباً:
- للأسف لا..!
فأخبرتني بلهجة من يسرُّ بشيء:
- معك الكاميرا الخفية. انظرْ (وأشارت بيدها إلى المكان الذي يختبئ فيه المصوّر مع المخرج وباقي الفنّيين.. وتابعتْ قولَها وهي تضحك): لوّح للكاميرا لو سمحت!
نظرتُ إليها بفمٍ مفتوحٍ من الدهشة، ورفعتُ حاجبيَّ متفاجئاً، وبحركة عفوية كالمأخوذ ضربتُ جبهتي بكفّ وأنا أنظر باتجاه طاقم العمل، ولوّحتُ ضاحكاً.
فجأةً حلَّ عليَّ رعبٌ باردٌ. ولفحني خاطر زوجتي المُحافِظة المتشدّدة، لم أتجرّأ على ترداده في داخلي. وقلت متهيّباً بصوتٍ راعشٍ كالمستغيث:
- أرجوكِ سيدتي، حرصاً على علاقتي مع زوجتي، أتمنَّى عليكم عدم بثّ ما صوَّرتموه. فزوجتي غيورٌ جداً، وقد يسبّب عرض المقلب مشكلة كبيرة، أنا في غنى عنها!
اقترب منّي المخرج والمصور مهرْوِلَين، وصافحاني وهما يفرقعان بضحكاتٍ ماجنة. جاملْتُهما بضحكةٍ مصطنعة. التي سرعان ما تحوّلتْ إلى ابتسامةٍ مذنبة. وكرّرتُ عليهما باستعطاف هواجسي، التي بحتُ بها منذ قليل للصبية الحسناء. فتفهَّمَ المخرجُ موقفي ووعدَ بتلبية طلبي، بعد أن منحني غمزة عينٍ متآمرة.
ولكن، وأنا الذي لا يثقُ بإعلام بلده الرسمي قيدَ أنملة. بتُّ قلقاً مضطرباً، فقد ينكثون بوعدهم ويعرضون الحلقة، فتقع الكارثة!.
لدى عودتي إلى البيت. جمعتُ أفراد أسرتي وألقيتُ عليهم محاضرة «من كعب الدست» عن برامج الكاميرا الخفية في العالم. وأن أسوأها هو البرامج العربية السخيفة، التي تستهدف ضحاياها بمقالب مقيتة. الغاية منها إيصالهم إلى أقصى حالات الاستفزاز والغضب والإحراج، بغية إخراجهم عن أطوارهم.. على خلاف البرامج الأجنبية التي تسعى إلى رسم البسمة والإثارة والدهشة السعيدة على وجوه المستهدَفين والمشاهدين. وختمتُ محاضرتي بالقول: «لذلك أتمنَّى عليكم جميعاً عندما تلمحون برنامج كاميرا خفية عربية على التلفزيون، اقلبوا المحطة فوراً. اللي فينا مكفّينا..».
وكم كنت سعيداً عندما وافقني الجميع على اقتراحي، باستثناء زوجتي العبوس التي نبرت مُعترضةً بسخط:
- يكفي ما نعانيه في حياتنا من بُؤسٍ وحرمان، ثم تأتي حضرتك، لتمنعنا حتى من البسمة!؟ أنا شخصياً سأتابع أيَّ برنامج يرسم البسمة على الوجوه.. انشالله عمرُه ما حدا يورث. (وأضافت متحدّيةً) وأعلى ما في خيلك اركبه!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد