الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طاليس- أول فيلسوف يوناني،أب الفلسفة الغربية وأول معلّم في تأريخ الحكمة.

حسين علوان علي
(Hussain Alwan)

2021 / 5 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الفلسفة اليونانية القديمة بشكل عام يمكن تقسيمها الى ثلاثة مراحل، تبدأ المرحلة الاولى منذ القرن السادس قبل الميلاد، وتسمى فترة (الفلاسفة قبل سقراط)، وهي مرحلة ظهور الفلسفة بشكلها المبكر مع فلاسفة أيونيا الثلاثة، الذين درجت العادة على تسميتهم بالطبيعيين الأوائل، وكانوا قد خطوا أول الخطوات في نظام الفكر الغربي الفلسفي ، وقادت مغامراتهم الفكرية الى نشوء الفلسفة الغربية في مرحلتها الأولى.
المرحلة الثانية هي مرحلة نضوج الفلسفة اليونانية ممثلة بـ سقراط وافلاطون والسوفسطائيين، ثم المرحلة الثالثة المتمثلة بـ ذروتها التي وصل إليها أرسطو، وبضمنها فترة (الفلسفة ما بعد ارسطو) وهي مرحلة اضمحلال وتراجع الفكر اليوناني.
يعتبر الحكيم اليوناني طاليس أول فيلسوف في التأريخ، لا يختلف أي مؤرخان في على هذا الرأي، وهو أول من قال بأن للأشياء المتعددة في عالمنا أصل واحد، أولّ من تحدث عن الجوهر الواحد لمكونات العالم، ويعني ذلك ردّ أصل كلّ عناصر العالم المتنوعة والمختلفة إلى مصدر واحد ثابت، أول مفكر بحث في ميتافيزيقيا الوجود أو جوهر الوجود بمعزل عن الاساطير الخرافية والمسلمات الدينية .
أبدى طاليس بعدا كونيا في تفكيره، عزل المعرفة عن الأساطير، وقرر بأن عنصر الماء إنما هو أصل الأشياء، وأن الماء موجود في كلّ شيء. إنه بذلك جمع بين العالم، وبين المفكر الفيلسوف في شخص واحد، ولعله كان أول مفكر عرفه التاريخ يفعل ذلك، لكن هل الماء موجود في كلّ شيء حقا؟ هل كان ما ذهب اليه طاليس صحيحا علميا ويمكن أن يفسر شيئا في ماهية العالم وتكوينه؟ بالتأكيد أن هذا ليس شيئا يعتدّ به، لكن لا تهمنا هنا النتيجة التي وصل إليها طاليس، بقدر ماتهمنا طريقة التفكير الجديدة التي اتبعها، استنبط النتيجة من خلال حجج وصل فيها الى برهان عقلي، لا براهين اسطورية يتم من خلالها ردّ كل شيء الى أفعال الآلهة والمخلوقات الغامضة. لقد انشأ فلاسفة ايونيا اولئك وعلى رأسهم طاليس حقلا جديدا في البحث الفكري والعلمي وهو البحث عن عنصر ثابت في الطبيعة المتغيرة من حولنا، الأشياء والعناصر في الطبيعة هي في عملية تغير وتحول مستمرة، وحيال ذلك لابدّ أن يكون لها أصل ثابت، وقد رأى هو أن هذا الأصل الابتدائي للعالم هو الماء.
تقول المصادر أن طاليس ولد في مدينة ميليتوس أو ملطية حوالي عام 624 ق.م وتوفي في 550 ق.م. هذه الأرقام ترد أحيانا مختلفة قليلا، لكن، في هذا السياق أشار المؤرخ اليوناني ديوجانس اللائرتي أن طاليس توفي خلال الألعاب اليونانية الثامنة والخمسين، حيث شعر الرجل المسنّ بالاعياء من الحرّ والعطش، خلال مشاهدته لواحدة من المباريات الرياضية الاولمبية، توفي على المدرج بين الجماهير، عمّا يقارب أربعة وسبعين عام.
كان اليونانيون المولعون بـ الحكمة والحكماء، قد وضعوا طاليس على رأس كلّ قائمة من قوائم الحكماء السبعة، وهي قوائم متعددة جاءت مختلفة العدد والاسماء في كلّ مرة، لكنها كلّها وضعته على رأس حكماء أمة اليونان. ومن أكثر ما عُرف به واشتهر قديما هو أنه تنبأ بكسوف للشمس حدث عام 585 ق.م، وبالنسبة لتلك الأزمان القديمة قبل أكثر من ألفين وستمئة عام، وبين شعوب تحكمها وتتلاعب بها الآلهة كان ذلك بالتأكيد شيئا خارقا وفذا بهر الناس والاباطرة والحكام.
طاليس العالِم كانت له اكتشافات علمية باهرة أخرى انشغل بها الناس طويلا وفرض بها احترامه بين قومه، انه حين عجز أحد الحكام عن عبور نهر بجيشه وهو نهر يسمى هاليس، قام طاليس بمعجزة هندسية حين قام بتحويل مجرى ذلك النهر ليعبره الحاكم بجيشه، وتحدثت المصادر عن أنه قام في زيارة له الى مصر بحساب طول الهرم عن طريق حساب طول ظلّه تحت اشعة الشمس، وذلك حين قام بعملية القياس في اللحظة التي يتطابق فيها ظلّ شخص ما مع طول جسمه. وتدور حوله قصة أخرى شهيرة رواها ارسطو ، حيث أراد طاليس أن يثبت للمعترضين أن الفيلسوف يمكن أن يكون غنيا لو أراد أن يكون كذلك ويتخلى عن زهده، فحدث وأن عرف من خلال مهارته في علم الفلك ومراقبة النجوم بأن محصول الزيتون سيكون وفيرا ذلك العام، فقام في الشتاء وقبل أن يحين موعد جني الزيتون باستئجار كل معاصر الزيتون في المنطقة، وكانت بسعر بخس لم ينافسه فيها أحد من المزارعين الذين لم يكونوا على علم بما سيكون عليه محصول الزيتون من وفرة، ولما حلّ موعد عصر الزيتون تهافت عليه المزارعون يطلبون استئجار المعاصر منه، اجّرها لهم بالسعر الذي أراد، فجنى بذلك أموالا طائلة،، فاثبت لهم عن قصد أن الفيلسوف والحكيم يمكن أن ينال الثراء لو أراد ذلك، لكنه عن قصد كذلك يختار الزهد سبيلا للعيش للتخلص من رغبات وغايات الدنيا الزائلة المهلكة.
أكثر ما عرف به طاليس وما يُعد الإنجاز الأهم له هو اعتباره عنصر الماء الأصل الأول الذي كانت عليه الأشياء، وأنه يمكن لعقل الإنسان بالملاحظة والتجربة أن يفسر العالم.
لقد رأى مثلا أنّ تكوّن الأرض هو عملية ترسب حدثت من خلال الماء، وهنا وضع تصورا جديدا للمادة بأنها حيّة ومبدأ الحركة كامن فيها، وأن حركة المادة الحيّة هو سلوك طبيعي لها ومن صلب وجودها. فإذا طبقنا ما يرمي إليه بهذا المعنى على مسألة الترسب، التي تحدث في الماء، وتتكون الأرض من خلالها، فإن الترسب هذا تم داخل الماء بفعل حركة تنبثق من داخله كامنة فيه، وبهذا تكون المادة حيّة لأنها تتحرك، وتتغير بنفسها دون قوى حية أخرى تدفعها لذلك، وان النفس والانسان لم يؤتى بهما من خارج العالم، بل نشؤوا بفعل حركة المادة الحية، التي انطلقت في أصلها الأول... من الماء.
ذهب طاليس في استنتاجاته الى ما هو ابعد من ذلك، حيث اعتبر الأرض قرص مسطح عائم على الماء، وأن الماء يوجد حولنا من كلّ جانب، حتى هو فوق رؤوسنا، وإلاّ من أين يأتي المطر؟ أليس من السماء. لنلاحظ هنا وهذا هو الأهم أنه في خضمّ كل هذه التفسيرات والتكهنات الغريبة، لا توجد أية آلهة تخلق هذه الأمور وتتدخل في عملية الخلق وتدبير الطبيعة. هذا هو انجاز طاليس الأهم، لقد وضع نقطة التحول الكبرى، التي قادت الى ما نحن عليه الآن من تقدم علمي وفكري، وما ستكون عليه البشرية طوال مستقبلها القادم.

تنحى الروايات إلى أن طاليس كان مستغرقا دائما في أبحاثه منعزلا عن الناس من حوله، وقد نسب إليه انه قال ( أنا أعيش وحيدا دون احد يؤنس وحدتي منشغلا عن أمور البلاد والعامة)، ويروى انه كان منشغلا بكل لبّه في مراقبة النجوم في الليل وكان يستعين بامرأة عجوز تساعده في المسير تحت جنح الظلام وهو يحدق في السماء نحو النجوم، فما كان له إلا أن سقط يوما وهو يسير في حفرة، قالت له المرأة العجوز وهي تساعده في الخروج من الحفرة: (يا طاليس كيف تقول بأنك ترى كل شيء في السماء.. في الوقت الذي لاتستطيع أن ترى ما تحت قدميك).
بالتأكيد أن العجوز كانت تسخر من طاليس الذي كان يقلل من شأن الآلهة، ويتدخل في عزلة السماء و مهابتها متناسيا انه بشر ضعيف وشيخ متهالك مسنّ يتحدى الآلهة. على أية حال كانت تحديات الشيخ طاليس الجريئة تلك قد أدت في النهاية الى تأسيس الفلسفة ورسم معالم العلم الحديث في مراحل نشوئها المبكرة، وكان من حسن حظّنا أنه لم يستمع لنصائح العجوز الطريفة تلك ويبقى جليس المنزل حتى يوافيه الأجل.
تناقل الرواة اقوالا واراء كانت شائعة عند الناس ولا يشكون في نسبها له باعتباره من حكماء الإغريق، منها أنه ذكر يوما لا يوجد فرق بين الموت والحياة، اعترضه أحدهم قائلا فلماذا أنت حيّ الان ولست ميّتا مادام الموت والحياة شيء واحد، أجاب طاليس: لانه لا يوجد فرق بين الموت والحياة.
وردا على سؤال أحدهم حول من يسبق الآخر؟ الليل أم النهار اجاب طاليس: أن الليل أسبق من النهار بنهار واحد. وعمّا هو أصعب الأمور في الحياة، قوله أن معرفة النفس هو أصعب ما فيها ، وهذا القول هو أكثر ما عرف به وأصبح إشارة له ولفكره وأعني به قوله ( إعرف نفسك أولا).
سألوا الحكيم طاليس عن ما هو أعجب شيء رآه في حياته، كان جوابه: أعجب شيء رأيته هو: طاغية بلغ من العمر أرذله، وظلّ طاغية، لعلنا نجد في زمننا هذا الكثير من الامثلة على هذا الأمر العجيب الذي رآه طاليس.. الطاغية الذي يريد أن يبقى يحكم الناس حتى بعد أن يبلغ أرذل العمر.
عن جوابه حول سؤال كيف يمكن ان يصل الانسان الى الاكتفاء بحاله الراهن، حتى لوكان يعتقد انه سيء الحظ، قال: حين يرى الانسان أعداءه وهم في حال أسوأ منه.
أما عن الطريقة الأمثل لكي نحيا حياة عادلة، قال : إذا ما امتنعنا عن فعل تصرفات نلوم غيرنا على فعلها، على سبيل المثال إذا كنّا نعتبر الطمع رذيلة وننصح الناس بالتغلب على الشعور بالطمع، فالاحرى بنا أن نقتل هذه الرغبة في دواخلنا نحن، وبذلك نبلغ السعادة في حياة دون أطماع.
عن سرّ السعادة في حياة الناس قال: بأن يكون المرء بصحة جيدة، وثري الروح سلس النفس متسامحا.
بهذه الطريقة في أسلوب الحكم القصيرة المعبرة، وبالحياة الزاهدة والجرأة الفكرية إزاء طغيان الأسطورة وسطوة الكهنة، ألهب طاليس حماس الجماهير وبقي خالدا في ذاكرتها بـ ابتكاراته المشهودة وآراءه المتفردة على الرغم من أنه لم يترك خلفه أثرا مكتوبا أو كتابا يشرح فيها آراءه، وانما انتشرت حكمته وآراءه بين الناس وجرت على ألسنتهم، ووصلت الينا وكل مكان في العالم.
لقد اعترف فيلسوف اليونان الأشهر أرسطو أن طاليس كان مؤسس الفلسفة التي أنتجت البقية الباقية من فلاسفة اليونان الطبيعيين ، وأنه كان المنشيء الأول لهذا النوع من التفكير، وينبغي أن لا ننسى أن طاليس كان المعلم الأول أيضا، لأن فيلسوفا كبيرا آخر تتلمذ على يده وحمل من بعده راية فلاسفة أيونيا اليونانيون، وأعني به الفيلسوف إنكسمندر. كان طاليس في الواقع بلا معلم، لم يكن هناك من تتلمذ على يده ضمن التتابع المعروف بين المعلمين والتلاميذ، حيث يعقب المعلمين تلميذا يصبحون معلمين بدورهم، بل كان عبقرية متفردة دون معلم، كان هو المعلم الأول، واستمرت بعده سلسلة التلاميذ وتنوعت وكبرت، من تلميذ يوناني واحد، حتى كلّ جمع الفلاسفة اليوم في كل مكان.
لقد وضع طاليس أساسا للفكر والعلم التجريبي. حين اعتبر الماء هو الأصل في الأشياء. كان يتحدث في ذلك عن عنصر محسوس مألوف نعرفه، وليس ملغزا او مبطنا بالافتراضات الغير طبيعية. انه شيء نراه ونشعر به و نستعمله في حياتنا اليومية. نستطيع ان نصل الى معنى ومفهوم الماء مادام متاحا امامنا، نستطيع ان نفهم سلوكه وأنماطه، نحن أمام ظاهرة طبيعية يمكن لنا أن نتعاطى معها مباشرة و نستنبط النتائج ونجري التجارب. .
العالم المعاصر العلماني العلمي التجريبي الحر بكلمة أخرى، له أصل عند طاليس منذ القرن السادس قبل الميلاد.

مشيغان – الولايات المتحدة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أوروبا تسجل أعلى ارتفاع في درجات الحرارة | #نيوز_بلس


.. 10 قتلى في اصطدام مروحيتين عسكريتين بماليزيا




.. تشييع مُسعف استشهد إثر اعتداء مستوطنين على قرية بنابلس في ال


.. خلال 200 يوم من الحرب ظهرت أسلحة المقاومة الفلسطينية في العد




.. الخارجية الأمريكية: لا توجد طريقة للقيام بعملية في رفح لا تؤ