الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أناشيد سائق القطار في الأول من أيار

عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري

2021 / 5 / 1
ملف 1 ايار-ماي يوم العمال العالمي: العمال والكادحين بين وباء -الكورونا- و وباء -الرأسمالية- ودور الحركة العمالية والنقابية


سألتني زميلتي في الجامعة وكانت مهتمة بالشعر والشعراء عن الشاعر السوري بركات لطيف -ومتى كفَّ البشر عن الاهتمام بالشعر- مع أنها تدرس الطب وتختص بالجراحة العامة، طبيبة جرَّاحة-على قلّة النساء في هذا الاختصاص المرعب- وكنتُ ما أزال متدرباً في المعهد الطبي قسم تخدير وإنعاش، نعمل معاً في غرفة العمليات في مشفى الكندي في مدينة حلب الشهباء في الشمال الغربي من سورية. نساعد على قدر خبرتنا المكتسبة في عملية جراحيَّة لاستخراج حصى أبت أن تنزل بالطرق العادية من كلية مريضة أرمنية من أهل حلب في الخمسين من عمرها، وهي عملية جراحية دقيقة ومتعبة وتتطلب جهداً وصبراً وتستغرق وقتاً طويلاً. كان ديوان الشاعر بركات لطيف "أناشيد سائق القطار" من ضمن من دخل معي إلى غرفة العمليات، أقرأ قصائده للطاقم الطبي الكبير الذي يقوم بالعمل المتعب لساعات مديدة. وكان الشعر يكسر تلك الرتابة والجديَّة المفرطة في غرفة العمليات، وزيادة في الامتاع والمؤانسة يُرافقنا صوت كوكب الشرق من مسجِّل صغير في زاوية الغرفة الواسعة تصدح برباعيات الخيَّام.

بعد قراءة مجموعة من قصائد الديوان قالت: هل أنتَ على يقين أن من كتب هذه القصائد يعمل سائق قطار؟ قلتُ: على حدَّ علمي، نعم، هو سائق قطار درعا-دمشق وهذه أناشيده. ولكن ما سبب دهشتك؟ قالت: سبب دهشتي أن قصائد الديوان تشبه كلام الرسائل الحزينة التي يكتبها العمال في الغربة إلى أهلهم وحبيباتهم، يبوحون فيها بمكنونات صدورهم العامرة بالشوق والحنين إلى تلك الحياة البسيطة الأليفة في ديارهم. إنه أحد هؤلاء الذين يمكنك الوثوق بما يكتبون عن مدن هذا العالم الظالم الجشع الذي يسعى لسحق البشر على سكك الحديد التي تسير عليها كل قطارات العالم في كل الاتجاهات. تُحسّ في كلماته وجمله وتعابيره وتشبيهاته بأن كاتبها سائق قطار فعلاً، وفي كلماته الحزن مُقيم، وكأنه الحزن الذي قال فيه الثائر الأرجنتيني المشهور أرنستو تشي غيفارا: "كنتُ أتصور أن الحزن يمكن أن يكون صديقاً، لكنني لم أكن أتصور أن يكون وطناً نسكنه، ونتكلم لغته، ونحمل جنسيته". تسمع من خلال قصائد الشاعر بركات لطيف صافرة قاطرته، وتشمّ رائحة الديزل والزيت المحروق المُتسرب من أنابيب ووصلات وبراغي وعزقات المحرك الجبار الذي يجرّ القطار إلى الأمام، وتعتريك الرغبة في الصعود على متن هذا القطار الذي يشقّ فجر الصباح ويتجه إلى قرص الشمس الأحمر مباشرة. وتتمنى أن تُسافر معه على هدير أو ضجيج صوت تلك العجلات المنطلقة بحريَّة وثبات على القضيبين الحديدين المتوازيين، وأنت تُصغي إلى هسهسة الحصى التي تشد عضد بعضها تحت ثقل القطار المُسافر.

أعجبني كلام الطبيبة في تقييم قصائد بركات لطيف، فسألتها: هل أنتِ شيوعيَّة؟ فقالت: ما يهمّك من امري أكنتُ شيوعيَّة أو كونفشيوسيَّة؟ حفظت ما قالته عن ظهر قلب. أين أنت الآن يا صديقتي الكونفشيوسيَّة الجميلة في زمننا الأغبر هذا؟ وبعد حين صدر الديوان الثاني "أوراق الليمون" فرحنا بقصائده فرح الأطفال بالعيد. في الصفحة الأولى من الديوان يفتح لنا الشاعر بركات لطيف باب غرفة الشعر ويكتب:

الشعر ثقيل الظلِّ
عندما نكتبه بين الآلات
وفي البيت تُحطِّم أوزانه
طلبات الأطفال
والكلمات ترفض احتواء الأحزان
فهل يكفي يوم من عام
لنفرغ فيه قرناً من البكاء؟!

لا أحد في سورية، أو من المطّلعين عن قرب على المشهد الشعري السوري، في ثمانينات القرن العشرين، إلا ويعلم تلك المكانة التي احتلها الشاعر بركات لطيف المولود عام 1935-مدَّ الله في عمره- بعد صدور مجموعته الشعرية الأول في قلوب مُحبّيه. وإذا كان يحلو للبعض، وأنا منهم، أن يعتبر أن ديوان "أناشيد سائق القطار" الصادر عن وزارة الثقافة السورية تلك الأيام هدية ثمينة تناولتها الأيدي بشغف ودهشة ومحبة، لما تضمّنه من قصائد مذهلة في بساطتها وعمقها ورقة حواشيها ومنخول عباراتها، فكان خير جليس في ذلك الزمان.

ورحنا نسأل بشغف، ونحن فتيان ما نزال، والبسمة لا تفارق ثغورنا: هل حقاً بركات لطيف سائق قطار؟ ومن ثمَّ، فجأة، ترك الشاعر بركات لطيف كتابة الشعر وراح يقود قطار درعا دمشق دون أناشيد يُرتلها على ايقاع صوت عجلات القطار. أصابنا الحزن لصمته. وأسباب صمته ما زلت مجهولة حتى اليوم. هل يا ترى من أسكته عن قول الشعر هو الحزن الذي تحدثت عنه صديقتي الكونفشيوسيَّة؟ أنا لا اعرف حتى اليوم. إضافة إلى الديوانين الصغيرين تجد له مجموعة من القصائد الجميلة في مجلة دراسات اشتراكية السورية التي كان يُصدرها الحزب الشيوعي السوري. وتجد أيضاً قصائد في أحد أعداد مجلة "الطريق" اللبنانية وكان في تحريرها رفيقنا الأسطوري محمد دكروب. جاءت هذه القصائد تحت عنوان "رسائل حزينة إلى الأول من أيار". ومن القصائد التي لا أنساها هذه القصيدة الرائعة والتي أحبها كثيراً وأعتبر على بساطتها من بين أجمل ما كتبه الشاعر بركات لطيف جاءت القصيدة تحت عنوان "يوم معتدل المزاج" وها هي:

كأن الرياح فقدت شيئاً في شعرها
وأبخرة الغسيل تستر وجهاً يموت عليه الندى ويولد
الخريف يحبس أنفاس ألبسة تبوح برائحة أجساد غرقت في التعب
مرّت الشمس والحبال تتدلى بالمراثي
شعر راعيتي تلبّد وعيناها تنتظران قطارات فرح لم تولد
في أقل من دقيقتين حوّلت ما نسميه مطبخاً حماماً يحصد عن نجومي الصغار
حبر المعادن ويزيل قوانين العمل
عصفور يلتفّ بالمنشفة يطير إلى الغرفة تحت المطر ساتراً أسراره بيديه
وآخر لم تنظف أطرافه بعد أن استنفد آخر صابونة
مسح منقاره الدامي وتمتم غداً أيضاً يوم عمل
سحب فيشه من تيار النهار وانطفأ
ضائع أنا بين الجدران
والأحذية الملتوية من الأيام تنظر إليّ بحزن
جاء الشتاء
أبلغ جيوبي العتب
أحوّل نظري
بينما الكلمات، تزرع همي على الورق
أنتظر حبي
والحب ما زال يجلي الأواني
ويعيد صحون الطعام التي هربت من العرق
حتى صافحت نظري بأبريق شاي
ابتسمت الغرفة، وابتدأ الفرح، شاخت القبلات، لأن الخريف أسقط الأوراق كلها
وسحب لحاف الشتاء على جسده وذهب
هذا يوم من الشعر الخام الصافي لا يحتاج إلى نفتالين كي يثبت نفسه على الساحة الثقافية
إنه أدب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نواب في الحزب الحاكم في بريطانيا يطالبون بتصنيف الحرس الثوري


.. التصعيد الإقليمي.. العلاقات الأميركية الإيرانية | #التاسعة




.. هل تكون الحرب المقبلة بين موسكو وواشنطن بيولوجية؟ | #التاسعة


.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة علما الشعب جنوبي لبنان




.. المتحدث باسم البنتاغون: لا نريد التصعيد ونبقي تركيزنا على حم