الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التنمية الفريضة الغائبة عن مناهج النظام الطائفي السياسي في لبنان

حسن خليل غريب

2021 / 5 / 5
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


إن انهيار الاقتصاد اللبناني، الذي يشهد أكثر حلقاته حدة في هذه المرحلة، إشكالية تحتاج إلى توصيف علمي تسبق تحديد العوامل السياسية التي مهَّدت لانهياره ووقفت وراء تداعياته الكارثية.
وإذا كان النظام الاقتصادي صنيعة النظام السياسي ويستجيب لمصالحه، فإن الدخول عبر بواية إصلاحه ليتحول إلى نظام اقتصادي وطني، يُعتبر ممراً إلزامياً لإصلاح النظام السياسي نفسه.
يظهر للمتابع للحركة السياسية في لبنان في هذه المرحلةالعصيبة، التي دخلت في الدائرة الجهنيمة مع انهيار القيمة الشرائية لليرة اللبنانية أمام العملات الأخرى، وما ترتَّب عليها من مآس اجتماعية كبيرة، وكأنها مسألة تهريب للأموال إلى الخارج فقط. وهو الأمر الذي تتلطى وراءه أحزاب السلطة التي تزعم أنه أدى بدوره إلى عجز المؤسسات المصرفية، الرسمية وغيرها عن مواجهة الأزمة. وبدا للمتابع وكأن عودة تلك الأموال، التي سُميَّت بالأموال المنهوبة، ستحل المشكلة. ويحسب الكثيرون أنها ستنفرج بشكل أكبر بواسطة قروض البنك الدولي، وغيرها من المساعدات التي ستقدمها دول العالم كمنح إنسانية، أو قروض يتم تسديدها من دون فوائد، أو بفوائد رمزية.
ويوماً بعد يوم، بناء على شتى أنواع الاتهامات المتبادلة التي يتقاذف بها أحزاب السلطة الحاكمة، يتأكَّد أن تهريب الأموال هو الجزء الظاهر من الأزمة، بينما لم يدخل أي منها في البحث عن حقيقتها، لأنها تكشف الكثير من مفاسدهم وتواطؤهم على مصلحة اللبنانيين.
باستثناء الكشف عن الفساد الذي ينخر أجهزة الدولة من رأس هرمها إلى أخمص قدميها، نعتبر استعادة الأموال المنهوبة، والحصول على قروض أو هبات أو مساعدات، أنها حلول مؤقتة لن تجدي نفعاً إذا لم يتم الانتقال من منهج التبعية للرأسمالي الأجنبي إلى نظام الإنتاج وتراكم الثروة الوطنية، بل هي عبارة عن مسكنات تزول نتائجها بزوال تأثيرها المسكن المؤقت للألم.
إن الأموال المنهوبة، إذا استعيدت، ستحل مشكلة الذين نُهبت منهم، وهي لن تحل أزمات لبنان الاقتصادية والاجتماعية، ما لم يتم توظيفها توظيفاً إقتصادياً سليماً. وقروض البنك الدولي سيتم صرفها في أكثر من وجه استهلاكي، ومن بعد نفادها سيعيد النظام إنتاج المشكلة ذاتها، والوقوع في أزمات أشد. والدليل على ذلك، هي سياسات القروض السابقة، التي بدأت من سلسلة قروض (سيدر) وغيرها، وتمَّ هدرها تباعاً. وما إن يتم نهب قرض منها حتى يبادر النظام اللبناني إلى تقديم طلب آخر ليتم نهبه وهدره من جديد في غير موقعه. وهذا يدل على أن العديد من القروض لم تحل الأزمة الحقيقية التي يعاني منها لبنان. وأما السبب فلأنه لا فائدة لقروض وهبات ومساعدات إذا لم يتم توظيفها في عمليات إنتاجية تدر الأرباح. والأرباح التي تدرها عمليات التنمية هي الوحيدة التي تعمل على تراكم الاحتياط الوطني المالي، وهذا الاحتياط ضرورة وحاجة لتوظيفها في تأسيس مشاريع تنموية جديدة. وإن الدولة اللبنانية إذا وظَّفت كل عائدات القروض والمنح والمساعدات في مشاريع التنمية، فإنها بدلاً من أن تتبخر، فسوف ستحافظ على أصولها سليمة، وستتراكم الأصول من نتائج الأرباح التي ستجنيها من المشاريع السابقة ستقوم بتوظيفها في مشاريع تنمية جديدة، وهذا ما يعبر عنه مصطلح (التنمية المستدامة).
من هنا، كانت التنمية ركيزة للاقتصاد السليم. والاستهلاك فقط تهديم لأي بنية اقتصادية مهما بلغت أحجامها.
وإذا كان قد قيل الكثير الكثير عن وسائل الفساد في تدمير الاقتصاد، فإننا سنولي اهتمامنا في هذا المقال بالكلام عن أسس التنمية ونتائجها الإيجابية على بناء اقتصاد سليم يؤدي أغراضه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي بدورها تحمي اللبنانيين بشتى شرائحهم الاجتماعية من جهة، وتحول دون الوقوع في أزمات اقتصادية من جهة أخرى. تلك الأزمات التي إذا حصلت لسبب أو لآخر، فإنها لن تكون حادة وتضع الاقتصاد الوطني على حافة الانهيار الكارثي كما هو حاصل الآن.
ولأن الأزمة الاقتصادية الآن لم تكن نتائج المرحلة الراهنة، بل إن جذورها، تعود إلى مرحلة ما قبل الاستقلال، واستمرت إلى ما بعده. حينذاك، وانسجاماً مع المنهج الرأسمالي لفرنسا التي كانت منتدبة على لبنان بعد الحرب العالمية الأولى، تمَّ تأسيس نظام اقتصادي يستجيب لمصلحة الانتداب الفرنسي، كنظام رأسمالي يحتاج إلى طبقة تجارية وسيطة تكون بمثابة جسر لترويج المنتجات الصناعية الفرنسية أولاً، وللدول الرأسمالية الأخرى، وتصديرها إلى أسواق الاستهلاك في الدول النامية أو المتخلفة. تلك الطبقة التجارية الوسيطة، هي ما كانت تُعرف بـ(طبقة لكومبرادور).

تأصيل تاريخي للمنهج الاقتصادي السائد في لبنان:
طبقة الكومبرادور مصطلح سياسي يعني طبقة البورجوازية التي تتحالف مع رأس المال الأجنبي تحقيقاً لمصالحها وللاستيلاء على السوق الوطنية، والمصطلح المضاد للكومبرادور هي الوطنية والقومية. وهي الأفكار المعادية للأنظمة الرأسمالية العالمية، وأنشطتها المختلفة.
بدأ استخدام مصطلح (الكومبرادور) قبل وبعد استقلال لبنان في العام 1943، للتعبير عن الطبقة الاقتصادية اللبنانية، التي نشأت كطبقة ذات وظيفة تجارية، وكانت تلعب دور الوسيط بين سوق الإنتاج الغربي وسوق الاستهلاك في لبنان.
لم تكن تلك الطبقة ذات صبغة طائفية، بل كانت وظيفتها تجارية ينتسب إليها من كانت لديه الإمكانيات المالية والمؤهلات التجارية وفنونها. ولذلك كانت لاطائفيتها هي ما يميزها عن طبقة الإقطاع السياسي الحاكم، كأول طبقة تحاصصت السلطة السياسية فيما بينها على قاعدة 6 و6 مكرر، كتعبير عن رمز تساوي المقاعد السياسية بين المسلمين والمسيحيين.
على أساس وظيفة الطبقة التجارية الوسيطة، الملتحقة بأنموذج الاقتصاد الرأسمالي الغربي، أنشئت على هوامشها مؤسسات ذات علاقة بإدارة رؤوس الأموال، وهي المؤسسات المصرفية من بنوك ومحلات للصيرفة وشركات لنقل الأموال، التي تم توظيفها لتسهيل عمليات التبادل التجاري بين شركات التصنيع ومؤسسات التوزيع للاستهلاك. وغالباً ما كانت تلك الطبقة تشكل تأثيراً على المؤسسات السياسية للنظام اللبناني التي كانت تضع التشريعات والقوانين المناسبة التي تخدم هذا الأنموذج الاقتصادي.
في الوقت الذي شهدت التجارة والمؤسسات التي تقوم بخدمتها متغيرات تقنية في لبنان، كانت مناهج التنمية الاقتصادية، على الصعيدين الزراعي والصناعي، تشهد تخلفاً وإهمالاً لافتين، اللهم باستثناء ما يتعلق بمصالح طبقة الكومبرادور، التي كانت تهيمن على كل مفاصلها.

وأد أول تجربة للتنمية في العهد الشهابي:
عرف لبنان محطة تنموية واحدة يتيمة عُرفت بـ(التجربة الشهابية) في النصف الأول من الستينيات من القرن العشرين. وكانت تجربة واعدة لأنها انطلقت من بناء مؤسسات للدولة، خارج القيد الطائفي، لأن الوظائف كان يشغلها ذوو الكفاءة الذين ينجحون عبر مباريات يجريها (مجلس الخدمة المدنية). ولكن التجربة لم تعمِّر طويلاً، بل تمَّ وأدها تدريجياً إلى أن اكتمل الوأد بعد الحرب الأهلية في العام 1975.
مع الحرب الأهلية انقرض عصر الإقطاع التقليدي، الذي كان يقتات من مصادر أملاكه الواسعة. وكان البديل تأسيس النظام النيو ميليشياوي بعد اتفاق الطائف، الذي وجد مصلحته في استمرار نظام الكومبرادور، وزاد عليها الكثير من وسائل الفساد والسرقة في شتى مفاصل الدولة، خاصة الاقتصادية منها. وقد أدت عمليات الفساد إلى وضع تراكمي في ثروات أمراء الميليشيات من جهة، وجزء منها استخدموه كرشوات للأزلام والمحاسيب ليضمنوا تبعيتهم. وإذا كان قد اعتنى بجزء ضئيل من نظام الإنتاج فلأنما كانت نتائج ذلك الجزء تصب في مصلحة أمرائه، وتتم تحت إشرافه المباشر، وتعود عائداته لتكديس ثرواته. واستطراداً فقد شارك أمراء الميليشيات طبقة الكومبرادور بشتى مؤسساتهم التجارية والمصرفية، كما شاركوا حتى الطبقة الصناعية بجزء مهم من مشاريعهم الإنتاجية.
ولذلك، يُعتبر لبنان، منذ الاستقلال حتى اليوم، الأنموذج الاقتصادي المتوحش بسبب غياب أي تدخّل إيجابي للدولة في المصلحة العامة. وفيه تتم مصادرة القطاع الخاص لكل مرافق لبنان من جهة، والتدمير الممنهج للقطاعات المنتِجة بسبب حرية الاستيراد المطلقة بما يتناسب مع مصلحة الطبقة الحاكمة في لبنان من جهة أخرى. تلك الحرية التي تنتفع بإغراق السوق اللبنانية بالسلع المستوردة بحكم ارتباطها البنيوي بالشركات الإحتكارية الرأسمالية لأنها تدر عليها الأرباح الطائلة، بينما قطاعا الزراعة والصناعة لا يمكنهما أن يضمنا له حجم الأرباح ذاته، ناهيك عن أن العاملين فيهما سيضعف عندهم عامل التبعية لأمرء الطوائف بعد أن يتحرروا من طلب وظيفة منهم، أو كسب مساعدة مالية من هنا أو هناك.

ثقافة الطبقة الحاكمة الاقتصادية تحوَّلت إلى ثقافة استسلام شعبي:
إن الثقافة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للطبقة الحاكمة، الملتحقة بالخارج، هي الثقافة الاقتصادية الاحتكارية. وبدورها تسيطر ثقافة الطبقة الحاكمة على وعي الجماهير الكادحة عندما تغيّب وعيها الاجتماعي الطبقي بمفاهيم (طائفية، قَبَلية، أصولية، الخ) تارةً، وبثقافة الإستهلاك العشوائي تارة أخرى. وتوظف الطبقة الحاكمة من أجل الترويج لمناهجها، القوانين والتشريعات، ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة والمرهونة لرؤوس الأموال، وبالتالي موجَّهة مصلحياً لخدمة الطبقة الحاكمة، ولتضليل الطبقات الفقيرة التي يشتد عامل تبعيتها للطبقات الحاكمة بفعل أنهم حصروا التعيين بوظائف الدولة في أنفسهم، إضافة إلى مساعدات مالية تصرفها على جزء من حواضنها الشعبية على طريقة الميليشيات المسلحة. كما تسيطر الطبقة الحاكمة أيضاً من خلال فرضها على الجماهير الكادحة الإرتباط بها عن طريق مؤسساتها الاجتماعية ذات الطابع الطائفي.

الطبقة الحاكمة تتقن فن التجارة، والشعب يستسلم لاقتصاد الاستهلاك:
يتبيَّن من خلال المقدمات أعلاه، أن الاقتصاد اللبناني قائمٌ على الإستهلاك والخدمات لا على الإنتاج، وهذا الواقع يؤدي إلى إحداث فجوة كبيرة بين الواردات والصادرات مع تعاظم نسبة العجز التجاري، وفجوة بين الإستهلاك والإنتاج، وثغرات مختلفة على جميع المستويات في الاقتصاد.
فالنمو الاقتصادي، كما هو سائد الآن، لا يخلق المزيد من فرص العمل، ولكن بدلاً من ذلك يخلق المزيد من الإستهلاك. ولهذا تتراكم ثروات أمرائه، بينما تضيق سبل العيش أمام الشرائح الواسعة من جماهير الشعب، وهذا ما تدل عليه إحصاءات الحسابات المصرفية للعام 2012، التي أكدت أن حوالي 500 عائلة فقط في لبنان تملك 48% من إجمالي الودائع المصرفية. أي أنها تستأثر بنصف ثروات لبنان.
وإذا استمر الحال على هذا المنوال، وإذا استمرت الطبقة الحاكمة في تطبيق هذا المنهج، فلن يستطيع أن يخرج لبنان من أزمته. وهذا ما يحدو بنا إلى البحث عن أهمية التنمية بشتى أشكالها، البشرية والاقتصادية.

في تعريف التنمية:
1-مفهوم التنمية على الصعيد الوطني شمولية الأهداف:
التمنية عنصر أساسي للاستقرار والتطور الاجتماعي، وهي عملية تطور شامل أو جزئي مستمر، وتتخذ أشكالاً مختلفة تهدف إلى الرقي بالوضع الإنساني إلى الرفاه والإستقرار والتطور بما يتوافق مع احتياجاته وإمكانياته الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وتعتبر وسيلة الإنسان وغايته.
لذلك سيتناول هذا المقال أهمية التنمية الشاملة الثقافية الوطنية والقومية، والتنمية البشرية، والفكرية والسياسية والاجتماعية. وبكل ما له علاقة بتحويل الفرد من كونه مستهلكاً إلى فرد منتج في شتى الحقول. ولأن التنمية لو توقفت عند حدود الأهداف الاقتصادية فإنها سوف تتوقف عند مهمة نفعية، تستفيد منها قلة من أصحاب الرساميل فقط من دون أن تشمل إحداث التغيير في البنية الاجتماعية. ذلك التغيير الذي يعمل على الانتقال بالمجتمع من صفة المستهلك إلى صفة المنتج، ومن مصاف التخلف إلى مصاف التقدم. ولذلك يجب أن تؤخذ التنمية بمعناها الشامل والمستدام.
وأما التنمية الشاملة، فتُعنى بشؤون تنظيم المجتمع، تبتدئ من التنمية البشرية، أي بناء المواطن تربوياً وتعليمياً ومهنياً. وتمر عبر التنمية الاقتصادية زراعياً وصناعياً. وتصل إلى تأسيس البنى التحتية للخدمات وتكييفها لتتناسب دائماً مع حاجات المجتمع الوطني من جهة، وتسهم في خدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى. ولأن التنمية الشاملة توفِّر عوامل التنمية المستدامة فإنهما يتكاملان ويخدم أحدهما الآخر.
واستطراداً، نجد تكاملاً بين شتى أنواع التنمية. إذ أنه لا يمكن قيام تنمية اقتصاية في حقل الصناعة أو الزراعة أو التجارة من دون وجود خطط شاملة للتنمية، ومن أولوياتها العوامل التالية:
أ-التنمية البشرية وذلك بتخريج الاختصاصيين في الحقول الإنتاجية والعمال الفنيين لإنجاح العمل الصناعي والزراعي، وما يلحق بهما من مهندسين وإداريين وباحثين في شتى حقول الإنتاج، وهذا يتطلب وجود المدارس والمهنيات والجامعات التي من أهم وظائفها أن تردم الهوة بين حاجة المؤسسات الإنتاجية وطاقة المؤسسات التربوية على تخريج العدد الكافي لإدارة المؤسسات التنموية.
بـ-تنمية المرافق العامة وهي عبارة عن توفير شبكات الطرق ووسائل النقل العامة، والمياه للاستهلاك والري وبناء السدود واستصلاح الأراضي، وتعميم الكهرباء في جميع القرى والدساكر النائية، وطرق الوصول إلى المشروعات الزراعية والصناعية، وتسهيل نقل البضائع بين مصانع الإنتاج وأسواق الاستهلاك. وإذا كانت خطط المرافق العامة، بشكلها التقليدي، تقتصر على الخدمات العامة للمواطنين فإنها تكون معدة للاستهلاك الجماهيري فقط.
جـ-المشروعات الكبرى للتنمية الاقتصادية: إذا اعتبرنا أن أي تنمية، مما ذكرنا، تحتاج لتأسيسها إلى إمكانيات مالية، فستكون المشروعات التنموية الصناعية والزراعية من أهم مصادرها، إذا لم تكن الوحيدة التي تدر تلك الإمكانيات. وإذا اعتبرنا أن الرساميل الوطنية تشكل عاملاً أساسياً في تأسيس تلك المشروعات، ولأنها بحاجة إلى ضمانات تطمئنها، وبعد دراسة التجارب الاشتراكية في العالم، نرى أنها أكَّدت على ضرورة إشراك الرأسمالية الوطنية في المشروعات التنموية. ونتيجة لذلك أصبح مبدأ المشاركة بين القطاعين العام والخاص من المبادئ الاقتصادية الرائجة في أنظمة الدول الحديثة. وتلك الشراكة تقوم على مبدأ الاعتراف بالملكية الخاصة، على شرط أن تضبطها معايير المصلحة الوطنية.
د-تحويل المجتمع إلى مجتمع تنموي: إذا كانت للتنمية ثقافتها الاجتماعية بحيث تصبح منهجاً اجتماعياً، يلعب فيه المجتمع دوراً أساسياً، فنحسب أن لكل فرد في المجتمع دوراً يمكنه أن يلعبه.
وهنا، وبالإضافة إلى رفد المشروعات الكبرى بالعمالة المهنية المتخصصة، فإن للفرد دوره في إنشاء المشاريع الفردية، أي المشروعات التي يقوم بتنفيذها أفراد أو عائلات وذلك بإنشاء مشاريع صغيرة لإنتاج السلع، صناعياً وزراعياً، والتي لا تحتاج إلى رساميل كبيرة. وعن ذلك، ستلعب الدولة دوراً في هذا الحقل، إذ يقع على عاتقها تشجيع تلك المبادرات وتوفير تمويلها بفوائد بسيطة. واستكمالاً لها تقوم الدولة بتشجيع إنشاء التعاونيات التي تجمع إنتاج المشاريع التنموية الصغرى، وتعمل على تسويقه وحمايته.
وبالإجمال، كلما كانت التنمية أكثر اقتراباً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً من قضايا الجماهير، كلما حازت على ثقة الشعب، وتصبح عائداتها لا تصب في مصلحة تراكم الأرباح للرساميل الوطنية فحسب، بل أيضاً سيتم توظيفها لمصلحة تنمية المجتمع بالتدريج التصاعدي.

2-التنمية الوطنية ذات أبعاد قومية:
ولأن لكل قطر عربي له خصائصه الاقتصادية، فإن التنمية على صعيد كل قطر يجب أن تأخذ بعين الاعتبار تكامل العوامل الاقتصادية بين جميع الأقطار. بحيث يختص كل قطر منها في جانب إنتاجي يتوافق مع العوامل التي تميزه عن غيره من الأقطار الأخرى، وهذا ما يوفر لكل قطر أسواقاً استهلاكية واسعة، الأمر الذي يعمل على تراكم الدخل القطري، الذي سيتم توظيفه في توسيع دائرة توفير الحياة الكريمة لكل أفراد الشعب فيه. وهنا، يصبح من حق الشعب العربي، وواجب على الحكومات الرسمية، أن تأخذ التنمية أوسع مجالاتها في القطر الواحد، على أن تكون خططها ذات أبعاد وأعماق قومية.
تكامل العوامل والأدوار في إنجاح التنمية الوطنية:
التنمية منهج لحياة المجتمعات الحديثة، وهذا يتطلب تعميم ثقافة التنمية على شتى المستويات، الرسمية والشعبية. ويأتي في المقدمة منها توضيح دور كل من الدولة والمجتمع والرأسمالية الوطنية.
1-دور الدولة:
ولأن الدولة قائدة للمجتمع، والمخطط لبناء دولة حديثة، والتي عليها أن تهتم بشؤون المجتمع وتحسين أوضاعه نحو الأفضل، يتوجَّب في سبيل ذلك أن تضع خططها التنموية على دورات زمنية. ولأنه لا خطط قابلة للتنفيذ من دون غطاء مالي، على الدولة أن تخصص في ميزانيتها السنوية اقتطاع جزء منها للمشروعات التنموية. وتعتبر هذا الواجب له أولوية على الكثير من أوجه الإنفاق.
وعادة من يضع تلك العوائق والعراقيل هم أصحاب الرساميل الوطنية المرتبطين بحركة التجارة العالمية. ويشكلون الخطورة الأكبر إذا كانوا أعضاء في السلطتين التشريعية والتنفيذية. وتأتي هذه الخطورة من عرقلتها مشاريع القوانين الخاصة بالتنمية. وإذا أُقرَّت، فيُخشى عليها من عوائق التنفيذ في السلطة التنفيذية.
2-دور المجتمع:
ولأنه لا تنمية من دون وعي جماهيري بأهميتها، تصبح (ثقافة التنمية) عاملاً أساسياً من عوامل نجاحها. ولهذا يترتب على الدولة أن تلحظ في إعلامها الموجَّه للشعب، وفي مخططاتها التربوية على شتى مراحل التربية والتعليم، مادة تُعنى بـ(ثقافة التنمية). نعتبر أن توجيه الإعلام التنموي يجب أن يتركَّز على الشرائح الشعبية الواسعة لعدة أسباب، ومنها: استقطاب اليد العاملة، والترويج للسلعة الوطنية، وتوجيه الطلبة للالتحاق بالمعاهد الفنية.
ولأن التنمية الحديثة تحتاج إلى اختصاصيين وعمال مهرة، وهؤلاء لا بُدَّ من أن يكونوا خريجي الجامعات والمعاهد العلمية والمهنية. يجب على إداراتها أن تكون على دراية بحاجة الدولة لشتى الاختصاصات المهنية، والتي بناء عليها يمكن توجيه طلابها للتخصص في الميادين المطلوبة، وبذلك تتوازن ثنائية العلاقة بين العرض والطلب.
جـ-التنمية منهج لتجفيف ثقافة التبعية لأحزاب السلطة:
بالإضافة إلى عامل تبعية أمراء السلطة الحاكمة للخارج في نظام لبنان الطائفي السياسي، للأسباب التي عالجتها الكثير من الأبحاث، حصر منهج تبعية الاقتصاد للخارج، وظيفة السياسيين في لبنان بتنمية ثرواتهم. ولذلك تحوَّل النظام الاقتصادي في لبنان إلى اقتصاد تقديم الخدمات، وتعزيز أسواق الاستهلاك. وبالتالي فرض نظاماً إجتماعياً فريداً من نوعه، هو (نظام تبعية الشعب لأمراء الطوائف). فأصبح مصطلح (التبعية) سائداً في الثقافة الشعبية. وعلى قاعدة تقليد (المراجع الدينية)، كذلك تحوَّل معظم اللبنانيين إلى تقليد (المراجع الطائفية السياسية)، إذ أصبح معظم اللبنانيين ممن لا يستطيعوا أن يروا طائفتهم من دون أمير سياسي.
ثقافة التبعية ذات تراتبية هرمية على الشكل التالي: تبعية حكام لبنان لمنهج عولمة ثقافة الرأسمالية، وتبعية المجتمع اللبناني لمنهج تطييف المجتمع. فعلاقة التابع للمتبوع، علاقة عبودية واستعباد. فالرأسمالية لا يمكنها أن تجد تابعين لها في الدول التي تعتمد نظام التنمية الاقتصادية. والطبقة الوسيطة في لبنان لا يمكنها أن تجد تابعين لها في نظام اقتصادي تنموي.
إن منهج العولمة يعمل على إعاقة التنمية في الدول الأخرى حتى لا تخسر الأسواق، ولهذا سوف يتمسك باستمرار طبقة الكومبرادور في تلك الدول. ومنهج النظام الطائفي السياسي في لبنان يتمسك بقواعد اقتصاد الاستهلاك، ويكافح اقتصاد الإنتاج حتى لا تتأثر أرباحه من جهة، ولأن اقتصاد الإنتاج تعطي المواطن صفة الاستقلالية عن الخدمات التي يوفرها الأمراء الطائفيون من جهة أخرى.
3-دور الرأسمالية الوطنية:
ولأنه في الدول النامية تلعب الرأسمالية الوطنية دوراً سلبياً أو دوراً إيجابياً تبعاً لمصالحها، يمكن للدولة أن تُشرك الرأسمالية الوطنية في مشروعات التنمية، وعادة ما يُطلق علىها اسم (الشراكة بين القطاعين العام والخاص). بما في هذا المنهج من تطمين لأصحاب تلك الرساميل. وهذا ما يضمن إشرافهم على حسن إدارتها لتجاوز الروتين في القطاع العام، وبالطبع سيكونون حريصين على ضمان الربح تحصيناً لرساميلهم التي وظَّفوها. وإنه بالقدر الذي يحصلون فيها الأرباح، سيطمئنون على رساميلهم، وسينخرطون أكثر في مشروعات التنمية الوطنية.
خلاصة القول
إذا كانت ثورة 17 تشرين الأول 2019، قد حددت أهدافها. وإذا كانت أهداف المبادرة الدولية الممثلة بـ(المبادرة الفرنسية)، سواءٌ أنجحت أم أخفقت، تتماثل مع أهداف ثورة تشرين. فإن الأهداف قد اكتسبت مشروعيتها الشعبية والدولية. فلا خوف على تلك الأهداف طالما الحركة التي فرضتها ستبقى مستمرة، لأكثر من سبب وسبب، ولأكثر من عامل وعامل.
وإذا كان معالجة الأزمة السياسية قد أصبحت خارطة طريقها تمر بهدف إلغاء النظام الطائفي السياسي حتى ولو استهلك التغيير الكثير من الوقت. فإن معالجة الأزمة الاقتصادية لن يُكتب لها النجاح إلاَّ إذا أصبح المنهج التنموي على قواعد (التنمية الشاملة والمستدامة) مطلباً جذرياً وليس إصلاحياً.
لكل تلك الأسباب، على كل القوى والتجمعات والشخصيات الوطنية، التي تلحُّ على القيام بإصلاحات تقي الشعب اللبناني من غائلة الجوع، وتقيه من خطورة غيلان الفساد، وإقفال كل بوابات الهدر، أن تضع نصب أعينها الاستمرار بالمطالبة بتغيير جذري في بنية الاقتصاد اللبناني، والانتقال به من اقتصاد الاستهلاك والخدمات إلى اقتصاد التنمية والإنتاج.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.