الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-التأسلم- و -المتأسلمون-

راشد عبد الحق

2021 / 5 / 5
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


منذ أن هيمنت الأحزاب الإسلامية على الحكم في العراق عام 2003، وربما حتى قبل هذا التاريخ، كثر في الأدب السياسي والثقافي والشعبي العراقي، وخصوصا المدني والعلماني والديمقراطي منه، استخدام أوصاف مثل "التدين الزائف" أو "التأسلم" لوصف ممارسات وأفعال المتدينين بدين الإسلام من الفاسدين واللصوص والقتلة، سواء كانوا من رجال دين أو تابعين لجماعات وأحزاب إسلامية على شتى مذاهبها واتجاهاتها. وفي كثير من الأحيان يتم وصف الأحزاب الإسلامية المهيمنة على الحكم في العراق بالأحزاب "الإسلاموية" في حين يتم وصف أقطاب ورموز تلك الأحزاب بـ "المتأسلمين"، ووصف تدينهم بالتدين الزائف والكاذب.
وكما هو واضح، فإن القصد الأساسي من اعتماد مثل هذه النعوت والأوصاف هو تبرئة دين الإسلام من الأفعال الخسيسة والدنيئة بكل المعايير البشرية، من فساد ونهب وتخريب وقتل، والتي يرتكبها "المتأسلمون"، وربط تلك الأفعال وحصرها جميعها بما يتنافى مع تعاليم ونصوص دين الإسلام ومع ما جاء به السلف الصالح من سيرة زاهية.
وثمة افتراضين ضمنيين متلازمين يفترضها على ما يبدو أصحاب هذه الاتهامات وتنطوي عليها تلك الأوصاف:
الأول، هو أن المتأسلمين أناس كذابون ودجالون ومنافقون، يستغلون دين الإسلام وسماحته أبشع استغلال وبأساليب خبيثة ودنيئة، ويستخدمونه كذريعة واهية وزائفة، ليس فقط لتحقيق المآرب والمصالح الشخصية والحزبية وتنفيذ المخططات المشبوهة، بل وأيضا من أجل التكسب والنهب والسرقة والإجرام، إلى جانب إشاعة الجهل والخرافة بين عامة الجماهير لحرمانها من المطالبة بحقوقها المشروعة.
الافتراض الثاني، هو أن دين الإسلام، بكتابه ونبيه وأئمته وشريعته وتراثه وتاريخه وطقوسه وتعاليمه، دين سمح جاء بمكارم الأخلاق ويتنافى تماما مع أخلاق وممارسات أولئك اللصوص والفاسدين من "المتأسلمين"، ويحارب بشدة أولئك "المنافقين" المتخذين من هذا الدين ومن الدعوة إلى نشره وسيلة لممارسة أفعالهم الدنيئة. إذ أن دين الإسلام، حسب هذا الافتراض، يحرم بشكل قاطع وصريح وبنصوص واضحة كل ممارسات النفاق والفساد والسرقة والقتل، وأنكرها بالنسبة له تلك المرتكبة باسمه. كما أن الأمثلة التي ضربها السلف الصالح، المحاط دوما بهالة من أساطير وخرافات متخيلة وعجيبة وغريبة يكذبها العقل الناصح والتاريخ العلمي، في التضحية والإيثار والإخلاص والأمانة والنزاهة والزهد، ما هي إلا دليل قاطع على سمو ورفعة وصلاح هذا الدين وتعاليمه ورسالته وعلى محاربته للفساد والسرقة والتعدي على حقوق الآخرين.
وبناء على ذلك، فإن من يعتمد ما يتنافى مع تعاليم الإسلام تلك ويرتكب جرائم الفساد والقتل وخيانة الشعب والوطن، هم بالضرورة وبالنتيجة غير مسلمين بل هم أبعد ما يكون عن دين الإسلام السمح الذي يدعو إلى الصدق والأمانة والمعاملة الحسنة القائمة على الأخوة بين المسلمين. وتبعا لذلك، إن طبقة رجال الدين والأحزاب الإسلامية، المسؤولة بشكل مباشر عما آل إليه العراق من انحطاط، لا علاقة لها بدين الإسلام الصحيح وبتعاليمه النبيلة التي تحارب الفساد والنفاق، بل هي تستغل الدين بشكل يسيء إليه ويشوه سمعته النزيهة.
لكن ثمة مفارقة محيرة في أمر تلك الاوصاف التي تكيل الاتهام إلى رجال الدين والأحزاب والميليشيات (الرسمية وغير الرسمية بضمنها داعش) وتنعتها بأوصاف "التدين الزائف" و "التأسلم" و "استغلال الدين" والابتعاد عن تعاليمه. فهي غالبا ما تصدر عن غير المتدينين بل وحتى عن الملحدين، الذين هم بطبيعة الحال أبعد ما يكون عن فهم ودراسة نصوص وتعاليم الدين الإسلامي. مقابل ذلك، توجه تلك الأوصاف والاتهامات إلى من هم أقرب إلى فهم نصوص وتعاليم الدين عبر معرفة ودراسة فقهه وشريعته والالتزام بها. فمن الطبيعي أن يكون رجل الدين أو القائد في حزب إسلامي أو حتى المنتمي لهذا الحزب على قدر أكبر من المعرفة والعلم بفقه أصول الدين وبتفسير نصوصه وشرح تعاليمه وطقوسه مع الالتزام بها، مما لدى المدني العلماني المتحرر الذي يرى في هيمنة الأحزاب الإسلامية السبب وراء تفشي الفساد.
بتعبير آخر، إن من يوجه اتهامات الابتعاد عن الدين و "التأسلم" و "التدين الكاذب" إلى الأحزاب والمجموعات الإسلامية وإلى عموم المنتمين إليها هم في الأعم الأغلب من غير المتفقهين أو المتبحرين أو حتى الدارسين أو المفسرين لدين الإسلام، ناهيك عن كونهم بعيدين عن الالتزام بتعاليم وطقوس الدين الإسلامي. لكنهم، رغم ذلك، لا يتورعون عن اتهام من هم أقرب إلى دين الإسلام من علماء ومتفقهين ودارسين وفاهمين للنصوص والتفاسير والشريعة وملتزمين بطقوس وعبادات الإسلام، بالابتعاد عن دين الإسلام وتشويهه. هم بذلك أشبه بذلك المتدين أو الإسلامي الذي يتهم شيوعيا بتحريف النظرية الماركسية، التي لا يعرف هو شيئا عنها، وينعته بـ "المتمركس".
أرى إن هذه المفارقة تنبع أولا من التردد والخوف السائد لدى عموم منتقدي الإسلام السياسي ومتهمي الأحزاب الإسلامية بـ "التأسلم" من قول الحقيقة الساطعة عن طبيعة دين الإسلام ومن تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية واللجوء بدلا من ذلك إلى التورية والعمومية ومسك العصا في الوسط إزاء كل ما يتعلق بدين الإسلام، حتى وإن كان ذلك على حساب قول الحقيقة. كما تنبع تلك المفارقة، ثانيا، من جهل يكاد يكون مطبقا عند مطلقي تهم "التأسلم" و "التدين الزائف" على الإسلاميين بدين الإسلام نفسه وبنصوصه وشريعته وحتى بطقوسه. فلو عرفوا حقيقة هذا الدين عن كثب لربما كفوا عن توجيه تهم "التأسلم" للإسلاميين وعرفوا إن "المتأسلمين" هم الأقرب إلى دين الإسلام منهم وأكثر فهما منهم إلى نصوصه وأحكامه.
وبقدر ما يتعلق الأمر بالخوف من قول الحقيقة بشأن ما يتعلق بدين الإسلام وتوخي بقدر الإمكان الاتهام بالإساءة إلى الدين وازدرائه، يجب الاعتراف بأنه خوف مبرر (وأنا لا استثني نفسي من هذا الخوف). وبقدر ما يحكي هذا الخوف عن حقيقة سطوة دين الإسلام واحتكاره للحقيقة وقمع كل من يعارضه بحجة الردة أو ازدراء ٍالدين، فإنه يحكي أيضا عن غياب نقد الدين، كشرط أساسي لوقف انهيار المجتمع والنهوض به، من مهمات الغالبية العظمى من منتقدي الأحزاب والميليشيات الإسلامية.
على هؤلاء المنتقدين أولا وقبل كل شيء أن يفهموا حقيقة وطبيعة الدين الإسلامي قبل أن يوجهوا تلك الاتهامات الفارغة التي لا تعني شيئا بل وتؤدي إلى تغييب وتمييع الحقيقة. فقط عندما يتفقه هؤلاء، ولو بعض الشيء، بدين الإسلام ونصوصه وتعاليمه سيدركون ما إذا كانت الأحزاب والميليشيات الإسلاميةٍ ومعها طبقة رجال الدين مسلمة حقا أم أنها فقط "متأسلمة".
أخيرا، ردد العراقيون في السنوات الماضية ولا زالوا يرددون هتافا يقول "باسم الدين باقونا (سرقونا) الحرامية (اللصوص)". قد لا تكمن المشكلة الحقيقة فقط في الحرامية. فهؤلاء موجودون ومنتشرون في كل زمان ومكان. ربما تكمن في الدين الذي سمح ويسمح للصوص والحرامية بأن يسرقوا وينهبوا ويقتلوا باسمه. ربما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجناح العسكري لحركة حماس يواصل التصعيد ضد الأردن


.. وزير الدفاع الروسي يتوعد بضرب إمدادات الأسلحة الغربية في أوك




.. انتشال جثث 35 شهيدا من المقبرة الجماعية بمستشفى ناصر في خان


.. أثناء زيارته لـ-غازي عنتاب-.. استقبال رئيس ألمانيا بأعلام فل




.. تفاصيل مبادرة بالجنوب السوري لتطبيق القرار رقم 2254