الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


والدي العاقر

آرام كربيت

2021 / 5 / 6
الادب والفن


عندما كانت الأشجار أشجار والسماء سماء، كان النهر صديق الأرض، والضفاف تعانق الغيوم. والناس أولاد الطبيعة يتعاملون معها كالند، يأخذون منها ويعطون يد بيد وروح بروح.
قلت له:
أنت إنسان قلق يا أبي؟
ـ ماذا تقصد؟
اقصد أنت قلق جدًا. لا تأبه أن تعترف. تريد أن تأبد نفسك، أن تمسك الحياة بكلتا يديك. أليس للشهوة حدود لديك؟ تبدو من الخارج إنسانًا رزينًا هادئًا، بيد أن أعماقك مملوءة بالرغبات. ليس في ذاتك محطة واحدة تقف عندها أو أمامها لتنظر إلى الشمس وجمالها. الشهوات أعمت عينيك. أليس في ذاتك وفاء لأمي، لترابها الحزين. إنه ينتظرك أن تزوره، أن تذرف دمعة واحدة بالقرب منها، ترطب خاطرها أو توشوش في أذنها، تدفعها على تحمل الوحدة والغربة. قلبك يا والدي مثل صحراء قاحلة لا مكان فيه للحب والوفاء. أنت ميت يا أبي. غريزي.
ـ غريزي؟
ـ الغرائز آنية، ما أن تنتهي منها حتى تتنكر لك وتتنكر لها. تعود إلى لا شيء، إلى كونك عبث، فراغ من الفراغات. الغريزة عندما تنتهي من أداء وظيفتها تتناساك. تعود إلى أصلها وتعود أنت إلى أصلك. ولإنك بلا أصل فأنت إنسان هلامي لا تعرف ماذا يعني الحب والوفاء.
ـ الوفاء للحياة يا ولدي. أزورها كل يوم في أعماق قلبي.
ـ هذا ليس صحيحًا، أنه هروب من مواجهة الواقع. أذهب إلى قبرها مرة كل سنة، أشعل شمعة، أزرع وردة أو أجلس عند رأسها أو صلي من أجل أن تبقى عيناها رطبة. دموعك فيها روح الحياة والجمال. إنها محتاجة لك في قبرها، في غربتها. إنها تناديك كل يوم يا حاحظ القلب. عقود بينكما من العشرة والحياة اليومية والصراع من أجل الحياة واستمرارها، يبدو أنها لم تعلمك شيئًا. هل كنت في الحياة؟ هل كنت معها؟ هل أنجبت أطفالًا منها؟ هل الحب عاقر إلى هذه الدرجة، أنها لا تمنح الإنسان متعة البقاء؟ من أنت يا أبي؟ هل أنت والدي، ولدي أم؟ من أنا ومن أنت؟
ـ لا أستطيع الاقترب من قبرها. الحزن يأكلني. وفاءها لي ينهض في وجهي ويعيدني إلى ذكرياتنا. إلى الحب الأول. ـ كنت فقيرًا عندما تزوجتها، أليس كذلك؟ وحرمتها من نفسها وأهلها؟ ومضيت تتمتع بها كأنها جارية بين يديك، سبية. شعرت بأنك فحل يستطيع اختراق الزمن بها؟
ـ لا تقس علي يا ولدي. الزمن قاس علي منذ أن ولدت. وعشت فقيرًا، معدمًا. خطفتها وسرنا معًا، ذهبنا إلى حيث تذهب الحياة. كانت صغيرة في السن، في السابعة عشرة من العمر. تركتها عند والديّ وسافرت إلى منطقة بعيدة من أجل تأمين لقمة العيش. لم أستطع أرسال المال لها لتأكل منه. ولم ترتدي ثياب نظيفة لعدم وجود مواد منظفة، وثيابها التي ترتديها يوميًا مجرد أسمال ممزقة في أكثر من مكان. والضيعة صغيرة بضعة بيوت ناسها كائنات متوحشة لا تعرف المحبة. لم يقدم لها الناس المساعدة من أجل ستر صدرها العاري.
ـ كانت عارية بسببك. كانوا يكرهونك لأنك مغرور بنفسك ومتعالي عليهم. لقد عاقبوها بسببك. ليسوا متوحشين. غرورك حرمها من الحب والعطف والتعاضد.
ـ ربما. تذهب كل صباح إلى النهر الصغير وتجلس بالقرب منّه، تبكي وتندب حظها في الحياة. وجهها تشقق من أملاح الدموع وهي في ريعان الشباب. حرمتنا الحياة من بعضنا.
ـ لا اعتقد أنك تعرف الحب حتى تحرم منه. بالتأكيد ندمت لأنها هربت معك وسببت لأبويها العار ولم يعد في استطاعتها أن تعيد الزمن إلى الوراء. اكتشفت فيك ذلك الكائن الغريزي المتوحش.
ـ هذا صحيح. لم يكن الذنب ذنبي لكني لست متوحشًا.
ـ ذنب من؟ هذه عادتك تتنصل من المسؤولية. الشهوة اعمتك يا أبي. تريد أن تتملكها، تملكتها. فهي مكسورة، ملامة، ومهزومة من الداخل وهذا يسعدك ويملأ حياتك بالفرح والحبور، لأنها مجرد إنسانة وحيدة لا حماية لها ولا أهل لها ولا ناس يحمونها في مكان ناء وغريب. لم يكن هناك زاد لتأكل.
ـ إنه زمن الجوع. القحط ملأ السماء والأرض، لم تمطر السماء، ولم ينبت الزرع والضرع. والحياة متطلبة، والناس يبحثون عن الزاد لأنفسهم وأولادهم، والعلف لمواشيهم. وهؤلاء الجياع منقسمون على بعضهم لا يطيقون العيش معًا.
نحن الأن عراة بسببك، دون رداء نجفف عليه الخيبات التي نسجتها لنا. أذهب! لا بارك الله بك.
منذ أن قال المسيح جملته الشهيرة: يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ, ماذا تغير؟
وما زال أولئك الذي لا يعلمون لا يعلمون. وما زالوا محرقة يصعد على أكتافهم كل قذر وعاجز وضعيف يسوي وضعه على حساب مصائرهم.
إلى متى سيبقون لا يعلمون؟
عندما سألتها:
ـ لماذا ذهبت مع أبي؟
لم تجب. كانت تنظر إلى عيني والدمع ينهمر من عينيها ويسيل على خديها إلى أن وصل إلى منتصف صدرها.
ـ كنت صغيرة يا ولدي. لم أتعلم فك الحرف، ولم أذهب إلى المدرسة. عمياء. غشيمة. والدك إنسان طيب القلب. إنه فقير هذا كل ما في الحكاية.
ـ أليس الفقر عيبًا؟ لم اخترت هذا الطريق الموحش؟ لماذا مضيت بعيدًا.
ـ ماذا تقصد؟؟
ـ لماذا رحلت إلى كل الأزمنة، وإلى لا زمن؟
ـ يا ولدي أنا إنسانة أمية، جاهلة، لا أعرف الكتابة والقراءة. في زمننا كل شيء كان متداخلًا في بعضه، ولا متداخل.
قلت في نفسي:
ـ إنها أمي.
ـ لقد شدوا شعرها. ضربها جدك وجدتك، مزقوا ثيابها. كانت حامل بك، لم يكن هناك حليب أو خبز لتأكل وتطعمك.
ـ مع هذا لا تقبل أن تزورها مرة واحدة. إنها تناديك، إنها في غربتها غريبة تبكي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/