الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في رثاء -أبو مشرق-

فلاح علوان

2021 / 5 / 7
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها


رحل مجيد حسين "عاتي" والمعروف بـ أبو مشرق وهو من القلائل، أو الأحرى، من أواخر من تبقى من المشاركين في إنتفاضة فلاحي آل أزيرج 1952 في ريف العمارة، رغم إنه ينحدر من عشيرة اخرى، الّا أنه كان فلاحاً في المنطقة. لقد تأخرت في الكتابة لإضطراري الى الإبتعاد عن الكومبيوتر لفترة، لمشاكل صحية في العين.
كان أبو مشرق شيوعياً منذ شبابه وحتى رحيله. وقد مر برحلة شاقة مع التنظيمات الشيوعية، وهي قصة الشيوعيين المناضلين الذين أفنوا عقوداً من عمرهم في النضال أو وراء القضبان، أو مطاردين، وهم في الوقت نفسه يعيشون غرباء في أحزابهم، يصارعون القيادات التي تنتهج سياسات بعيدة عن الإشتراكية التي يفنون أعمارهم في سبيلها.
التقيته للمرة الأخيرة عام 2010 في مناسبة الأول من أيار، سلم علي بإحترام ولكن بلا بهجة أو سرور، كان مغتماً ومحبطاً، من الواضح إن فقدان ولده الأصغر محمد "حمودي" كان وراء حزنه، ولكنه كان محبطاً منذ سنوات، وقد بدا الإحباط واضحاً عليه منذ العام 2003، بُعَيْد قدوم "القيادة" المهاجرة.
قصدت داره في منطقة "الاولى" نهاية صيف عام 2012 لأدعوه للمشاركة في ندوة أقمناها إحياءاً للذكرى الـ 60 لإنتفاضة فلاحي آل إزيرج. وقد أخبرني بائع شاي قديم في ركن زقاقهم، بأنهم قد إنتقلوا الى منطقة الأورفه لي، وقال إنه لا يعرف عنوانه الجديد ولا رقم تلفونه.
وفي المقال الذي كتبته عن المناسبة والمنشور على صفحة الحوار بالرابط:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=318852
أشرت الى دوره واستندت الى العديد من التفاصيل التي قدمها، ولكن للأسف لم تسنح الفرصة لإشراكه في الندوة التي اقيمت يومها. وقد إنتقدنا البعض معتبراً الموضوع من الماضي ولا أثر له، ولكن المغزى من وراء الفعالية، كان للتأكيد على إن تاريخ جنوب العراق هو تاريخ صراع طبقي، وليس تاريخ مذهبي كما تروج السلطة وبعض أحزاب السلطة.
تحدث لي أحد الأعضاء السابقين في "القيادة المركزية" وهي الجناح المسلح في الحزب الشيوعي العراقي، عن دور مجيد حسين " عاتي" في الإنتفاضة الفلاحية مردداً أهزوجة " ظل عتيوي ناطور الحد" والتي تعني إن عاتي بقي على الحد دون أن ينسحب بعد هجوم الجيش على الفلاحين بقيادة " عزرا وردة". ولم يكن المتحدث ودياً جداً تجاه دور "عاتي"، وتبينت فيما بعد إن المناضل حين ينكسر أمام الطغاة، لا يحيي الآخرون صموده وتضحيته، بل إنه لا ينجو من السخرية والنيل من المكانة، وهذه مسألة سيكولوجية معقدة بحاجة الى التوقف عندها وشرحها شرحاً متخصصاً، لأنها تشكل إحدى أركان تأثيرات الإنتهازية داخل الناس البسطاء.
إنتمى مجيد حسين الى الحزب الشيوعي العمالي العراقي عام 1999 هو وزوجته، بعد أن كان متابعاً لإذاعة الحزب وتبليغاته. وفي الحقيقة كان هو من يبحث عن الحزب للإنخراط في صفوفه، ولم يرتبط بتأثير مباشر من أحد، بل قام أحد جيرانه، وهو عامل تقدمي يعمل نقاشاً، وكنا نعمل سوية، بتعريفنا ببعض.
كان أبو مشرق يطلب مني في عدة مناسبات إيصاله أو ربطه بالتنظيمات، وحين كنت أخبره بأننا نتبع قواعد التنظيم المنفصل، كان أحياناً يحتد ويقول " قابل بس أنت هنا بالتنظيم" والتي تعني هل أنت الوحيد هنا. وحيث إني كنت حريصاً على "سمعة" الحزب و"القيادة"، فلم يكن من الممكن إخباره بأن القيادة قد هاجرت بالكامل وتركت الموجودين في الداخل لمصيرهم، ودون أن تعرف – القيادة- إن العديد من الناس بسبيل التنظيم والإنخراط في الحزب.
ولن أنسى وصفه البليغ واليائس في إحدى المناسبات، حين كنا في بيته، حيث قال لي " إذا انت انلزمت ورحت" أبقى أنا مثل "تايهة اباعر" وضحك بغير سرور بل بشيء من التشاؤم. كان وصفاً موحشاً بالفعل، عكس الوحشة التي تركت القيادة فيها الأعضاء، وهم بسبيل البناء وسافرت. لقد تصور هو إنه سيبقى وحيداً منقطعاً بلا رابط، لو القي القبض عليّ، حيث لم يكن يعرف إن "القيادة" لا تعرف من هو العضو ومن يريد العمل، المهم إنها قيادة "ثابتة".
"تايهة اباعر"؛ تصور أن يتيه البعير وحيداً في الصحراء، فلن يواجه الغربة والوحدة والضياع فقط، بل خطر الموت وحيداً. ولم يكن أمامي سوى الأعذار للحزب وللقيادة، ليس أمام " أبو مشرق" فقط، بل مع لجنة منطقة " الشركة" كذلك، حيث أمضينا سنوات نتحاور بيننا دون ورود جملة أو تصريح أو توجيه من القيادة بخصوصنا. وكان ينتهي الى حوار حاد ويائس مع الكوادر، ودفاع عقيم من جانبي عن الحزب و"قيادته". نفس هذا اليأس والإحباط هو ما قاد " أزهر" وهو الإسم الحركي لمسؤول مجموعة البصرة الذي جاء الى مقر الحزب بعد الإحتلال عام 2003 ليجد المقر مكتضاً فقال " أين كان كل هؤلاء القادة حين تعرضنا للاعتقال عام 2002، وترك المكان وعاد الى البصرة، ولم يشاهده أحد من يومها. وقد كان لموقفه ما يبرره، حيث تعرضت إحدى المجاميع في البصرة الى الإعتقال أواسط عام 2002، إثر تبليغ وتحريض متهور من قبل أحد الإعضاء العسكريين داخل وحدته العسكرية، فكان إن اعتقل 7 أعضاء، وتشرد باقي الأعضاء في القرى والمحافظات خشيه إتساع الضربة، وقد تم إطلاق سراح المعتقلين في العفو العام في تشرين 2002، في حين توفي أحدهم عقب خروجه مباشرة، وقد إتهم الباقون السلطة بحقنه بمادة سامة. وحين كنت أروي القصة لـ " الليدر" أي القائد، في أول أيام قدومه الى بغداد 2003 كـ "فاتح" كما كانت تروج مجموعته، كان يتجاهل كلامي وينظر الى جهة شارع ابي نؤاس، ولكن حتى تلك الممارسة فسرتها على إنه هو المحق ونحن المقصرون، إذ تخيلت، لفرط تشبيهه بالفاتح والقائد، إنه كان مشغولاً بأمور أهم من تنظيمات الوسط والجنوب، وإنه كان يستعد لإستلام السلطة كما كانت القيادة المنفصلة عن الواقع تروج. وتخيلت ساعتها إني كنت أشغل "القائد" عن مهام مصيرية.
كنا نعتقد إن ذلك كان تقصيراً أو خللاً يتطلب الإصلاح، ولكن تبين فيما بعد إنها كانت سياسة، أي النظر الى ما كان يعرف بـتنظيمات الوسط والجنوب، على إنها أمر ثانوي أو هامشي، وبالتالي عدم الإعتراف بما موجود. وكانت تلك السياسة قائمة على وهم خطير، هو خليط من سياسة برجوازية صغيرة، وقومية متخفية، وسكتارستية مقصودة، وهي التي تسببت بالعقم اللاحق للحزب، ثم إنتهائه الى ما هو عليه اليوم.
لنتصور، كان لدينا مشاكل تنظيمية داخلية، في حين لم تكن القيادة تعرف إن هناك تنظيمات أصلاً، كان لدينا لجنتين في " الثورة" عدا عن اللجنة القديمة التي لم يبق منها سوى ثلاثة، أحدهم إنتقل الى السكن في الحسينية ثم هاجر، والثاني قتل في حادث غادر إثر شجار، بعد بضعة أشهر من تخرجه بدرجة ماجستير في اللغة العربية، وبقي الثالث معزولاً بلا إرتباط مع لجنة أو تنظيم. وهذه التنظيمات هي ما ستقوم القيادة بالغائها بجرة قلم عام 2003 ليؤسسوا لجنة وهمية مكانها المقر فقط، وصلتها مع أحد أعوان ما يعرف بـ "الليدر" حصراً.
ولو لم تكن القيادة التي تحكمت وسيطرت على الحزب على تلك الصورة، لكنا اليوم نفتخر بتاريخنا كمعارضة واقعية حية، شأن القوى التي كانت تعارض، والتي تفتخر اليوم بتاريخها. لقد قوضت القيادة ما بنيناه، وحالت دون قيام أي بناء لاحق، بل تسببت في هجرة الأعضاء وتركهم الحزب، وتمادت أكثر لتقوم بفصل وطرد الأعضاء، لينتهي الأمر بالانشقاقات والتشظي.
كنت محرجاً أمام أسئلة "أبو مشرق" وقد إختلفنا أكثر من مرة، وكنت أتشوق للقائه لأشرح له ما كان يجري، وما كان يتسبب في غضبه وإحباطه وغضب الآخرين، وللأسف لم يتسن لي ذلك، وسيبقى ذلك يحز في نفسي، الى جانب عبء وإحباط سنوات طوال.
يتعين الآن أن نقوم بتوثيق التاريخ المنسي للحزب في الوسط والجنوب بصورة شاملة، وعدم الإكتفاء بروايات متقطعة في المناسبات. التاريخ الذي عملت " القيادة" على محوه، بل عدم الإعتراف به، ودراسة التجربة، رغم محدوديتها، للتعرف على سياسة ودور الكوادر والعمال في بناء منظمتهم، ودور القيادات التي لا تنتمي للطبقة العاملة سياسياً، في سد الطريق على مبادرة العمال، وفي تخريب ما يبنون. ودراسة كيف إستطاع الكوادر أن يبنوا تنظيمات في الداخل في عهد النظام السابق وقمعه الوحشي، تفوق ما استطاع بناءه الحششع خلال أكثر من 18 عام من العمل العلني.
يتحدث المسؤولون في القيادة بلا توقف عن التحزب والضوابط الحزبية، وهم الذين هجروا التنظيمات، وقاموا بتفكيك وتخريب ما بناه العمال. ولا يعني التحزب والضوابط في قاموسهم سوى إستمرار سيطرتهم وتحكمهم هم. وفي الحقيقة لم يكن الكوادر خلال التسعينيات يتبعون السياسة التنظيمية للحشعع، بل كان الإعتماد على تقاليد بناء التيار الماركسي ما قبل إعلان تأسيس الحزب.
ترك " أبو مشرق" الحشعع بعيد قدوم القيادة، وكان العمل الأخرق وغير المهذب الذي قام به سمير عادل ممثل وتابع الليدر، بحق الراحل أبو مشرق، خلال تظاهرات العاطلين عام 2003 عملاً لاينم عن أي إحترام، إذ وضع له شريطاً في ذراعه وطلب منه أن يقف لساعات تحت أشعة الشمس كحرس لمراقبة التظاهرة، وهو الذي كان قد تجاوز السبعين من العمر، فيما كان سمير وجماعة الليدر يجتمعون للحديث عن القيادة والتوجيه، وبإستعلاء عشائري عصبوي غاية في الحماقة والإستهتار، وعزل كوادر الداخل وعدم الحديث معهم ولو بجملة حول التنظيم وبناء الحزب، وكان أبو مشرق من أوائل من تم تجاهلهم. وكان أول رد فعل وخيبة لـ " أبو مشرق" هو بعد هذا السلوك.
ولم ينجُ أبو مشرق من التهميش وغمط حقه حتى بعد مماته، إذ ينشر الحزب الشيوعي العمالي اليساري رثاء يقول فيه إنه إنضم الى الحزب المذكور في عام 2005، وإنه شيوعي وناشط منذ الستينيات، في حين إنه حمل السلاح كشيوعي في إنتفاضة الفلاحين قبل يولد سكرتير الحزب اليساري وسكرتير الحشعع بأكثر من عقد، وإنتظم في الحزب الشيوعي العراقي، وكان مطارداً مذاك. لقد كان يتحدث عن دور زوجته الراحلة " ام مشرق" وقيامها بنوزيع المنشورات بين القرى وهي تحمل "العلّاكة" على رأسها، لا يؤخرها عن نشاطها الليل ولا النهار، كان يسميها الفيلسوفة الصامتة. يريد صاحب بيان الرثاء أن يضع " أبو مشرق" وتاريخه في إطار فرقته فقط، وهو يعلم إنه يمحو بذلك تاريخاً ويسيء لتضحيات وبطولات ولأناس. لقد تجاهل عقوداً من النضال والمشاق، ليعلن عائدية نضال " أبو مشرق" له ولفرقته. فلنتصور وضع اليسار والإشتراكية تحت قيادة أمثال هؤلاء الفرقيين المنفصلين عن الواقع. لا يمكن أن ننسى رسالة سكرتير الشيوعي العمالي اليساري الخائبة في الرد على رثاء الراحل معن:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=623293
وإصداره تعابير خالية من اللياقة والإحترام، وتطفله في مسعى منه لوضع تاريخ الناس في إطار فرقته. وهذا نفس تقليد الحشعع رغم إنه يخالفه لفظياً.
سيترك أبو مشرق فينا حزناً عميقاً، إنه تاريخ جيل من المناضلين الذين سعوا الى بناء الحزب الذي يمثلهم، ويمثل تطلع الإشتراكيين الى وسيلة نضالية تمكنهم من النضال وتحقيق أهدافهم، وهو مسعى لن يتوقف طالما وجد إشتراكيون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجارات أصفهان.. قلق وغموض وتساؤلات | المسائية


.. تركيا تحذر من خطر نشوب -نزاع دائم- وأردوغان يرفض تحميل المسؤ




.. ctإسرائيل لطهران .. لدينا القدرة على ضرب العمق الإيراني |#غر


.. المفاوضات بين حماس وإسرائيل بشأن تبادل المحتجزين أمام طريق م




.. خيبة أمل فلسطينية من الفيتو الأميركي على مشروع عضويتها | #مر