الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


برلمان ال (10%) أي موازنة انتج؟

آلان م نوري
(Alan M Noory)

2021 / 5 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


وقع الرئيس العراقي في 2021/4/8 على قانون الموازنة العامة الإتحادية للسنة المالية 2021 ليصبح ساري المفعول من ذلك التاريخ. بموجب هذا القانون، تخطط الحكومة أن يتحقق لها خلال هذه السنة ما يقارب الـ 69 مليار دولار، و أن تنفق ما يقارب الـ 89 مليار دولار و تقترض 20 مليار دولار لسد هذه الفجوة بين الإيرادات و المصروفات.
من المؤسف أن هذه الأرقام لا تتضمن إلا عوائد تصدير 250 ألف برميل يوميا من مجمل انتاج إقليم كردستان من النفط و الغاز و لا تبين حجم العجز و تخصيصات سداد القروض الجارية و مقدار الإقتراض المستهدف في السنة المالية الحالية في الإقليم.
حسب هذا القانون ايضا، يدفع العراق ما يقارب الـ 6 مليارات و 179 مليون دولار لخدمة قروضه. أي انه سيدفع ⅓ الأموال التي سيقترضها هذه السنة لسداد اقساط قروضه السابقة. و يبدو أن حال إقليم كردستان، من حيث الأعباء الثقيلة لخدمة قروضه سوف لن يكون أحسن من الحكومة الفيدرالية، إن لم يكن اسوأ.

سياسة انكماشية، ام انكماش العقل؟
عندما نقارن الإنفاق المخطط في عام 2019 (أي ما قبل تفشي جائحة الكورونا و آثارها الإقتصادية في العالم) بالمخطط هذا العام، نرى أن في حين رفعت الحكومات في العالم مستويات انفاقها بشكل دراماتيكي لتواجه تحديات هذه الأزمة، فإن الحال في العراق هو بالمقلوب. فقد انخفض الإنفاق المخطط عن المخطط في 2019 بمقدار 23 مليار دولار، رغم أن إيرادات العامة المتوقعة لم تنخفض سوى 18 مليار دولار. ولو اخرجنا انخفاض الإيرادات من المعادلة، فإن موازنة 2021 هي انكماشية بمقدار 5 مليارات دولار! و هذا (وقبل أن نتطرق إلى كيفية صرف هذه الإيرادات) هو عمل يخالف مبادئ العقلانية الإقتصادية من حيث المبدأ، و التي تتطلب ضخ الموارد المالية الجديدة و على عجالة في الإقتصاد لإعادة تأهيل البنى التحتية للقطاع الصحي و توجيه الإنفاق نحو زيادة مداخيل الأكثر فقرا في البلد لكي يدعم انفاقهم حركة الأسواق المحلية. و على الصعيد العالمي ما عدنا نرى احدا يتخذ إجراءات مخالفة لهذه الفكرة الأساسية. ففي العام الماضي، و تحت ادارة دونالد ترامب وسيطرة حزبه على مجلس الشيوخ (وهم يمثلون اعتى اليمين)، اضطر ترامب و مجلس شيوخه إلى رفع الإنفاق العام بنسبة 50% مما كان مخصصا، فضخوا ترليوني دولار اضافيين في الإقتصاد الأمريكي لمنع انهياره بسبب آثار الجائحة. و هذه السنة، بعد هزيمة ترامب و ازاحة الحزب الجمهوري من السيطرة على مجلس الشيوخ، تتجه الولايات المتحدة إلى زيادة الإنفاق بنسبة تتجاوز الـ 100%.
اتباع سياسة انكماشية في اوقات الأزمات يؤدي إلى نتائج خطيرة معروفة وموثقة تاريخيا في الأدبيات الإقتصادية ويتحمل أخطر آثارها الفقراء و الأكثر حاجة للرعاية الصحية في البلد بشكل غير متوازن. هذا في الوقت الذي تجاوز عدد المصابين بالجائحة في العراق المليون مواطن و يقترب معدل الإصابات اليومية المكتشفة من 8 آلاف شخص باليوم, و لا تملك السلطات الصحية في البلد إلا التوصية بتشديد إجراءات التبعيد الإجتماعي و حصر النشاط الإقتصادي. الأمر الذي سوف يسرع و يوسع الآثار المدمرة للإنكماش الإقتصادي الذي دشنه هذا القانون.
فإن كان الحال في البلد كذا، إذا لماذا تتخذ الطبقة السياسية المهيمنة في هذه الأوضاع الحرجة سياسة معادية للعقلانية الإقتصادية؟ لمصلحة من تفعل هذا؟
تتسلط على العراق طبقة سياسية لا يردعها وازع اخلاقي وتربط نفسها و مصيرها بمراكز القوى الإقليمية و الدولية، وعلى رأس هذه المراكز هي المؤسسات الدولية الدائنة التي كبلت العراق عبر شروط اعادة جدولة الديون الهائلة بما تسمى بسياسة تثبيت سعر صرف العملة الوطنية و تقزيم دور الدولة في إدارة الإقتصاد الوطني و الرقابة عليه. فلا يتبقى للمخطط العراقي سوى المزيد من الإقتراض لضمان خدمة القروض السابقة إلى أن يصبح فتح باب الملكية الأجنبية لأغلى ثروات العراق؛ النفط و الغاز "حلا مقبولا".
و في هذا المضمار، أي فتح قطاع النفط والغاز للملكية الأجنبية، تعتبر القوى المهيمنة في إقليم كردستان رائدة و رأس حربة من بين القوى المهيمنة في العراق التي يتزايد أعداد "المنفتحين" فيها بشكل متسارع.
اخفاق الطبقة السياسية المهيمنة في العراق في ادارة انتخابات عام 2018 بالحد الأدنى من النزاهة، جعل من هذه الطبقة السياسية مثار تندر وكالات الأنباء العالمية التي نعتت العراق بديمقراطية الصناديق المشوية (اشارة إلى حرق أعداد هائلة من الصناديق غير المفرزة في بغداد حيث اكبر تجمع سكاني في العراق) و ايضا ببلد برلمان الـ 10% (إذا استثنينا الأصوات المزورة فإن نسبة المشاركة الفعلية في التصويت لهذا البرلمان كانت حوالي 10% فقط).
جدير بالذكر بأن الأحزاب المهيمنة في إقليم كردستان التي تسمى "واحة الديمقراطية في صحراء الإستبداد العراقي" كان لها اسهاما ملحوظا إلى جانب "اخوانهم في بقية انحاء العراق" في هذه المهزلة...التي كانت على عينك يا تاجر أمام انظار العالم.
بهذه الخلفية نشأ البرلمان و اضفى الشرعية على جملة من الحكومات التي لفظها الشارع العراقي إلى أن وصلنا إلى الحكومة الحالية...و رغم القمع الوحشي لإحتجاجات العراقيين، لم يطرأ أي تغيير على سلوك الطبقة الكليبتوقراطية العراقية، إلا إذا استثنينا "نزعة الجاكيت" التاريخية لمحمد الحلبوسي، رئيس البرلمان!

حين تقع "الصاية و الصرماية" بيد الكليبتوقراطي!
إذا اُعطيت موارد البلد إلى مثل هؤلاء، فأي قسمة تُرتجى منهم؟
قبل كل شيء، و بينما يخرجون لنا بموازنة انكماشية، نرى أن نسبة الضرائب (بأنواعها) إلى مجموع الأيراد المخطط في قانون الموازنة لا يتجاوز الـ 12.22%. علما أن معدل الضرائب إلى الايرادات الحكومية في العالم يقرب من 51% و يصل إلى أكثر من 80% في بعض البلدان. و العراق منذ 2003، هو من بين دول قليلة في العالم، تعد على اصابع اليدين، التي تقل نسبة الضرائب المستحصلة فيها عن 3% من الناتج الإجمالي المحلي! و فوق هذا نجد أن 21.96% من الضرائب في هذا القانون هي ضرائب مباشرة على الإستهلاك (وهي ضرائب لا تفرق بين الغني و الفقير، فتغبن الفقير بذلك غبنا شديدا). كما أن النسبة الأكبر مما تتبقى هي ما تستقطع من الموظفين الحكوميين و تذهب إلى استحقاقات التقاعد! هذا يعني أن الآلاف المؤلفة من الأغنياء المستقوين بمؤسسات الدولة من أيام صدام حسين إلى اليوم و آلاف مؤلفة غيرهم من محدثي النعمة في "العهد الجديد"، سوف يمضون هذه السنة ايضا محميين من الضرائب و متهربين منها كما كان عهدهم في السابق.
من المنطقي في اوقات الأزمات في أي بلد لا تحكمه الكليبتوقراطيا المحتكرة للسياسة و الأقتصاد، أن يتم رفع الضرائب على الثروة و التشديد في جبايتها، فلو تم هذا في العراق بحيث رفعت نسبة الضرائب إلى الأيرادات إلى 30% فقط، لما احتاج البلد إلى إقتراض الـ 20 مليار دولار الحالية!

“الدفاع و الأمن" فوق الشعب!
من تبعات تسلط الكليبتوقراط على الدولة و الثروة الوطنية، انهم ينظرون اليها كغنيمة. و الغنيمة تتقسم مع مسلحين تعددت اسماؤهم و وظائفهم الرسمية و بقوا قبل كل شيء حماة هذه السلطة التي لا تستطيع اعادة انتاج نفسها إلا عبر التشظي و الفوضى.
منذ التسعينات في إقليم كردستان و ما بعد 2003 في باقي انحاء العراق، يدرج "الأمن" بإعتباره الأولوية الرئيسية لكل الحكومات و اشباه الحكومات التي تولت مقدرات البلد. فأغدقت أموال الوطن على تشكيلات مختلفة هي في جوهرها مشبعة بالعقيدة السياسية المدافعة عن البنى السياسية السابقة للدولة فتنظر بعين الريبة و العداء لشبيهاتها في الدولة العراقية و هي كثر، و ترى المواطنين جماعتين؛ اغلبية لا تستحق الأمن و قلة مختارة مستحقة. مر 30 عاما في كردستان و قرابة 20 عاما في الوسط و الجنوب و السلطات تصرف خيرات البلد على هذه التشكيلات بدون دراسة جدوى الأستمرار في هذا النهج و مدى فاعلية صرف هذه الأموال في تحقيق الأمن للمواطن.
هذه السنة ايضا، يستمر هذا النهج، بينما العالم كله غير اولوياته لمواجهة الكورونا و آثارها الإقتصادية المدمرة. فقد خصصت الموازنة 21.28% من اجمالي الإنفاق الحكومي لبند "الأمن و الدفاع". في حين لم يتجاوز مجموع تخصيصات الصحة (مدموجة مع البيئة) 6.17%. و بينما حكومات العالم كلها اضطرت إلى زيادة كبيرة في الإنفاق على الصحة، تقدرها دراسة عينة جامعة للعديد من الدول في درجات مختلفة من النمو الإقتصادي، أن الحد الأدنى لزيادة الأنفاق على الصحة في العام الماضي كان 17 دولار للفرد الواحد من السكان، بينما وصل الحد الأعلى إلى 386 دولار للفرد الواحد. اما في العراق فبند الزيادة الذي اضيف إلى الموازنة للتصدي لجائحة الكورونا، هو مليون دولار، فقط لا غير. أي بالقسمة على عدد السكان يكون الصرف المخصص لمواجهة الكورونا ربع دولار لكل عشرة من سكان العراق!!
ليس حال القطاعات الأخرى بأفضل؛ فقطاعي الزراعة والصناعة (عدا النفط و الغاز) (وبضمنها الصناعات العسكرية) لم يكن نصيبهما مجتمعين سوى أقل من 2% من الموازنة.
ولم يحصل قطاع التربية و التعليم سوى على 9.4% من الميزانية، و تشمل هذه النسبة قرضا دوليا لإنعاش التعليم العالي و البحث العلمي مقداره 83 مليون دولار. و الـ 9.4% ،حين نقارنها بمعدل آخر بيانات نسبة الإنفاق على التربية و التعليم إلى الإنفاق العام في مجموعة بلدان الشرق الأوسط و شمال افريقيا(بإستثناء الدول الغنية منها) سنجد انها تقل عن مثيلاتها في المجموعة بنسبة 37.33%.
اما الـ 83 مليون دولار المقترضة للتعليم العالي فقد استأثرت بأكثر من 26 مليون دولار منها كليتين هما كلية الأمام الأعظم و كلية الإمام الكاظم للدراسات الإسلامية. أي أن الكليتين استخوذتا على حوالي 32% من القرض.
علما أن حصة الأوقاف الدينية تفوق ما خصص للقطاع الزراعي بأكمله بـ 100 مليون دولار، هذا بالإضافة إلى أموال لا تعد و لا تحصى تتلقاها هذه الأوقاف، ولا تمر بأي سجلات رسمية، تجبى من ملايين العراقيين و ملايين آخرين من غير العراقيين، بأسم الزكاة و الخمس و...الخ، وكان الأجدر لأجل كرامة اديانهم و مذاهبهم أن يخففوا عن كاهل الموازنة العامة، بأن يتولوا اعاشة رجال الدين و المدارس الدينية بأنفسهم.
في خضم ازمة الأقتصاد و الصحة العامة و نقص الموارد، مرر اعضاء البرلمان، برشاقة و بدون ضجيج، تخصيصات ضخمة لأنفسهم فكان بنود الرواتب و النثرية المخصصة لهم و لأعضاء اسرهم المعينين بإسم وظائف داعمة و حرس، حوالي 185 مليون دولار في هذه السنة المالية. بالقسمة على عدد اعضاء البرلمان فإن راتب كل عضو في البرلمان مع رواتب المعينين لخدمته يكلف العراقيين، بالمعدل، 470 ألف دولار بالسنة. أي 40 ألف دولار بالشهر، ما بين راتبه و رواتب اهله و اقاربه المعينين لخدمته، أو من عينهم بأتفاق شراكته في جزء من رواتبهم.

كرم يُخجل الدائنين!
اغلب القروض الجديدة المذكورة في الموازنة هي من النوع الذي يشترط الإستيراد من البلد الدائن للمستلزمات السلعية و الخدمية التي ستحتاجها المشاريع التي منح القرض من اجلها. وهذا في الحقيقة جزء من برامج دعم الصادرات في تلك البلدان و تؤدي الغرض منها حتى و إن فشلت الدولة المقترضة في سداد القرض. ولكن بما أن الكرم هو من شيم طبقة الكليبتوقراط السائدة في العراق، فإن قانون الموازنة، حسب المادة (ثانيا - 2 - ب - 1) تعفو كل الإستيرادات الناتجة ليس فقط عن قروض هذه السنة المالية الجديدة، بل عن قروض 2016-2019 الممنوحة لمشاريع قيد الإنجاز من كل الضرائب و الرسوم الكمركية. و حيث لا تتوفر لي معلومات عن المقدار المشمول بالقروض السابقة و لإختلاف جداول الكمرك حسب نوع السلع، لنفترض معدلا مقبولا للتعرفة الكمركية هو 5% و لنفترض ايضا أن 50% من قيمة القروض تذهب إلى استيراد سلع و خدمات بلد المنشأ، فإن هذه المادة سوف تُخسر العراق 500 مليون دولار من الإيرادات عن قروض هذه السنة المالية فقط.

مقام سيادة القانون و السلم الإجتماعي في الموازنة
من العجائب و الغرائب الواردة في الموازنة هي المادة (أولا-2-4-د-1) التي تلزم وزارة المالية بأن لا تتجاوز كلفة أي مشروع جديد، في المحافظات و المناطق المحررة من سيطرة داعش، عن ضعف المبلغ المخطط ! وهذه ببساطة إيعاز للمقاولين، أن بمجرد حصولهم على العقود يستطيعون مطالبة الجهات المشرفة بضعف قيمة عقودهم. و بما أن المخطط للمشاريع الإستثمارية الجديدة في الموازنة هو مليارين و 330 مليون دولار، فإن القانون هذا يسمح بضعف هذا المبلغ في جيوب المقاولين..لا غير!
المادة اللاحقة (أولا-2-4-د-2) تسمح للمحافظين و مدير صندوق اعادة اعمار المناطق المحررة بالتعاقد لغاية 3 ملايين و 400 ألف دولار للمشروع الواحد، مع المقاولين خارج القوانين و التعليمات الناظمة لشروط التعاقد مع الدولة!!

على مدى 3 عقود في إقليم كردستان و عقدين في باقي انحاء العراق، و من جراء التجاوزات المتكررة و الدائمة على القانون، جرت عمليات بيع و شراء و تغيير صنف أراض شاسعة بالتحايل، خصوصا في اطراف العاصمة و المدن الكبرى خارج التصميم الأساسي لهذه المدن. وهذا الأمر يختلف تماما عن مدن الصفيح التي تتشكل في كثير من البلدان نتيجة هجرة فقراء الريف إلى المدن بحثا عن لقمة العيش. ما يحدث في ضواحي المدن العراقية الكبرى هو ازاحة بيوت و مزارع صغار الفلاحين و الفقراء من تلك المناطق ليحل محلها قصور اصحاب السطوة و السلاح من مختلف المستويات.
خير مثال على هذا التحول هو ضاحية سيتك في السليمانية التي تحولت إلى وجهة سياحية و سوقا لشراء القصور لكل اغنياء العراق. إذ بعد سنوات طويلة من البيع و الشراء غير القانوني خلت الضاحية من فقرائها. ما يحدث في سيتك، يحدث في كل انحاء العراق بدرجات متفاوتة.
من لا ينتبه إلى هذا الواقع، يظن أن كليبتوقراطيي السلطة يريدون خيرا بسكان مدن الصفيح حين فرضوا في قانون الموازنة بندا يلزم البلديات في المدن و العاصمة بمد المشاريع الخدمية إلى هذه الأحياء رغم كونها لا تقع ضمن التصميم الأساس. و الحقيقة هي انك قلما تجد احدا من كليبتوقراطيي السلطة لا يمتلك قصرا خارج التصميم الأساسي لمدينة كبرى في العراق.

احد مصادر تهديد السلم الإجتماعي في العراق هو تاريخ مظالم عهد حكم البعث، لا سيما الإستيلاء على املاك و عقارات المواطنين بحجج مختلفة، من دون تعويضهم. و قد أُنشئت هيئة لحل نزاعات الملكية بعد سقوط نظام صدام من اجل رد هذه الأملاك إلى اصحابها أو تعوضيهم عنها إذا تعذر ذلك. توقف استلام معاملات المواطنين المتظلمين منذ عام 2019 وهناك مئات الآلاف من الدعاوى التي تنتظر البت و كذلك مئات الآلاف من التي تم البت فيها ولم يحصل المتظلمين على استحقاقاتهم بعد. و من علائم أن هذه السنة ايضا لا تنوي الكليبتوقراطية الحاكمة أن تنهي معاناة مئات الآلاف من العوائل هذه، هو انها خصصت 25 مليون دولار فقط لهذه الهيئة و 30% من هذا المبلغ هو مخصص لرواتب موظفي الهيئة. هذا يعني أن بعد قرابة 20 عام من سقوط نظام البعث، هناك مئات الآلاف من المتظلمين و اجيال تلت يلهثون وراء الحكومات لإنصافهم بينما املاكهم و عقاراتهم المسلوبة شاخصة امامهم. اضف إلى هذه الأعداد مئات الآلاف الآخرين ممن استولت المليشيات المسلحة المستقوية بالدولة على املاكهم و عقاراتهم منذ سقوط البعث إلى اليوم، فتعرف حينها مدى الإحتقان و مدى عدم اكتراث حكامنا الجدد.

و اعقد من قضية استرداد المواطنين لعقاراتهم المصادرة، هناك قضية أخرى من الحساسية ما اهلها للتناول في فقرة من الدستور العراقي الجديد تعرف بالمادة 140 من الدستور، وهي سياسة التعريب القسري للمناطق ذات الأغلبية الكردية تاريخيا و التي يصطلح عليها اليوم بالمناطق المتنازع عليها. ومنذ اقرار هذه المادة في الدستور و هي تتعرض إلى اقذر انواع البلتيقا من جميع الأطراف التي تدعي تمثيل مصالح سكان المنطقة. رغم أن هذه المادة الدستورية لم تجر الإشارة اليها في متن القانون، إلا انها ذكرت ضمن تخصيصات رئاسة الوزراء بدون الأشارة إلى اوجه الصرف و ضوابطه. فتم تخصيص 42.5 مليون دولار فقط لهذا البند المبهم في جدول نفقات الحكومة الفيدرالية المرفق بالقانون. بمعنى آخر، أن كيفية تناول هذا القانون لهذه المادة الدستورية الخطيرة هو انعكاس آخر للإستهتار و الضحك على الذقون، كما كان الحال طيلة عقدين من الزمن.

قضية النفط و الأحلام الوردية لسلطات الإقليم
المادة الوحيدة من قانون الموازنة التي احتفت بها الطبقة السياسية المهيمنة في إقليم كردستان، و اعتبرته انتصارا كبيرا هي المادة (11 -ثانيا) من الفصل الثالث للقانون و التي جاء فيها أن حكومة الإقليم تلتزم بحد ادنى لإنتاج النفط هو معدل 460 ألف برميل في اليوم. تستخدم جزءا منه في تغطية مصاريف الإنتاج والنقل و الادارة و تلبية حاجة الإقليم إلى المحروقات و تمويل صندوق البترودولار، ثم تنقل الإيرادات المتبقية، على أن لا يقل معدلها اليومي عن اقيام بيع 250 ألف برميل بسعر شركة التسويق العراقية الحكومية (سومو).
من المعروف أن سلطات الإقليم تبيع النفط المستخرج من الإقليم في الأسواق الدولية بسعر يقل عن سعر سومو بحوالي 10 دولارات للبرميل. وإذا لم يوفر هذا التوافق الذي عبر عنه بقانون الموازنة إلى تحسين قدرة الإقليم على تسويق نفطه، فإن ذلك يعني أن الإقليم بالإضافة إلى خسارته من السعر المخصوم عليه الآن أن يدفع 10 دولارات اضافية عن كل برميل، أي خسارة 2.5 مليون دولار باليوم و900 مليون دولار بالسنة!
السؤال المنطقي هو لماذا لا تسلم سلطات الإقليم الـ 250 ألف برميل قبل البيع إلى شركة سومو لتسوقها هي في الأسواق العالمية بأسعارها هي و بكلفة نقل عبر تركيا خاضعة لإتفاقيات الحكومة العراقية مع تركيا بهذا الشأن؟
بحسب منطق المتحدث بأسم حكومة الإقليم، فإن هذه الفقرة من القانون العزيزة على قلوب متسيدي الإقليم، "يمكن" أن يعد إعترافا من قبل السلطتين التشريعية و التنفيذية الفيدرالية بقانونية عقود إنتاج و نقل و تسويق النفط التي ابرمتها سلطة الإقليم مع الشركات الأجنبية، أو على الأقل قبولها كأمر واقع… فتنتفي بذلك مشكلة ملكية نفط الإقليم في الأسواق الدولية، من وجهة نظر القانون الدولي. ولو تحقق ذلك لما اضطر الإقليم لبيع نفطه بأقل بكثير من قيمته السوقية.
بعيدا عن عالم التمنيات، لا يستطيع مفاوضو الطبقة السياسية الحاكمة في كردستان أن يؤشروا بندا أو فقرة أو مادة من القانون تفيد اعتراف السلطات الفيدرالية بالعقود النفطية لإقليم كردستان. بل العكس، يبدو انهم في غفلة من المادة (56-ثانيا) من نفس الفصل الذي يوجه مجلس الوزراء و الجهات المعنية بمراجعة جميع العقود النفطية الموقعة مع الشركات الأجنبية لإستكشاف و استخراج و نقل النفط والغاز في كافة انحاء العراق، للتأكد من إنسجامها مع الدستور. و دائما بعيدا عن قرع طبول القومية يعرف المفاوض الكردي أن عقود نفط الإقليم هي ليست دستورية. معنى ذلك انه بغياب اتفاق سري تحت الطاولة، لا يوجد شيء في قانون الموازنة يعد بإنتهاء "وجع الرأس" القانوني الذي يشكو منه المتسيدون في الإقليم.
يبقى سؤال (لماذا لا يتم تسليم النفط نفسه بدلا من اقيامه بسعر سومو؟) ينتظر جوابا…. ففي الضبابية المقصودة حول عقود نقل و تسويق نفط الإقليم التي وقعت مع الحكومة التركية و الشركات التركية، يبدو أن حكام إقليم كردستان سيخسرون أكثر من هدر 2.5 مليون دولار يوميا، إن هم ارسلوا الـ 250 ألف برميل اليومية بإسم سومو و في اطار اتفاقيات سومو مع تركيا. و لا يجدون بأسا أن يخسر المواطن الكردستاني 2.5 مليون دولار يوميا، طالما تفادوا هم خسارة يخشونها!
بقي أن أشير إلى أن القانون بنصه النهائي يبدو انه لا يذكر نفقات و إيرادات استكشاف و استخراج و نقل و تسويق الغاز الطبيعي في إقليم كردستان، و يبدو ايضا أن المتسيدين في الإقليم حريصون على استبعادها من الموازنة الفيدرالية. و هذا في جوهره نصر كبير للجهات الدائنة و الشركات الأجنبية العاملة في قطاع النفط و الغاز في كردستان، التي تشعر أن ما يزيد عن انتاج 250 ألف برميل يوميا سوف لن يكفي لسداد التزامات الإقليم المالية تجاههم… لذلك فعينهم على إيرادات الإقليم من بيع الغاز الطبيعي. بكلمة اخرى، فإن الجهة الفائزة الوحيدة من المفاوضات الطويلة بين الحكومة الفيدرالية و حكومة الإقليم هي الشركات الدائنة و الشركات النفط الأجنبية في الإقليم و الخاسرة هي مواطني الإقليم و العراق معا.

هناك الكثير من التفاصيل و الامثلة الأخرى للفساد و عدو الكفاءة التي تملأ صفحات هذا القانون، لكن يصعب عرضها في مقال صحفي كهذا.

بقي أن اقول أن ازمة السلطة في العراق و إقليم كردستان هي متعددة الجوانب، و قناعة المواطنين تتزايد يوما بعد يوم بأن هذا النظام لا يرحم معاش و صحة و سلامة و مستقبل المواطنين في البلد، و أن السماح لهذا النظام بإعادة انتاج نفسه تحت أي مسمى كان هو اجرام بحق كل فرد منا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بحث مهم ودقيق
صباح كنجي ( 2021 / 5 / 9 - 12:07 )
مقال تحليلي وشرح وافي ومبسط يساعد على استيعاب جوانب الكارثة التي يمر بها العراق بسبب الفوضى الاقتصادية وجشع الفاسدينمع تشخص دقيق لطبيعة التحولات الجارية في العراق وكردستان التي حولت الاحزاب السياسية الى كتل فاسدة تمارس سياسات معادية للجماهير الكادحة وتقامر بمستقبلهم .. تسلم دكتور آلان

اخر الافلام

.. نور الغندور ترقص لتفادي سو?ال هشام حداد ????


.. قادة تونس والجزائر وليبيا يتفقون على العمل معا لمكافحة مخاطر




.. بعد قرن.. إعادة إحياء التراث الأولمبي الفرنسي • فرانس 24


.. الجيش الإسرائيلي يكثف ضرباته على أرجاء قطاع غزة ويوقع مزيدا




.. سوناك: المملكة المتحدة أكبر قوة عسكرية في أوروبا وثاني أكبر