الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاولة الرائي

فاتن نور

2021 / 5 / 7
الادب والفن


في مساء يومه الثالث بعد العودة، وعلى نفس التل، كان الكهل بغيبوبته يتدلى بين عامودين من الخرسانة الملطخة بدهان أصفر، معلقّاً من رجليه بسلاسل حديدية صدئة، ويديه مغلولتين بالأصفاد خلف ظهره. بدا بما عليه من أسمال داكنة وشعر أشعث، مثل خفاش يغطّ في نومة عميقة بعد ليلة معدمة عافتها حتى الحشرات.
في يوم عودته، كان قد استبدّ به القلق، وعاوده ذلك الاحساس الأليم الذي كان وراء هروبه من المدينة، فصعد بهمّة وصاح:
يا أيها الذكور.. ها! انظروا كيف فزعتهم، عندما ناديتكم بالذكور.. انفضّ الناس من حوله ساخرين، فترجّل عن رأس التل.

في يومه الثاني صعد بحماسه المعتاد وصاح: اسمعوني ولا تنفضّوا كالصغار.
أيها الذكور الكبار، أريد فقط أن أهنئكم بذكورتكم البيولوجية. أما الرجولة أيها الأشقياء لو علمتم، فهي طيف عريض من القوّة والنبالة والحزم، خصائص مكتسبة ومقومات، الرجولة إعداد أخلاقي رصين ومواضبة. أرى أنكم قد وقعتم في فخ الذكورة فتقاعستم، وآن الآوان..
قاطعه أحدهم بغضب: ويحك! ماذا تريد أن تقول أيها الأعمى الأبله، إننا ذكور وحسب ولسنا برجال!
تنحنح الكهل بثقة رافعاً من نبرته: مهلاً!.. أنتم ذكور عبيد وعبيد ذكور.. هذا ما أردت قوله.
رموه بالحجارة ثم انفضّوا من حوله متأففّين.

صبيحة يومه الثالث كان قد عزم على إلقاء خطبته كاملة، لتعريف أهالي مدينته بمحنتهم الكبرى التي أنجبت بتصوره كل المحن المتراكمة.
صعد التل بقامة منتصبة وصاح: لقد بلغ السيل الزبى، اسمعوني، وتحلّوا بالقليل من صبر الكبار، قبل أن تنفضّوا صاغرين للهوكم المعتاد كصبية صغار.
يا أيها الذكور، العبيد، الكبار، لكم أن تكونوا رجالاً لو عزمتم وحسمتم أمركم فالرجولة خيار، ولكن لا تتحسّسوا ما بين أفخاذكم الآن، فلن تكونوا بها رجالاً.
ولا تنصتوا لوجهاء الجهالة والحمق فهم من أرذل الذكور، وتيقنوا أن كلمة حق عند سلطان جائر لم تعد مجزية، ولن ترفعكم إلى سماء الرجولة.
أيها الذكور المغيّبون لو وعيتم، ستدركون أن من صفات الرجولة الحقّة ومن خصالها، ردّة الفعل الحاسمة في وقت التردّي والانحطاط المسلح الذي داس كل شيء حتى رؤوسكم، اعلموا أن أفعالكم ضد أفاعيل سلطان جائر وأفاعيل حاشيته ومرتزقته؛ هي معولكم الوحيد لشق طريق الخلاص، فاذهبوا واحصدوا من الأفعال كثيرها، كونوا صنّاع ظروف لا صنائعها المستعبَدّة، لتنالوا شرف الرجولة.
ولا يغرّر بكم دعاة الوهم والخرافة، الرجولة ليست مثنى وثلاث ورباع، فالرجال لا يسخرّون النساء، لا ينتقصون منهن ولا يخذلوهنّ. فهذا ما يفعله مرضى الذكور الذين يشهرون ذكورتهم على سنابك فحولة يتباهون بها، ويفتلون عضلات بؤسهم ونقصهم المرير للحجر على الإناث، وهم بذلك لو تعلمون، مرضى مصابون باضطراب وساوس الذكورة القهري المزمن.
اشهروا شجاعتكم وشهامتكم وشمرّوا عن رجاحة عقولكم وحسن حواركم، لطفكم ومروءتكم. وتفوقوا على العتيق من المفاهيم التي نخرت أصلابكم. هراء كل ما حفظتموه من سفاسف الأقوال، فما أخيب قولكم انصر أخاك ظالما أو مظلوماً. الرجولة ليست حميّة قبليّة أيها الذكور، تذكروا هذا ما حييتم.
ولا تتركوا أولياء الأمر منكم، يسفهّون عقولكم، فلا خير بكم سواء نمتم مظلومين أو ظالمين. واعلموا أن حساب المظلوم كحساب الظالم أو ربما أعسر، فلولا قبوله الظلم لما تسلط ظالم. ولولا قبوله المهانة والمذلّة لما تسيّد عليه سيد. وما أخيبكم وأنتم تتكلّون على الله ليل نهار من أجل خلاصكم بدل توكلكم عليه لتعبيد طريق رجولتكم بهيبة ووقار.
ولا تضللّكم القناعة فهي لا تصلح كنزاً للرجال. هي كنزكم أنتم أيها العبيد، كنز اعتزالكم سبيل الرجولة، ولا يفنى كنز كهذا إلاّ بالمواجهة، بالمبارزة، بأداء واجبات الرجولة والقيام بمهامها الحاسمة دون تأخير.
آما آن آوان انتزاع حقكم الطبيعي أيها الذكور؟
حقكم في الرجولة؟
أم تراكم قد تنازلتم عن هذا الحق إلى يوم الدين؟
يا كبار الذكور، ماذا سيرث أحفادكم من بعدكم؟ كل هذا العار! كل هذا الموت الأخرق والسم الزؤام!
اعتقوا أنفسكم بأنفسكم، كونوا رجال عهد جديد، لا تُستَمد فيه الرجولة من أجهزة تناسلية ولا تتكئ عليها، فتلك رجولة زائفة، رجولة تهريج صوريّة، وبئس المصير مصيركم بها. عليكم بعهد جديد ينتهي به خلطكم المقزّز هذا والمثير للشفقة، بين الذكورة والرجولة، بين الذكور والرجال. آن آوان الحقيقة الصارخة؛ نسبة الرجال إلى الذكور ضيئلة وهزيلة حد الفزع.

استفاق الكهل من غيبوبته مع تصاعد ألسنة اللهب والدخان. وجدهم قد أضرموا كدساً من الحطب في طست كبير من الصلب المجلفن، تكسوه طبقة سميكة من السخام المتراكم. كان مظهره يشي بأنه كابد صنوفاً من تعذيب الوجبات السريعة، قبل سوقه إلى أعلى التل لتنفيذ الحكم التلقائي، في مثل هذه الأحوال، من قبل حشد الذكور المهيمن في المدينة.

ظل يقهقه بأسى مع بدء حفل شوائه البطيء، جعلوه يتدلى على ارتفاع ثلاثة أمتار فوق الطست، وتحلّقوا حوله بأعين تتسع بالفخر كلما علت قهقهاته واشتدّ رنينها المشوب بالأنين.
لزم الكهل الصمت فجأة. ظلت ملامحه قاسية تتحدى ما تنقله الحواس من آلام مبرحة.
وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة مع نضوج الآم الشواء، جمع رباطة جأشه وصاح بحشد المتفرجين صيحته الأخيرة، بنبرة واثقة لم تفقد الكثير من بهاء حدتها:
أيها الذكور.. هل تدرون كم أشفق عليكم الآن، ها أنتم تفعلون كل ما يجرفكم بعيداً عن سمات الرجولة، لم تك الوحشية يوماً من سماتها ولن تكون، إنها من عادات الذكور المسيّرين بالأوهام، والمضلّلين بالبطولات الزائفة. لا بأس عليكم فأنتم ذكور استفحلت بكم الأدران. وثقّوا حفلكم المهيب هذا بالمرويات والصور كعادتكم، لتنضيد عاركم المجيد بعار. فهو هويتكم التي تبجّلون، وجدوى وجودكم العدمي.
والآن استودعكم بكلمتي الأخيرة، إذا لم تستطيعوا للرجولة سبيلا، استكينوا بذكورتكم جبناء أذلّاء إلى يوم الدين، لكن لا تتبجحوا وتردّدوا.. نحن رجال.. فأنتم ذكور، وعبيد لخسائس الذكور.

في طريق العودة، قال الصبي لوالده، المشرف العام على حفل الشواء:
أسمعك توبخ أمي بقولك "الرجال قوّامون على النساء" وأسمعها توبخك وتسألك أن تكمل الآية وأن لا تردّد كالببغاوات مقولة باتجاهين، متباهياً بالإتجاه السائد الذي تسيّد به أنصاف الرجال. ولولا تعاسة الذكور وتعاسة الأناث، لما ذهب الإتجاه الآخر مع ريح الحقيقة الغائبة، وكانت دائماً تردّك بالقول، النساء قوّامات على الرجال بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أوقاتهن..والوقت مال.
يوجعني ذلك الجدال المتكرر بينكما، فهل أنت رجل أم نصف رجل أم ذكر؟
وعندما جاءته الإجابة قاطعة بعد توبيخ طويل وممل، سأله مستفسراً ببراءة: إذن متى سيكون حفل شوائك يا أبي؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا