الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن المعتقل المجهول

راتب شعبو

2021 / 5 / 7
الادب والفن


حين يزداد عدد الضحايا يغدو من الصعب تركيز الاهتمام على الجميع. حين يكون الضحايا بالآلاف يصبح مجرد ذكر الأسماء لإنقاذها من سطوة النسيان عملاً يستهلك الوقت وقد لا تتسع له ساعات النهار. الكثرة تولد السأم، هذا من طبيعة الأشياء. الكثرة في الحوادث كما في الأسماء هي ملعب مفضل للنسيان. وللتغلب على النسيان من أن يأتي على معنى وقيمة تضحية الكثرة، ابتكر الإنسان الرمز. الرمز واحد ولكنه يحمل معنى المجموع ويحافظ على قيمة ومضمون التضحية المحددة. ولأن الرمز واحد فإنه عصي على النسيان وقادر على مقاومة الزمن وصيانة المعنى. لكن هذا الرمز يخفي في الواقع آلاف الأسماء ويجعلها بلا ملامح. ولا يبدو أن ثمة علاج لهذا الألم البشري المستعصي. الحفاظ على قضية المضحين يقتضي تهميش هوياتهم الفردية.
الألم البشري المستعصي أن علينا أن نسلم بعجزنا عن إحياء ذكرى أناس ضحوا بأعمارهم من أجل قضية عامة. وهم أناس نستطيع أن نعرف أسماءهم وصورهم ولكنهم من الكثرة بحيث لا نملك، لو أردنا، وسيلة لإحياء أسمائهم. وفي الوقت عينه هناك أسماء ضحايا منهم تُنتشل من وهدة النسيان وتُرفع عالياً لأسباب متنوعة. علينا أن نسلم إذن أن في أرض المضحين أيضاً يوجد تمييز لا مجال لإنكاره ولا لتلافيه. في أرض المضحين أيضاً هنالك أسماء تلمع وتحوز على اهتمام عام، فيما بقية الأسماء منسية إلا من حفنة من الأهل والأصدقاء.
هل هي الصدفة أم قوة اسم العائلة ونفوذها أم قوة العلاقات العامة للضحية هو ما ينقذ الاسم من النسيان؟ ما الذي يجعل اعتقال المئات ممن يعملون بصمت وتفان يمر مروراً صامتاً في حين ترتفع الأصوات لاعتقال آخرين؟ هل يتعلق الأمر بنوعية العمل الذي كانت تتولاه الضحية؟ كلنا يعلم أن مادة الثورة الفعلية، الشباب الذين نهضوا بالثورة وزينوا بأنشطتهم المتنوعة أيامها السلمية، الشباب الذين دخلوا فجأة ميدان الفعل والتغيير وصاروا على الفور أسياده ومعلميه، شباب بلا تاريخ سياسي سابق، بلا علاقات واسعة خارج أحيائهم وقراهم، واجهوا ما خشيت أجيال سورية متتالية من مواجهته. مادة الثورة هؤلاء تهترئ في السجون، مرمية في أماكن مخفية، ويخفيها النسيان. ولا نملك ما نفعله لأجل رفع أسمائهم بقدر ما تستحق.
ليس غرضي هنا إدانة إعلاء اسم ما ورفع الأصوات من أجله، فلا يمكن أن نرفع كل الأسماء ونعطي كل اسم معتقل حقه في الشهرة والتقدير. الغرض هو التذكير بأن مادة الثورة الفعلية ومعدنها الأصيل يتكون من أسماء كثيرة لا تحصى ومنسية. وأن ما يلمع من الأسماء تمتلك قيمتها الخاصة لا شك، لكنها لا تمتلك قيمة أكبر في الواقع والفعل من الأسماء المنسية. وأن الأسماء المنسية هذه، أو الأسماء التي لا يمكن إلا أن تبقى تحت مستوى ما تستحقه من الاعتبار والذكر، هي القوة التي خلقت إمكانية أن تلمع الأسماء التي لمعت.
في أوروبا، بعد أن استعادت عافيتها من مآسي الحروب، حاولوا الاحتفاء بالضحايا وتقدير أسمائهم. بنوا نصباً تذكارية في المناطق التي شهدت معارك عنيفة وسقط فيها ضحايا. حفروا أسماء الضحايا على النصب التذكارية. آلاف الأسماء. لا يمكن لزائر حتى أن يمرر نظره على كل الأسماء. لا توجد وسيلة أخرى. لكن على الأقل تبقى الأسماء محفورة هنا في الصخر الذي لا ينسى. ويبقى بمقدور شاب أوروبي أن يبحث بين الأسماء المرتبة حسب التسلسل الأبجدي، عن اسم عائلته ليرى إن كان بين الضحايا أحد من أسلافه.
حين تستعيد سوريا عافيتها سيكون علينا البحث عن طريقة سورية في إحياء ذكرى المعتقل المجهول.
نوفمبر/تشرين ثاني 2014








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الموسيقي طارق عبدالله ضيف مراسي - الخميس 18 نيسان/ أبريل 202


.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024




.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-


.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم




.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3