الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


درس (7) واقعة باب العامود؛ استعادة المكان رمزياً،،، فن الحضور وانتشاره

بلال عوض سلامة
محاضر وباحث اجتماعي

(Bilal Awad Salameh)

2021 / 5 / 7
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


في تعليق شاب من الطور على المشهد في حي الشيخ جراح اليوم بتاريخ 5/6/2021 وبعد اخلاء جنود الاستعمار للمحتجين الفلسطينيين المساندين للسكان بالقوة واغلاق مداخله، وإفساح المجال للمستوطنين ولمنظمات استيطانية متطرفة، كانت قد دعت اليوم لتجمع المستوطنين في الحي، يقول: "لقد تحول حي الشيخ جراح الى ثكنة عسكرية" من خلف الشاشة -وفي بث مباشر-، يقول من بجانبه شو يعني "تكنة"؟، يجيبه "ثكنة" "ث ك ن ة"،،، إلا تعرف ماذا تعني ثكنة؟، يجيبه الآخر؛ لا، فيسأله مباشرة من أين انت؟، يجيب الشاب من الطور، انتهى الاقتباس، وبدأ الدرس، لقد كنت اعتقد أن مصطلح الثكنة العسكرية معروف فلسطينياً، كإشارة إلى المعسكر أو المكان المدجج والمزدحم بكمية كبيرة من الأسلحة والمعدات التي تكون في حالة من التأهب للإعلان عن الحرب، وهي تختلف عن "التكنة" ذلك المجسم المعدني أو البلاستيكي الذي يستخدم في البناء في اعداد خلطة الاسمنت، لاستخدامها في البناء، وكأننا أمام بناء من نوع آخر في المعرفة والخطاب والمفاهيم.
هنا يتحول "المكان" كمكان تأطير، بغض النظر عن موقعه، وكإطار مرجعي للتفاعل الاجتماعي والتثاقف وحتى للتعبئة السياسية، كما هو الحال ايضاً في المواجهة والاشتباك والمراوغة في سياق استعماري، فالمكان وذاكرته أكبر من الجماعة، يُنشأ خلالها الناشطون والمحتجون كلاً على حدا مشهده وفكرته الخاصة في الحدث/ الواقعة وسبب وجوده، وقد يستحضر ذاكرة أو معلومة تاريخية لديه أو مناسبة ما، أو حتى قد تكون مستوحاة من خياله حول أهمية وجوده في هذا المكان لاستعادته او التعبير عن احتجاجه، وقد يستخدم معارف ومفاهيم وخبرات ربما لم يختبرها من قبل، ويلعب الحضور في المكان والمشاركة في الاحتجاجات دور مهم في تطوير الإدراك وتوسيعه للصورة الأكبر في المستوى الفردي ولاحقاً المستوى الاجتماعي في التفاعل مع السياق الاجتماعي أو السياسي، فبلورة المفاهيم والمعرفة والوعي يستلزم تفاعل اجتماعي كامل، بحيث تتجاوز ما يمكن أن يدركه الشخص وهو الفلسطيني بهذه الحالة لوحده، لجعل هذه المعرفة أكثر فعالية في الاداء والسلوك والشعار، فالمعرفة الوطنية ليست في الدماغ الفلسطيني وإنما في الممارسة اليومية.
في المشهد السابق، وغيره من الدروس التي تشير إلى تبلور وبناء مستوى جمعي في الوعي/الإدراك الفلسطيني من الجيل الجديد للشباب والفتية عبر الانخراط في تظاهرات احتجاجية متراكمة من المشاركة الفعلية للاحتجاجات على البوابات الإلكترونية على مداخل البلدة العتيقة وباب الاسباط وباب الرحمة، أو مؤخراً كما شهده باب العامود وحي الشيخ جراح أو في بطن الهوى في سلوان، وقد تكون متعلمة لخبرات ومواجهات اختبرها المشهد المقدسي او تم التمثُل بها، ليصبح جزء من الحدث في بقعة جغرافية للفلسطيني، وهنا يأتي دورنا كباحثين ومهتمين بالسياق والتطورات لمحاولة الكشف أو تأويل التأويل للسلوك/الشعار الذي يستخدمه المتحتجين ميدانياً بالشكل الفردي/الجمعي وتعيينه في مكانته بالمشهد الكلي، لفرض اهميته وللمعنى الذي يكتنفه.
فالانخراط بالنضال والاشتباك مع الاستعمار الصهيوني ليس حدثاً كما هو حال الاستعمار الاحلالي، وإنما باعتباره –إي الاشتباك- ليس عفوي أو حتى فورة، وإنما دينامية متفاعلة في الحضور في المكان لأسباب سياسية أو ايدلوجية أو ثقافية أو اجتماعية، سرعان ما ينتظم الحضور حول خطاب سياسي من نوع ما أو مطلبي، ويكون السبب في بداية النضال- بوابات الكترونية أو منع الحضور والتواجد على درجات باب العامود أو اخلاء السكان من حي الشيخ جراح وبلدة سلوان كحدث مؤسس لبنية سرعان ما تتبلور بمجرد حضور المحتجين وتشكيلهم كجماعة فلسطينية مرتبطة بنسق الصراع الكلي والأكبر كبنية/بناء بصورة متجددة، فتفرض حالة الاشتباك اليومي الفلسطيني لاستعادة مكانه سلطة مضاعفة في تعبئة الحاضرين في المشهد أو حتى من الذين يكتفون "بالفرجة" عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليشكل عامل تحريض له لإثبات وجوده في المكان كجزء من النسق الفلسطيني وصنع الذاكرة والتاريخ الفلسطيني المحلي والكلي.
إن عملية التأثير النضالي على المشهد/الاشخاص، كإزاحة واستبدال لسلطة "احتلال الحواس" للمشهد/الوعي المقدسي كما تم علاجه سابقاً، يمر عبر بنية موازية تنبني في المكان وتتشكل بالقدر نفسه عبر استثمار مفرط للمعنى وللرموز المستخدمة الكلية، كرفع الاعلام الفلسطينية، والشعارات الوطنية، التكبير "الله أكبر" والأغاني الوطنية المتنوعة من "جنة جنة جنة ...حتى نارك جنة" وقوفاً على "نحميك بإيدينا" أو مناشدة رمزية لمقاومة غزة اليوم في الشيخ جراح "مشان الله... مشان الله... يا غزة يلا" ولا يقف الأمر عند ذلك، وإنما تحضر سلطة الصورة للمعتقلين الفلسطينين، ومطالبتهم بالابتسام" اضحك يا "سامر" للصورة" -في وضعية -جندي اسرائيلي يقف فوق جسده وهو ممد على الشارع ويضع ركبته على رقبه، وكأن الحدث المكاني في باب العامود..حي الشيخ جراح يعطي معنى أوسع لعالم المعاني الفلسطينية من الواقعة بحد ذاتها، لتتسع إلى ذاكرة وخطاب جمعي، ويتقاطع الفلسطيني هنا كفرد مع الجماعة وكأنه موصول مع التاريخ الكلي للفلسطيني في الحدث، تحاول الصورة أو الكاميرا ممارسة تأثيراً أكبر من الواقعة نفسها لمشهد الاعتقال أو التنكيل بالفلسطيني لحظياً، أو تحدي فتى لجندي مدجج بالأسلحة، لتمتلك الصورة سلطة وقوة من نوع رمزي ومعنوي بنفس الوقت، تتجاوز المكان ولحد بعيد المعلومة الموضوعية للقمع التي تحملها، لتقدم نفسها بصورة أكثر من الواقع وأكثر افصحاحاً عن الحياة التي يرغبها الفلسطيني في المساهمة ببناء وتشكيل بديل عن الواقع لصورة الفلسطيني في المخيلة الاجتماعية والسياسية، الذي يتم العمل عليها ويراد بنائها وتشييدها في هذا المكان.
مسألة الحفاظ على فلسطينية "المكان العام" كما هو حالة الحضور على درجات باب العامود، أو المكان الخاص متمثل بما تبقى له من أمان في بيته كما في بلدة سلوان-بطن الهوى أو حي الشيخ جراح، كمعقل أخير يفترض أن يشعر به الفلسطيني بالألفة والهوية المكانية له ولعائلته والدفاع عنه، يمثل الاستعمار ومليشيات المستوطنين كعوامل خطر ومنغصة، ومحددة لك في آخر بقعة من الصراع ليتحول بيتك حتى "كمكان عبور" كما تقول أم خالد "السيدة نهى عطية" تحول المنزل إلى سجن لا نستطيع مغادرته لكي لا يستولي عليه المستوطنين" وأبقى في الليل مرتدية المنديل... وبجانبنا أوراق مهمة لكي لا نخسرها في حال اقتحموا علينا المنزل لاخلائه" كما حدث مع عائلة الغاوي من نفس حي، حينما تم الاستيلاء على منزلهم عام 2009، ومكثوا في الشارع بجانب منزلهم لمدة ستة أشهر تحت شجرة التين، لعل أوراقها تغطي حالة الاعتوار والانكشاف الذي حدث لهم، وهو مرشح ليحدث لأي فلسطيني في اي مكان إذا خسرنا هذه الواقعة.
فرُشمت كلمة " لن نرحل" على المنازل المهددة بالإستيلاء عليها، وأصبحت هذه الشواهد وغيرها كمدماك لبناء الوعي ومنظمة للسلوك المقاوم اليومي للفلسطيني، وموجهة للفعل لمواقع ومواجهات أخرى، يدفع الفلسطيني للدفاع عن مكانه، وعن بيته وعن حيزه، يقول رمزي أحد المحتجين في باب العامود، ومتواجد أيضاً في حي الشيخ جراح " ما في اشي بنخسروا، اليوم بنخسر البيت في حي الشيخ الجراح، بكرة في بيتنا براس العامود، بعدها ببيت حنينا... موجودون صامدون ومتجذرون ما بقي الزعتر والزيتون شعار نمارسه، باقون هم سيذهبون ونحن باقون"، ملكه امتلاك المكان والمعنى والفعل نظرية ثورية تبلورت وجيئ بها من الماجهة والفعل، اللذان هما صمام امان لتوجيهه ومراقبة سلوكه اليومي، لإنزياح من المكان الشخصي الخاص، إلى الكل الفلسطيني في كل مكان، فتكون مسألة أعادة موضعة المكان كواقعة صغيرة بباب العامود، إلى خطاب وطني لكل يشمل كل المواقع، ليتجاوز بذلك شروط واكراهات الحداثة الاستعمارية المفرطة.
وعودة لأوجيه (1)(ص. 47 و 49) في مفهمة المكان ومحايثته للسياق الاستعماري الفلسطيني، يقول "المكان هو الحيز الذي يشغله السكان الأصليون، ويعيشون فيه ويدافعون عنه" ويتم بناء وتشييد هويته كجماعة بشرية أو قومية أو اجتماعية من خلال "المجموعة وتجمعهم وتوحدها"، وتحدد "عما ينبغي عليها حمايته في مواجهة الأخطار الخارجية لكي تحتفظ لغة الهوية بمعنى ما"، بهذه الدلالة يفسر سلوك تجمع الفلسطيني للدفاع عن مقدساته كرمزية للهوية وللجماعة الفلسطينية التي تشكل أساساً في هويته الوطنية، وعن الأماكن التي اعتاد أن يشرب القهوة عليها، والذي لا ينتظم فيه زمانه المقدسي إلا عليها، أو المنازل والبيوت كفضاء للعلاقات الاجتماعية والقيمية.
فتستدعي سياسة "أسرلة المكان" باعطاء ساحة باب العامود مسمى "هدار وهداس" في إشارة " لمجندتين من "حرس الحدود الاسرائيلي" واللتان قتلتا بنفس الساحة في عام 2016،- وهو نفس المكان الذي استبيح دماء فلسطينيين ليطلق الفلسطينيون عليه بإسم ساحة الشهداء-، وقفة احتجاجية ينظمها الفلسطينيون لمكان أصبح يحتفظ بالذاكرة المحلية اضافة للوطنية، فسياسة تغيير الأسماء بجانب أخرى تسعى لتحويل المكان الفلسطيني إلى اللامكان كما سبقت الاشارة، وتحولها إلى مكان للعبور" للمسافر" الفلسطيني، والمستخدم دون معاني دالة، إلم يستخدم الفلسطيني مسمى "معبر" على الحواجز العسكرية في الضفة وقطاع غزة؟ في اخفاق للغة.
وبالمقابل، إنجاز بموقع آخر في الدفاع وتشكيل الحضور اليومي كحالة نضالية في الدفاع عن حدود مجموعة فلسطينية التي عينت في المكان هويتها ولغتها وانتماءها، فالشارع أو الساحات بمفهوم بيات(2) ليست فقط مكاناً للتدفق، "وإنما أماكن تتشكل فيها هوياتهم ويوسعون صور التضامن ويوسعون دائرة احتجاجهم" لبلورة هوية أصلب وأمتن لهويتهم ما بعد المكانية الموقعية، فيهتف الحضور في ساحة الأقصى للشيخ جراح، وشباب باب العامود إلى القسام ومحمد الضيف، ويردد الحضور في حي الشيخ جراح يا أبو عبيدة يا عيوني فجر كريات شموني" وهيك علمنا عياش حمل المصحف والرشاش، ويسمع الضيف لصرخات حي الشيخ جراح، ليقول: لا تتمادوا أكثر، فحدود الفلسطيني في أي مكان يشكل وجوده، ويستيطع التعبير عن حضوره، ليعلن إن تشكيل الثكنة العسكرية الفلسطينية قد بدأ الاعداد لها.









(1) أوجيه، مارك ( 2018). اللاأمكنة: مدخل أنثروبولوجيا الحداثة المفرطة. ترجمة ميساء السيوفي. البحرين: هيئة البحرين للثقافة والآثار.
(2) بيات، أصف (2014). الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط. ترجمة أحمد زايد. القاهرة. المركز القومي للترجمة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in


.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا


.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي




.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا