الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضبط المعرفة وتهشيم العقل البشري

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2021 / 5 / 7
الصحافة والاعلام


قد يستقيم القول بأن ضبط المعرفة في المجتمع يمثل أحد أهم الأهداف الموضوعية للفئات المهيمنة على مصادر الثروة ومفاصل السلطة ومنافذ الإعلام في المجتمع الذي تتغول عليه، وهي المهمة التي لا بد من تحقيقها والحفاظ عليها لتحقيق استدامة الاستبداد والطغيان سواء بأشكاله الفجة أو المنمقة المزوقة بقشرة شكلية من الديمقراطية السطحية.
وحجر الزاوية في السيطرة على صناعة المعرفة وتدفقها يكمن في آلية صناعة الإعلام على المستوى الكوني المسيطر عليه من قِبَل شركات ومؤسسات معدودة؛ هي وكالات الأنباء والصحف العالمية المتسيدة، والمؤسسات الإعلامية الكبرى، وجميعها متواجد في العواصم الغربية الرئيسة، و هي المؤسسات التي تمتلك التمويل الكافي لنشر شبكة من المراسلين في عموم أرجاء المعمورة، تمكنها من الإمساك بمفاتيح «الغربلة الإعلامية» على المستوى العالمي، و تحديد ما هو جدير بأن يكون «خبراً إعلامياً»، وذلك الذي لا قيمة له ولا بد من ركله إلى زوايا النسيان والذاكرة الاجتماعية المثقوبة.
وجميع تلك المؤسسات تمثل المنبع الذي لا بد لكل المؤسسات الإعلامية الأصغر النهل منه واتباع إراداته، لعدم قدرتها على اتخاذ خط مستقل لها لحاجتها المطلقة للاستناد على نتاج تلك المؤسسات الإعلامية الأخطبوطية، والبناء عليها بتحرير وإعادة صياغة ما يرد إليها، دون أن يكون لها أي دور في تحديد جدارة تلك المادة إعلامياً، وذلك لحاجتها الموضوعية التي لا مهرب منها في ملء صفحاتها وساعات بثها بمادة إعلامية ما، وهي غير قادرة على إنتاج أصيل مضاه لتلك المادة المستوردة، لعدم امتلاكها القدرة التمويلية واللوجستية والإدارية لبث مراسلين في أرجاء المعمورة، كما تفعل وسائل الإعلام الأخطبوطية المتسيدة كونياً، في حقبة زمنية أصبح فيها تقديم تغطية إعلامية معولمة شرطاً لبقاء أي مؤسسة إعلامية صغيرة، لا يمكن لها أن تكتفي بتقديم حفنة من التغطيات المحلية البؤرية، كما كان الحال في القرن العشرين.
وهي نفسها وسائل الإعلام المتسيدة على المستوى الكوني، تمثل جزءاً عضوياً من منظومة المجمعات الصناعية العسكرية التقانية المهيمنة والحاكم الفعلي في المجتمعات الغربية. وهي في جوهر تكوينها البنيوي والوظيفي شركات عملاقة عابرة للقارات، ترتبط مصالحها بدوام هيمنة منظومة المجمعات الصناعية العسكرية التقانية التي تمتلك حصة الأسد من أسهم الكثير من الوسائل الإعلامية تلك، كما هو الحال في المثال الأكثر تبسيطاً عن صحيفة الواشنطن بوست المملوكة من قبل مالك شركة آمازون العابرة للقارات نفسها. وفي الواقع تمثل مؤسسات وشركات تلك المجمعات والتكتلات الممول الاقتصادي الفعلي لجل الوسائل الإعلامية المتسيدة عبر ما تنفقه عليها من عوائد إعلانية لقاء ما تقوم بالإعلان عنه في صفحات وبرامج تلك المؤسسات الإعلامية العملاقة.
وهنا يبرز الدور المحوري لتلك المؤسسات الإعلامية في تحويل مشاهديها، وكل الوسائل الإعلامية الصغرى التي تستقي من تلك الكبرى مادتها الإعلامية الخام، ومن يتلقى نتاج تلك المؤسسات الإعلامية الصغرى في نهاية المطاف، إلى «بضاعة» تقوم الوسائل الإعلامية الكبرى ببيع «آذانها وعيونها وعقولها» إلى المعلنين في تلك الوسائل الإعلامية، وهم في جلهم من أولئك المنخرطين في شبكة المجمعات الصناعية العسكرية التقانية وشركاتها العابرة للقارات، إذ أنهم الوحيدون القادرون على دفع الفواتير الإعلانية الباهظة في تلك الوسائل الإعلامية العملاقة والأخطبوطية على المستوى الكوني.
وبتلك الطريقة تقوم تلك الوسائل الإعلامية المتسيدة على المستوى الكوني بضبط إيقاع العمل الإعلامي على المستوى الكوني، بتناغم أوركسترالي مع إرادات ورغبات دافعي فواتير الإعلان فيها، الذين يتم فتح الأبواب على مصاريعها لإعلاناتهم في كل أحياز و أفضية و تلافيف نتاجها الإعلامي، مُعَززاً بما يتم استدماجه و توريته في أعمدة الرأي والتحقيقات والبرامج التي تنتجها و تخرجها تلك الوسيلة الإعلامية المتسيدة أو تلك لتعزيز رضا المعلنين فيها، وتثقيل القدرة الإقناعية لإعلاناتهم وصورتهم العمومية في عقول المتلقين، في التزام حديدي بالميثاق غير المكتوب الذي يستبطنه ولا يصرح به أي «صحفي حر مدجن» يعمل في تلك المؤسسات، ولا يريد أن «يقطع باب رزقه بيده» عبر محاولة التمرد على «ميثاق العمل الصحفي الحر الخلبي» ذاك الذي ينتج في نهاية المطاف نموذجاً فريداً من ضبط التدفق الإعلامي على المستوى الكوني قد يشعر بالحياء تجاهه رواد صناعة «البروباغندا النازية» إن قيض لهم الخروج من قبورهم، والتفرج على انتظام إيقاعه وتوريته بشكل شبه مطلق عصي على اكتشاف آلياته الداخلية دون تدقيق وتمحيص لا يتوفر للغالبية المطلقة من متلقي نتاجه الوقت والأدوات الكافية لذلك.
والخطير المهول والمرعب في آن معاً هو القفزة الشيطانية المريعة التي تمكن نمط «ضبط المعرفة الكوني» عبر الإعلام المتسيد من الانتقال إليه مع بروز وسائل التواصل الاجتماعي، كأدوات جديدة ثاقبة وشاملة في اختراقها لكل حيوات البشر في عموم أرجاء الأرضين.
ولما يتكشف بعد إلا قمة جبل الجليد في المستوى والعمق الذي وصلت إليه وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة شبكة فيسبوك في نقل «غربال الضبط المعرفي» إلى مستوى جديد حوله إلى «مبضع جراحي دقيق» قادر ليس على تحديد وتأطير و ترشيح و تنميق ما يصل إلى المتلقي فقط، وإنما قادراً على التلاعب بعواطف ومشاعر وانفعالات وارتكاسات ذلك المتلقي، والآليات العقلية التي يقوم من خلالها بالهضم المعرفي لما يتلاقاه، وصولاً إلى التمكن من «تحوير سلوك واتجاهات وآراء ومزاج ومعتقدات» المتلقي بشكل يستند إلى كوامن الضعف في آليات عمل الدماغ البشري وآلياته الإدراكية، التي لم يتم رتقها في رحلة تطور البشر التي امتدت على سبعة ملايين من السنين، قضى البشر الغالبية المطلقة منها في شروط حياة الصيد والالتقاط، و لما تتغربل بقوة الاصطفاء الطبيعي لتكون قادرة على التكيف ومقاومة مفاعيل تلك الأدوات والمنهجيات «الشيطانية» التي أنتجتها وسائل التواصل الاجتماعي، والتي نقلت فيها المتلقي من مرحلة «المتلقي السلبي المنفعل» لما يُقدم له، إلى مرحلة «المتلقي العجيني» الذي يمكن تحويره وتطويعه وتوجيهه بأي شكل يتسق مع أهداف المؤسسة الإعلامية، ومن ترتبط بهم من معلنين هم شركاؤها الفعليون في شبكة هيمنة المجمعات الصناعية العسكرية التقانية في الغرب، وشركاتها العابرة للقارات على المستوى الكوني.
وقد يكون التمظهر الأكثر وضوحاً لذلك الفعل «الإبليسي» ما تكشف في سياق فضيحة تشارك شركتي كامبردج أنالاتيكا «Cambridge Analytica» وشركة فيسبوك، في التأثير على مآلات انتخابات الولايات المتحدة في العام 2016 التي أفرزت انتخاب دونالد ترامب، عبر تصنيف حوالي ستين مليون ناخب أمريكي مستخدم لشبكات فيسبوك الأخطبوطية «فيسبوك، إنستغرام، واتساب» في مجموعات كبرى عبر تصنيف ميولاتهم النفسية وأنماط شخصياتهم بالاستناد إلى تحليل نشاطهم في الشبكات التي تملكها شركة فيسبوك، في أنماط نفسية و سلوكية خمسة كبرى تجمعها كلمة OCEAN وتتمثل في المحاور الكبرى التالية:
- الانفتاح (Openness) والذي يعني الميل الفطري للمشاركة في تجارب وخبرات جديدة، وإشباع الفضول، والميل المتواضع للتأني، والحذر، والتحوط، والتروي.
- الرشاد (Conscientiousness) والذي يعني الميل الفطري للتروي السلوكي والفكري والتعقل والانضباط العملي والأخلاقي، والميل القليل للانفعال والتهور.
- الانبساط (Extraversion) والذي يعني الميل النفسي الغريزي للتواصل مع الآخرين، والمشاركة في الحوار والجدال، والانضمام إلى مجموعات جديدة، والميل المتواضع للعزلة والتحفظ والسكينة.
- الطواعية (Agreeableness) والتي تعني الميل النفسي الفطري لدى شخص ما للموافقة والاستجابة والتطابق مع إرادات ورغبات المحيط الاجتماعي والآخرين الذين يتفاعل معهم، والميل المنخفض للفرادة والاستقلالية في التفكير واتخاذ القرارات بالاتكاء على قدرات العقل النقدي للوصول إلى أي قرار بالموافقة أو الرفض لموضوع ما.
- العصابية (Neuroticism) والتي تمثل الميل الفطري للتفكير بشكل سلبي وتلمس العواقب واستبصار المآلات المحتملة لأي فعل من منظار نكوصي، وهو ما ينتج عنه ميل أكثر للوقوع فريسة للخوف والقلق والغضب، والتحسر، والغيرة، والشعور بالذنب غير المبرر وغيرها من النزعات النفسية السلبية التي تتناقض مع العقلانية والواقعية والاستبصار الواعي.
وعقب تصنيف كل شخص في مجموعة ما بعد تقييم سلوكه ونشاطه على شبكات وسائل التواصل الاجتماعي بالاستناد إلى قدرات الذكاء الاصطناعي الفائقة، وبعيد منحه درجة محددة في كل من تلك التصنيفات الكبرى السالفة الذكر، يتم إخضاع كل تصنيف كبير منها إلى تقسيم لمجموعات فرعية صغرى تعطي درجة لكل من العناصر المميزة التي كانت مجتمعة تحت تصنيف أكبر، وبحيث يصل تصنيف كل شخص إلى درجة عالية من الدقة والكفاءة في توصيف نموذج شخصيته وآليات تفكيره وتفاعله النفسي مع أي مؤثر جديد يمكن تقديمه له. وهو ما نتج عنه تبجح شركة فيسبوك بالقيام ببحث علمي نشرته الشركة في العام 2014 في مجلة «نتاج الأكاديمية الوطنية للعلوم» في الولايات المتحدة، الذي وضح قدرة الشركة على «تخليق جائحة عاطفية لدى 689000 مستخدم» عبر التلاعب بما يردهم على صفحات فيسبوك من مواد لإنتاج مشاعر إيجابية أو سلبية» بالشكل الذي ترغب الشركة بتشكله لدى مستخدميها، وهو ما يعني عملياً قدرتها على صناعة «الشمق أو الاكتئاب الجمعي» كما يتفق مع مصالح إدارتها والمعلنين فيها.
والأداة الكبرى التي يتم استخدامها لتحقيق ذلك الهدف «الشيطاني» هو تقنيات «التصوير النفسي Psychographics» والتي تعمد إلى تقديم صور وخطاب وموسيقى مصاغة بشكل يتسق مع نمط الشخصية الدقيق الذي تم تصنيف مستخدم شبكة التواصل الاجتماعي فيه، بحيث تستمر تقنيات الذكاء الصناعي في تغيير وتحوير وإعادة صياغة ما يتم تقديمه من تصوير نفسي له، إلى حين قيامه بالسلوك المراد من المستخدم القيام به. والمرعب هنا هو أن قدرات الذكاء الاصطناعي في التعلم من الخطأ والتجربة غير محدودة، وتفوق قدرات أي دماغ بشري دائماً، وهي في هذا السياق تبدأ في تحقيق دورها «التخريبي» في صياغة سلوك البشر عبر تحييد قدراتهم الفطرية الدفاعية من خلال تصنيفهم نفسياً في بادئ الأمر، وتقديم نماذج من التصوير النفسي تتفق مع آلياتهم الفطرية في محاكمة كل ما يرد لهم، وهو ما يعني إبطال المناعة المعرفية الفطرية للإنسان العاقل إذا جاز التعبير، وتركه فريسة سهلة لقدرات الذكاء الاصطناعي اللامتناهية، والتي لا تكل ولا تمل إلى حين تحقيق الهدف النهائي المطلوب منها تحقيقه.
والمثال الأكثر وصفية على تلك النقلة الكارثية التي جلبتها وسائل التواصل الاجتماعي في تخليق «جائحة نفسية» مصطنعة تمثل في خلاصة تقرير الأمم المتحدة الذي حمّل شبكة فيسبوك مسؤولية «طوفان الغضب والهياج» الذي أنتج «جرائم الإبادة الجماعية بحق أقلية المسلمين الروهينجا» التي ارتكبها «نُسَّاك بوذيون» في دولة ميانمار في العامين 2016 و 2017، على الرغم من أن تعاليمهم الأخلاقية التي تشكل جوهر وجودهم وحياتهم اليومية كناسكين وفق المذهب البوذي المسالم، تحضهم على عكس كل ما قد قاموا به من انتهاكات «همجية» أظهرت في الإنسان المعاصر بجلاء عقل الحيوان الغريزي الذي لم يبارحه، والذي يمثل استنهاضه من قمقمه أحد بواكير عمليات الضبط المعرفي والإعلامي المعاصرة وفق نهج وسائل التواصل الاجتماعي «الشيطاني» والمنفلت من كل عقال أخلاقي عرفته البشرية من قبلها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل