الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإصرار على كليب حياً

كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي

(Kamal Ghobrial)

2021 / 5 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


نعرف جميعاً حرب البسوس القبائلية العربية الشهيرة. التي استمرت ستة وثلاثون عاماً بسبب ناقة امرأة كما تعودنا أن نقول. رغم أن الحقيقة هي أن رجل من أعيان القوم هو المهلهل بن أبي ربيعة كان طوال الوقت يتخذ من مقتل أخيه كليب مبرراً لاستمرار سفك الدماء إلى ما لا نهاية. وكلما عرضوا عليه شروطاً للصلح يضيف إليها شرطاً واحداً قائلاً: أريد كليباً حياً!!!
أتذكر تلك القصة كثيراً وأنا أستمع لحديث الكثيرين عن قضية فلسطين، والتي طال القتال حولها أكثر مما طالت حرب البسوس. وليس في هذه المقارنة تقليلاً من عدالة القضية الفلسطينية. فبالتأكيد كان مقتل كليب جريمة تستحق أن تقوم بسببها الحروب بين القبائل، بمقاييس ذلك الوقت على الأقل. وإن كنا مازلنا نرى الدنيا بذات المفاهيم، سواء كنا من أبناء يعرب حقيقة، أو كنا ممن أُجبروا على التنكر لأجدادهم الحقيقيين، لننسب أنفسنا لهذا اليعرب البدوي، الذي لم يلقن أبناءه وأحفاده غير حرفة الغزو والنهب والسلب.
لقد ظُلم المهلهل بن أبي ربيعة ولا شك حين تم قتل أخيه. لكن الشرط الذي كان يضعه لإنهاء القتال، وهو إعادة إحياء أخيه الميت، لم يكن الغرض منه رفع الظلم. فهو يعلم كما نعلم نحن أن هذا مستحيل. لكنه كان يقول ذلك كمبرر لاستمرار سفك الدماء إلى أبد الآبدين، تنفيساً لنوازع الحقد والكراهية المختزنة داخل نفسه. سواء بسبب قتل كليب كما كان يعلن للناس، أو بسبب طبيعته الشخصية وتكوينه الفكري، الذي ينزع لاستمراء مشاعر وأفكار الحقد الأسود الذي لا نهاية له، ولا يلطف من لظاه المشتعل بداخله غير سفك الدماء وحرق الأخضر واليابس. أو أن هناك أطرافاً خفية كانت تستغل هذ الرجل الحقود لتحقيق أهدافها السرية الخاصة، والتي لا علاقة لها بكليب الفقيد الكريم!!
هذا فيما أرى هو ذات موقف الكثيرين في قضية فلسطين. فلقد قُتل كليب الفلسطيني منذ أكثر من قرن كامل من الزمان مع تزايد الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وتم دفنه من أكثر من نصف قرن بقرار الأمم المتحدة للتقسيم وقيام دولة إسرائيل. لكن الدول العربية – مدفوعة بأغراض شتى – أبت أن تنهي الأمر عند هذا الحد، وأرادت "كليباً حياً". وخاضت حرب 1948 ليتم قتل المزيد من أخوة كليب وأبنائه. أي ضياع المزيد من الأرض الفلسطينية، وسفك المزيد من الدماء. ويستمر صراخ المهلهل والمتاجرين بقضيته، بالإصرار على استعادة كل الأرض السليبة من النهر إلى البحر. والأيام تمضي، وجسد كليب يتحلل في قبره، والأرض السليبة يتم هضمها في جسد الدولة الإسرائيلية. ونحن نبكي ونتباكى على حقنا المهدر، دون أن يجرؤ أحد – إلا قِله اتهمناها بالخيانة – على تخطي مأساة مصرع كليب، لوقف المحرقة التي تأتي على من تبقى من قبيلته، التي لا تعبأ بقطار الزمن، فتركها ومضى.
المشكلة أنه في قضية فلسطين، وبفضل تعاملنا غير الرشيد، والذي تدخلت فيه عناصر شتى غير القضية الأساسية، ومنها الأغراض الخفية والانتهازية للحكام العرب على مر العقود، والكراهية العقائدية عند بعض العناصر لليهود بصفتهم الدينية. وبغض النظر عن القضية محل النظر، بل وكثيراً ما يتم الاستناد لمبررات دينية تاريخية ترجع لأربعة عشر قرن مضى، لتكون النتيجة أنه صار لدينا أكثر من كليب قتيلاً.
لنبدأ - منذ زيارة السادات التاريخية للقدس – في الانقسام إلى فرق، كل منها يريد "كليباً حياً". فبعضهم - مثل جماعتي حماس والجهاد وحزب الله وجماعات فلسطينية علمانية أخرى – يريد "كليباً الأول حياً"، أي يريد تحرير الأرض السليبة من النهر إلى البحر. والبعض يترحم على "كليب الثاني" المتمثل في قرار التقسيم. والبعض تنازل واكتفى بالمطالبة بإحياء "كليب الثالث"، أي بحدود 1967 وقرار مجلس الأمن 242. بل أن هنالك مطالبات الآن بإحياء "كليب الرابع"، أي حدود ما قبل الانتفاضات المباركة!!
وبناء على أصالتنا وهويتنا العربية التي لم ينجح الزمن في تذويبها، انخرطنا في صراع داخلي ومزايدات وصراخ وتخوين وتكفير، فالأكثر حصافة وطلباً للسلامة أو للمزيد من الجماهيرية، هو من يطالب بإحياء "كليب مبكر"، من قائمة الكليبين التي تصير أطول مع توالي العقود والنضال المجيد. فمن ينادي بإحياء "كليب الأول"، كامل فلسطين، هو الأكثر وطنية وجماهيرية، ومن حقه تخوين وتكفير المطالبين بإحياء باقي "عائلة كليب العزيزة". وهكذا باقي الفئات كل منها متاح له تكفير وتخوين المطالبين بإحياء كليب أعلى درجة.
إذا كانت حرب البسوس الطاحنة قد جرت قبل الإسلام في العصر الجاهلي، وحكمتها العلاقات والمفاهيم والعادات الجاهلية. وإذا كان ما أوردناه من تحليل وتماثلات بينها وبين ما يجري الآن ومنذ عقود في التعامل مع قضية فلسطين يحوي قدراً من الدقة، فمن حقنا أن نسائل أنفسنا: متى نخلع عنا ثوب جاهليتنا، ومتى نطل برؤوسنا على القرن الحادي والعشرين؟!!
إننا نتحسب من إلقاء التهم جزافاً. فالمتابع لخطاب الجماعات الأصولية المتطرفة يستطيع أن يرصد مقولات واضحة لا لبس فيها، تؤكد أن الصراع ليس هدفه – من وجهة نظرهم – أرضاً ولا وطناً، وإنما الغل والعداء لليهود أعداء الله. وأن القضية الوطنية مجرد مناسبة مثلى، نستخدمها عند الحاجة كمبرر لقتلهم. تماماً كما اتخذ المهلهل بن أبي ربيعة مطلب إحياء كليب كمبرر لإشعال نيران لا تنطفئ، ما لم ينطفئ غل نفسه الذي لا نهاية له.
ربما لن نختلف كثيراً في موقف أنظمة الحكم العربية، والجاثم على قمة كل منها قائد ضرورة وبطل مظفر وزعيم ملهم، من مصلحته أن يرفع شعار "أريد كليباً حياً" وشعار "لا صوت يعلو على صوت إحياء كليب". ولا أظننا بحاجة لتوضيح ما يعود به هذا التكتيك من فوائد على القائد المناضل معبود الجماهير. وما يوفره من سنوات حكم مديدة، حتى يحين أجله بعد عمر طويل، ليتم تتويج ابنه القائد الملهم الصغير، الذي سرعان ما يصبح كبيراً!!!
هل من حقنا نحن الذين بتهور وعدم حصافة نضع أنفسنا في موضع الاتهام بالعمالة والكفر وإضمار السوء للوطن والدين، ونجعل من أجسادنا هدفاً لطلقات الرصاص، ولسيارات مفخخة يقودها الراغبون في دخول الجنة، هل من حقنا أن نتساءل من لشعب فلسطين وعائلاته ومستقبله؟!!
من منا يمتلك شجاعة التقدم للأمام دون أن يتجه برأسه للخلف؟!
من يقرر الكف عن البكاء على اللبن المسكوب، ويكرس جهده لإيقاف سكب المزيد من اللبن والأرواح ومقدرات الحياة؟!!
من يقرر الفكاك من عقدة الثأر الجاهلية، ويترحم على الأجداد وما كابدوه محاولاً أن يكون مصير الأبناء والأحفاد أكثر إنسانية وتوفيقاً؟!
من منا يمتلك الشجاعة والإخلاص للمناداة بعزل ومحاصرة أصحاب نهج عودة كليب حياً، نهج الحقد الأسود الذي لا يرتوي حتى لو سالت الدماء أنهاراً ومحيطات؟!!
من منا يجعل قضيته هي إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأكرر قول "ما يمكن" لا "ما يستحيل" إنقاذه؟!!
أم أن الوطنية ألا نكف حتى لو صار عدد كليب 300 مليون بين قتيل وفقير معدم وجاهل ومستعبد من حكام أشاوس. ومن مخدوع ومضلل من جوقات مثفقين وإعلاميين يجيدون استحلاب الدولارات والدراهم، بقدر ما يجيدون المزايدة ونعيق الشعارات؟!!
أم إننا أمة قررت الانتحار عن طيب خاطر؟!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحياتي
احمد علي الجندي ( 2021 / 5 / 20 - 09:28 )
سيدي حرب 1948 تشترك فيها اسرائيل ايضا
فهم اراضوا السيطرة على اكثر من الاراضي المتفق عليها

ثانيا
مع احترامي الشديد لماذا لا تنفذ اسرائيل اتفاقية اوسلو
وتتراجع عن اراضي الضفة الغربية وغيرها
ومتى يتوقف تهجير العرب من شرق القدس
ومتى يتوقف بناء المستوطنات في الخليل ونابلس

اخر الافلام

.. موريتانيا - مالي: علاقات على صفيح ساخن؟ • فرانس 24 / FRANCE


.. المغرب - إسبانيا: لماذا أعيد فتح التحقيق في قضية بيغاسوس للت




.. قطر تؤكد بقاء حماس في الدوحة | #غرفة_الأخبار


.. إسرائيل تكثف القصف بعد 200 يوم من الحرب | #غرفة_الأخبار




.. العرب الأميركيون مستاؤون من إقرار مجلس النواب حزمة مساعدات ج