الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طلعت الشميسه!

طارق حربي

2021 / 5 / 9
الادب والفن


يوميات مضيق الرمال
(21)
طلعت الشمّيسه*
بدأتِ الثلوجُ بالذوبان منذ أواخر شهر شباط الماضي، في وسط المملكة السعيدة النائية عن أزمات العالم، وجنوبها. لكن بقي شيء من الثلوج في الشمال، على الهضاب وقمم الجبال حتى الشتاء القادم وهكذا! وأشرقتِ الشمسُ بعد طول احتباس وراء الغيوم رمادية اللون، وقد يضطر المرء أحياناً إلى ارتداء النظارات الشمسية، لما تسببه تلك الغيوم المطبقة على القلب طوال شهور وما تسببه من كآبة ممدودة! لكن شهد الطقس في المضيق منذ مطلع شهر نيسان الماضي تحسناً ملحوظاً. ولولا الدفء والضوء الباهر لما ارتسمتْ الإبتسامة من جديد على شفاه حلوات المباسم النرويجيات، بل وحتى الأجنبيات! هل أحدثكم عن الجنس الهجين من تزاوج النرويجيين والأجانب؟ وكم هو لافتٌ في جماله ومرغوبٌ في سوق التغيير بأكثر من لون! إحدى أمنياتي خلال زيارتي إلى المكسيك قبل عامين، لو أن تلك الأمة تزاوجتْ مع غيرها من الأمم القريبة والبعيدة؟ ليأخذَ الهجينُ من العِرقينِ ما يجعله يأتي بخلق جديد فلا تبقى الأمة بعد ذلك متشابهة ومملة! ولولا شروق الشمس لما هُرع الأطفال إلى ملعبهم في وسط المدينة يلعبون ويمرحون، وبينهم أطفال لاجئون من سوريا هربوا من نيران الحرب المجنونة فيها. شيئاً فشيئاً تَخفَّفَ السكان من الثياب الصوفية ولا سيَّما المعاطف الشتائية، التي استُبدلتْ بالسترة (الجاكيت) والقمصان ذات اللون الفاتح. وبدأتِ النساءُ بوضع خفيف (المكياج)، مع أن البرد خلال الأشهر الماضية وضع (مكياجه الطبيعي) أي ألوانه على الخدود والوجنات والأعين الزرقاء الساحرة في لحظها وإيماءاتها، وسواها من أفانين لغة الأعين، وليس العيون كما يكتبُها البعض ممن اشتروا شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من الجامعات المصرية بالدولار! لا بالفهم والاجتهاد والمثابرة! فجمع العين على أعين لا عيون، لأنها من صِيَغِ الجموع!

أول ظهور لتأثير الصيف على السكان كان على تنورات الفتيات والنساء فقد بدأ موسم انحسارها إلى ما فوق الرُّكبِ! لتبرز السيقان ناعمُها وبضُّها ورشيقُها وممتلئُها (إجاك الصيف يا تارك الصلاة!)، وسارت في شوارع المضيق أحدث أنواع السيارات التي تسير بالطاقة الكهربائية ونوع تيسلا الأمريكية في صدارتها. وأحدث أنواع الدراجات النارية نوع في أم في دبليو الألمانية ونوع سوزوكي اليابانية، ما جعلني أشتاق لقيادة دراجتي نوع هوندا، وكنتُ أمَّنْتُها لدى صديقتي في تايلند كما ذكرتُ في يومياتي الأولى، بعدما قررتُ العودة إلى النرويج هرباً من الجائحة في نهاية شهر شباط من العام الماضي. واستعداداً للاحتفال السنوي في يوم الدستور في 17 مايو الجاري.

ومنذ الأسبوع الماضي رُفعتْ أعلام نرويجية صغيرة في واجهات المنازل والشقق وشرفاتها. وفي الجهة الشرقية للحديقة العامة القريبة من شقتي رفعتْ صباح أمس على سواري عالية أربعة أعلام كبيرة رفرفتْ في الرياح الخفيفة. ويصادف مرور الذكرى 200 على إقرار العَلم في عام 1814 وتمت تسميته رسمياً في عام 1905 بعد نهاية اتحاد النرويج مع السويد ونيل استقلالها منها بعد 91 عاما. النرويجيون الذين يحبون بلادهم أيما حب حرموا بسبب الجائحة من الاحتفال بعيده الوطني في العام الماضي، لكني احتفلتُ مع مجموعة قليلة منهم على ساحل البحر، رافعاً العلم الصغير بيدي، امتناناً للبلد الذي آواني مع ثلاثة أشقاء وأطعمني وكساني. في الحديقة العامة وإيذاناً ببدء فصل الصيف القصير مثل تنورات البنات، بدأ عمال بلدية المدينة وكما فعلوا في نفس الوقت من العام الماضي بزراعة بَصَليات زهور التوليب الكبيرة، ذات السيقان الطويلة حمراءها وأخضرها وأبيضها وأزرقها وبنفسجيّها. وما هي إلّا عشرة أيام حتى أخرجتْ شطأها من هشِّ التراب وتفتحتْ أوراقها الخضراء العريضة ناصلة اللون، كما لو كانت في الدقائق الأولى من خلق الطبيعة البِكْرْ. وسرعان ما حَطَّتْ حولها العصافير المشتاقة هي الأخرى إلى شمس الربيع وولادة الطبيعة، زقزقتْ ونفشتْ ناعم ريشها.

في الحديقة وتحت الأعلام مباشرة زرعوا لوحين بالورد ذي اللون البنفسجي، على هيئة علم النرويج حيث يتقاطع عمودان على شكل صليب. وكل الدول الاسكندنافية وضعتْ في أعلامها صلباناً بتأثير المسيحية، بل إن هناك ثلاثين دولة وضعتْ الصليب في أعلامها على رأسها أنكلترا وتابعتها أستراليا وسويسرا واليونان وأسبانيا إلى آخره. وليتَ النرويج المتخففة من المسيحية إلى درجة انحسارها في الكنائس أمام تقدم عوامل الازدهار والرفاهية، أن تحذف الصليب من علمها، وتضع بدلاً منه لا قرونَ الفايكنغ التي ترمز إلى الغزو والقتل وسرقة الشعوب باسم الغنائم، كما فعلت الوهابية السعودية بإغارتها على الشام وبصرى والعراق منذ مطلع القرن الثامن عشر، بل تصاميم لأشجار القيقب أو البتولا أو باقة ورد أو صورة لسمك القد الشهير هنا، الذي وضع رسمه مؤخراً على النقود من فئة 200 كرون! ويعتبر القد والسلمون وأنواع أخرى من سمك النرويج اللذيذ جزءاً من الثقافة والدخل خلال قرون طويلة على طول السواحل النرويجية، وكانت مهنة الصيد هي التي جلبت المستوطنين الأوائل إلى النرويج قبل حوالي 1100عاماً، وأصبحت صناعة تصدير الأسماك النرويجية هامة في العصور الوسطى ومساهمة في النظام الغذائي الأوروبي.
إنه فصل الربيع في النرويج ويا له من فصل له بالغ الأثر على نفوس القوم الذين عوَّضَ الكثيرون منهم أشهر الظلام الكئيبة بالسفر إلى الدول المشمسة! وأسسوا فيها أحياء سكنية في تلك الدول ومنها أسبانيا وأسواقاً ومتاجر وافتتحوا مدارس لأطفالهم، ولحقت بهم فروع من بنوكهم لتنظيم شؤون حياتهم ومكاتب بيع وشراء العقارات وغيرها!

وإذا كان أحد شعراء أمريكا اللاتينية كتب بأنه (يسمع صوت نمو الصوف في الخروف!) فإن روح الشاعر فيَّ ترى نمو البراعم في أيامها الأولى، ونتائج عمليات التمثيل الضوئي في الأشجار. فمشهدها وهي تخلع عنها رداء الشتاء أكثر ما يبهرني في موسم الربيع في النرويج. الأشجار التي يزرع منها أكثر من ثلاثين نوعاً أو هي طبيعية في الغابات، وتشكل أشجار التنوب والصنوبر والبتولا ما نسبته 90% من أنواع الأشجار في الغابات.
وأولى الأشجار التي تتفتح براعمها في ربيع مدينتنا السياحية هي أشجار البندق والألدر والصفصاف والبتولا. وتكمن أهمية الأشجار المزهرة إضافة إلى زخرفها المريح للأعين، في تلقيح الحشرات والتنوع البيولوجي، أما رحيق أزهارها فيكون غذاءً لكل من الفراشات والنحل الطنان.

نهضتِ الطبيعة من سباتها الطويل وطالتْ ساعات النهار وقصُرت ساعات الليل، وبدأتُ كما في كل فصول الصيف الماضية بغلق نافذة غرفة النوم بستارة سوداء اللون منعاً لتسرب الضوء وتسهيلاً للنوم، وطرداً لكوابيس الحرب العراقية الإيرانية التي ما فتئت تلاحقني حتى في أجمل المدن السيحية في شرق العالم وغربه! وانبسط العشبُ أخضر يانعاً في الحدائق العامة والمقابر، وفي القوس الساحلي حيث الباخرة في مرساها هادئة في حبالها منذ حوالي عام ونصف، كان البساط مرصعاً بأزهار طبيعية صفراء اللون تسمى في بلدان الخليج العربي (النوير). وخلال التجوال على الدراجة الهوائية صباح يوم أمس شاهدتُ في الانعطافة المطلة على الساحل قرب محل المساج التايلندي، لوحاً مساحتة متران في مترين مزروعاً بالتوليب فائق الجمال، نبتَ حوله النوير الذي بدا معزولاً عن اللوح مستجدياً الدخول في روضته! برعمتِ الأشجار في شوارع المدينة وتحت شقتي وعلتْ فوق التلال الصخرية الشاهقة المحيطة بالمدينة، وأمس مررتُ بجوار صخرة هائلة بعلو ستة رجال نبتتْ فوقها أشجار هزأت بثلوج الشتاء الماضي، وبدتْ مستعدة للعطاء بتفتح براعمها واستقبالها أسراباً من العصافير المزقزقة. ورحتُ خلال التجوال اليومي في الشوراع والأزقة الضيقة أراقب البراعم الصغيرة في نموها على الأغصان، ابتداء من يمين الباخرة حتى عيادة الطبيب البيطري ومكتب البواخر (كولور لاين). أركنُ دراجتي وأقف متأملاً جمال التبرعم وأول الخلق الفريد، كما لو أني لم أشاهد من قبل خلال تجوالي على الدراجة النارية جمال الطبيعة في أعماق غابات دول شرق آسيا وتركيا والمغرب والمكسيك وبيرو وشرق أوربا! وقفتُ هناك بالأمس وأتوقف هنا اليوم أمام البراعم البيضاء حيث لا يملك المرء أمامها إلّا الإبتسام كما يبتسم للرغيف الساخن. والخضراء المندفعة نحو الحياة متفكراً ومتأملاً في إبداع الطبيعة الخلّاق. إن هذا التأمل من بين ما تمنحه النرويج للإنسان خلال الفصول الأربعة!

في ضواحي المدينة ما وراء القوس والعيادة والمكتب، أبذل في المنحدر الصخري جهداً في قيادة الدراجة صعوداً، حيث تقف أشجار البتولا الباسقة التي تتجاور أزهارها الذكرية والأنثوية على امتداد أغصانها في عناقيد كثيفة، وتُعدُّ بما لها من رهبة وسموّ رمزاً لأصل الخصوبة والأنوثة في الحياة، وتُزرع استرضاء لروح الغابة كما ورد في الأساطير السلافية. ولها نوع من التبجيل لما لها من علاقة تاريخية بيسوع المسيح.

يتيح لي النظر إلى الأشجار من زوايا مختلفة جماليات الطبيعة في انكسار ضوء ورحيل غيمة وانفراج أغصان خلال اهتزازها لتظهر السماء الزرقاء خلل السحاب. أخص بالذكر شجيرات الساكورا المشذبة الرشيقة وأوراقها وردية اللون في مدخل المدينة الجنوبي من جهة البحر والمرفأ، وتبدو مثل فتيات التشريفات الملكية المنتظرات في ممر استقبال السيّاح. ومن خلال أغصان شجرة البتولا أرى تسابق السحاب أبيضه ورماديه في اتجاه البحر فاسحاً المجال لشروق شمس أكيد. أشجار ذات أوراق صغيرة أرجوانية اللون تفتحت براعمها قبل يومين تحرس متجر (Rimi) ومطعم البيتزا. براعم أشجار القيقب أنامل عروس في ابهى الحلل تتماهى مع ابتسامة امرأة عابرة مع كلبتها أسألها عن رسِّها فتجيب بأنها أنثى، وها هي تصحبها في جولة في الطقس الرائع!

خُيِّلَ إليَّ أن الأشجار والطبيعة التي أصبحتْ ملاذاً للبشر من الجائحة، تردُّ بقوة ليس على السبات الشتوي في النرويج وبلدان كثيرة غيرها حسب، لكن على الموت الذي خلفته الجائحة في دول العالم المختلفة خلال عام ونصف، وما تزال السلالات المتحورة من كوفيد-19 تضرب في الكثير من بلدان العالم وأشدها فتكاً المتحور الهندي، حيث أصيب به خلال الفترة الأخيرة أكثر من 20 مليون هندياً ومات الناس بالجملة في الهند حتى أن محارق البشر أضاءت سماء العاصمة دلهي.

Sandefjord
9/5/2021
________________________
قصة أنشودة (طلعت الشمَّيسه) على قبر عيشه*
عائشة هي زوجة الوالي العثماني ومؤسس دولة المماليك في العراق حسن باشا الذي حكم العراق عشرين عاماً (1704-1723م)
وعندما توفيت زوجه عائشة خاتون أمر بدفنها في داخل ضريح زمرد خاتون، وهي زوج الخليفه المستضيء ووالدة الخليفة العباسي الناصر لدين الله، ويغد قبرها من المقرنصات الأعلى في مقبرة الكرخ ببغداد. ونظراً لعلوه وأن الشمس تشرق عليه قبل سائر القبور والأضرحة، فقد ارتبطتْ هذه الحادثة بالموروث الشعبي البغدادي شفاهياً من خلال أنشودة أطفال مشهورة تصف طلوع الشمس على قبرها أي قبر "عيشه" تصغيراً وتحبباً لإسم عائشة.
طلعت الشمّيسه
على قبر عيشه
عيشه بنت الباشا
تلعب بالخرخاشه
صاح الديك في البستان
الله ينصر السلطان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال


.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة




.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة