الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البعثيون وقضايا الإسلام وتاريخ الأمة القومي (5)

جعفر المظفر

2021 / 5 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


لكن الدكتورإلياس فرح الشديد الإعجاب بعفلق جعلني أعتقد أن آخر مكان للفيلسوف هو العمل السياسي. وهو نفسه لم يكن مهتما بهذا العمل بل كان جل إهتمامه قد إنصب على الجانب الفكري, وقد كان مولعا بعفلق إلى حد كبير حتى قيل عنه أنه كان قد كرس قلمه لشرح نظريات هذا الأخير وإنه لا يملك مكانا خارج عقل أستاذه.
لكن الوقوف أمام حدث كبير كالإنقلاب على شرعية القيادة القومية للحزب وإقصائها عن طريق الإنقلاب والتمرد العسكري في 23 تشرين عام 1966 بدلا من الإحتكام للنظام الداخلي ولقرارات المؤتمرات القومية قد أدى من جانبه إلى تكريس ميله لمناقشة المتغيرات الجوهرية من خلال الألتزام بالنظام الداخلي, ولذلك رأيته محافظا على "النمطية" البعثية التي تعبر عن نفسها بإسقاط ما هو قومي عام على ما هو وطني خاص ودون أن يعطي إهتماما كبيرا لقلب المعادلة, اي الذهاب إلى القومي من خلال الوطني.
وكان عذره في ذلك أنه كان من جيل ذا علاقة بالثقافة القومية التي تصاعد تأثيرها نتيجة للنضال ضد الإستعمار العثماني, وهو نضال لم يكن أمامه فرص كبيرة للإهتمام بالجانب الوطني لكل قطر على حدة, ولذلك فلم تكن بوصلة العمل الوطني, وخاصة على الصعيد السوري, قد دخلت بعد لكي تكون واحدة من أهم الوسائل والآليات التي تتحكم بتوجهات النضال من أجل الإستقلال, لأن العرب المعاصرون لما سمي بثورة العرب الكبرى التي قادها الشريف حسين من الحجاز كانوا قد عاشوا حلم تأسيس وطن عربي واحد وإنضموا إلى جيوش الحلفاء بعد أن وعدهم هؤلاء بتحقيق ذلك الحلم. وحينما غدر الإنكليز والفرنسيون بهم من خلال إعلانهم لإتفاقية سايكس بيكو التي وزعت البلدان العربية على الحليفين فقد إنصب جل العمل القومي على رفض هذه الإتفاقية رفضا قاطعا وإعتبروها أساس البلاء.
لقد كان إلياس فرح وغيره من المنظرين القوميين من جيل رأى الوطنية بإعتبارها مفهوما قطريا مدانا وناتجا عن إتفاقية سايكس بيكو, حتى كأن العرب قبل تلك الإتفاقية كانوا أمة موحدة ثم أصبحوا أقطارا متفرقين بفعل تلك الإتفاقية وحدها! وإن ذلك لا يعني أن الإتفاقية غير مدانة بوصفها عملا إستعماريا لكنه في نفس الوقت لا يجيز الإعتقاد بأن العرب كانوا قبل هذه الإتفاقية أمة واحدة بالعرف الإجتماعي والسياسي والقانوني.
الواقع أن العرب كانوا قد تفرقوا إلى بلدان متعددة وبخاصة في أعقاب إنهيار إمبراطوريتهم العباسية, وظلوا على الأقل طيلة السبعة قرون التي تلت ذلك الإنهيار في ظل الحكم العثماني متفرقين إلى بلدان وولايات قُدٍّر لها أن تخضع إلى سياقات متفرقة. ونرى أن مصر لم تخضع للهيمنة المركزية العثمانية كما خضعت لها سوريا, وحتى العراق فقد ظل مقسما إلى ثلاث ولايات لم يتصل بعضها ببعض إلا في القرون الثلاثة الأخيرة قبل الإنهيار العثماني يوم قرر الأتراك بسط سيطرتهم المركزية على تلك الولايات المنفلتة التي كادت كل ولاية منها أن تشكل دولة لحالها.
وليس ببعيد عنا محاولة تأسيس دولة البصرة أو تلك المسارات التي خضعت لها ولاية الموصل والتي ظل العثمانيون, وحتى الأتراك المناهضين للدولة العثمانية من جماعة الإتحاد والترقي مثلا, غير ميالين للتخلي عنها ولم يوافقوا على إنسلاخها عن سيطرتهم المركزية.
ولقد كاد الأمر أن يصل إلى حد ضم البصرة إلى دولة الهند بعد أن إعتبرها الإنكليز وفقا لمصالحهم الإستعمارية بوابة لإمبراطوريتهم التي كان تعتبر الهند جوهرة التاج البريطاني, وحتى أن الإقتصاد الإنكليزي كان يعتمد كثيرا قبل إكتشاف النفط على العائدات التي يستحصلها البريطانيون من شركة الهند الشرقية التي أشرفت على التجارة مع الهند إضافة إلى جميع المستعمرات البريطانية في جنوب شرق أسيا, ولذلك نرى أن مقص سايكس بيكو كان يستعمل شفراته وإلى حد كبير وفق ما تمليه عليه مصالحه التجارية.
لكن القول بذلك سيكون سيكون بمثابة محض تبسيط لو أننا أهملنا تلك العوامل الجيوسياسية التي كان يعلم بأهميتها المستعمرون الإنكليز والفرنسيين والتي يُعْتمد عليها كثيرا لتأسيس الدول حتى بدت إتفاقية سايكس بيكو وكأنها عودة حقيقية إلى واقع كان قد ساد قديما حينما كان العراق عراقا ومصر مصرا والشام شاما, والجزائر أيضا جزائراً.
خلاصة القول المناطق العربية التي كانت خاضعة للدولة العثمانية صار مقدرا لها أن تخضع لإسقاطات حالات التجزئة والإبتعاد عن بعضها البعض بما يسمح بنشوء كيانات قطرية وثقافة وطنية نقيضة للإستعمار, كلٌ على حدة, وقد إعتمد الحلفاء الأنكليز والفرنسيين على هذه الخاصية وأضافوها لعامل المصلحة الإقتصادية يوم راح مقصهم السايكسبيكوي يقسم المنطقة إلى مناطق خاضعة للإستعمار الإنكليزي وأخرى تابعة للحليف الفرنسي.
غير أن "الشاميين" كانوا قد عاصروا حالة سياسية نوعية مؤثرة غير تلك التي عاصرها العراقيون. المقص الإنكليزي الفرنسي كرس تقسيم بلاد الشام إلى أربعة أقسام هي سوريا وفلسطين ولبنان والأردن. وكان العامل الأشد تأثيرا هو منح فلسطين لليهود بعد الإعلان البلفوري المشؤوم بما أثر أولا على الشاميين أنفسهم الذين كان دافعهم نحو الوحدة بمثابة دفاع عن النفس والذات والهوية والمصير.
أما على الصعيد العراقي فلم تفعل إتفاقية سايكس بيكو مثل ما فعلته مع الشام, بل أنها على العكس من ذلك رأيناها توحد الولايات العراقية الثلاث تحت راية بلد واحد هو المملكة العراقية برئاسة الملك فيصل.
ولا يعني ذلك مطلقا أن العراقيين لم يكونوا ميالين للوحدة وإنما يعني أن نزوع السوريين نحوها كان أشد إنطلاقا من حقيقة أن سايكس بيكو قد ساهمت بتكريس تقسيم سوريا الكبرى إلى كيانات متفرقة (رفضت سوريا فتح سفارة لها في بيروت حتى فترة متأخرة), وأن زرع الكيان الصهيوني قد جاء لغرض الفصل ما بين ا بلاد الشام قبل غيرها من البلدان العربية, لذلك كان حماس السوريين نحو الفكر القومي حماسا بنيويا ذاتيا, وكانوا بالتالي روادا في تبني الفكر القومي والدعوة له. أما العراقيون فكانوا في تلك الفترة متلقين لهذا الفكر أكثر مما كانوا روادا له.
وبعد ذلك وإثر تصاعد تأثير الصراع ضد الصهيونية فقد أخذ التيار القومي في العراق يتصاعد وخاصة داخل صفوف الجيش, ومما ساهم بصعوده بروز الزعامة الناصرية في مصر بعد العدوان الثلاثي على إثر تأميم قناة السويس حيث راحت شعبية عبدالناصر عربيا تتصاعد بشكل صاروخي. وقد رأينا بعدها كيف أن السوريين قد مشوا بأرجلهم للوحدة مع عبدالناصر في حين راح السياسيون العراقيون برئاسة نوري السعيد يعارضون تلك الوحدة السورية المصرية ويتآمرون عليها.
لكن الأمور عراقيا لم تقف عند هذا الحد, فالنزوع القومي كان أشد في المناطق الغربية عنه مما في الجنوب العرقي ومناطق الفرات الأوسط بسبب من ثنائية الطائفة. إن الشيعة بعد إنهيار الدولة العثمانية لم يكونوا مهتمين كثيرا بالعامل القومي. في البداية نراهم وقفوا لدوافع دينية ضد الحلفاء إلى جانب العثمانيين وذلك عكس السنة الذين إنضم سياسيوهم, وخاصة أولئك المتواجدين في إسطنبول من أمثال نوري السعيد إلى جيش الشريف حسين وغادروا مع إبنه فيصل إلى دمشق أولا وبعدها إلى العراق, حيث لعب نوري السعيد دورا مركزيا في مجابهة وحدة سوريا ومصر بعد أن كان عروبي التوجه في بدايته, ومن ثم صار عراقيا ومهتما بقيام الإتحاد الهاشمي بين العراق والأردن ليس من منطلق قومي وإنما لغرض مواجهة المد القومي المصري السوري ومنسجما مع الموقف البريطاني والغربي بشكل عام ضد وحدة مصر وسوريا (1958).
وهنا فإن علينا أن نبحث الأمر بعيدا عن إطلاق التوصيفات الطائفية التي صارت العادة في يومنا الحالي أن نطلقها بشكل متعجل أما لسطحية التفكيرأو للنيل من الخصم أو لمشاعر طائفية مضادة متأصلة, لأن موقف الشيعة من الدولة القومية أو الوطنية آنذاك كان محكوما بما كان عليه وضع الطوائف العراقية تحت الحكم العثماني الذي إمتد قبلها لقرون, والذي سمح بقيام كيان شيعي داخل الجسم العثماني للدولة, كما أن المشهد السني قد نتج بشكل موازي, ومع علاقة قياديه بالدولة العثمانية, ومن ثم ضدها في مساندة الثورة التي قادها الشريف حسين وبمشاركة منهم فيها .
وسوف يساعدنا ذلك على القول أن الجسم العراقي لم يكن محكوما بنفس عوامل الضغط التي كانت مسلطة على الجسم السوري أو الجسم المصري, وأن العراق الذي حمل مع جسمه الجديد مواطنين أكراد بحجم يقترب من رُبْعِه صار يبحث عن حل عراقي أكثر من الحل القومي.
ويمكن من خلال عودة سريعة للتصنيف السياسي في العراق بعد سقوط الحكم الملكي مباشرة ان يمنحنا قدرا كبيرا من معرفة ناتج العقود الأخيرة. في ذلك المشهد السياسي كان أغلب القوميين هم من عسكر المنطقة الغربية والموصل, في وقت كان فيه أغلب شيعة الجنوب والفرات الأوسط وبغداد مع الشيوعيين ومع عبدالكريم قاسم. وبينما كان الموقف العراقي من الوحدة محكوما ومتأثرا بحدة بهذا التقسيم فإن الموقف السوري كان إلى حد كبير على النقيض أو فلنقل مختلفا بحدة.
إن غاية هذا التوصيف ليس التأكيد على وجود صراع شيعي سني طائفي في تلك الفترة, وإنما يهدف إلى القول أن هذا التقسيم الإجتماعي غير المُفعل, لا إجتماعيا ولا سياسيا, قد ساهم إلى حد كبير في تحديد إتجاه الفئات الإجتماعية من المسألة القومية, لأن الطائفية المفعلة سياسيا لم تكن قد نشبت أظافرها بعد في جسم المنطقة إلا بعد قيام الثورة الخمينية في إيران, أما قبل ذلك فكانت قد إقتربت لأن تكون (طويفية) إجتماعية غير مُفعّلة سياسيا. ولهذا, ولغيرها من العوامل التي اشرت إليها ولو على عجل, وحين كان الإتجاه القومي السوري طاغيا على إتجاهه الوطني فإن الإتجاه الوطني العراقي كان طاغيا على المشاعر القومية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجناح العسكري لحركة حماس يواصل التصعيد ضد الأردن


.. وزير الدفاع الروسي يتوعد بضرب إمدادات الأسلحة الغربية في أوك




.. انتشال جثث 35 شهيدا من المقبرة الجماعية بمستشفى ناصر في خان


.. أثناء زيارته لـ-غازي عنتاب-.. استقبال رئيس ألمانيا بأعلام فل




.. تفاصيل مبادرة بالجنوب السوري لتطبيق القرار رقم 2254