الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نهاية تولستوي بعد الاعتراف كأديب1 /2

داود السلمان

2021 / 5 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بعد "الاعتراف" و"عقيدتي" يعتبر تولستوي قد انتهى كأديب كبير وكاتب لا يقل اهمية وشأنا عن دوستويفسكي، فتولستوي لم ينتج لنا عملا ابداعيا بضخامة "الحرب والسلم" و "أنا كارنينا" و "البعث" وغيرها من الاعمال الابداعية التي ظلت متألقة في سماء الابداع لسنوات طويلة. لقد ضربت سواحل فكره موجة عاتية من امواج الشك والندم معا، فأوصلته الى ما وصل اليه اخيرا.
تولستوي هو ليس الاول او الاخير ممن يكتب اعترافاته فيعترف للقارئ ولنفسه، بل سبقه القديس اوغسطين من ذي قبل، وكان هذا الاخير قد مر بعاصفة من الشك هزت اركان ايمانه، وهو فيلسوف لاهوتي غارق في التديّن، من اخمص قدميه حتى هامته، ففلسفته مبنية على الوجود وبنيانها قام أُسس على الميتافيزيقا، فهو بمعنى آخر قسيس في عباءة فيلسوف، او فيلسوف في جبة قسيس، (نأخذ بعين الاعتبار إن الفلسفة الاوربية في العصر الوسيط هي جُلها فلسفة لاهوتية تجمع ما بين الدين والفلسفة، واحيانا تفضل الدين على الفلسفة وتعد الوحي ركن اساسي في فلسفتها). فأوغسطين الذي كان ابوه وثني وامه مسيحية اعتنق المسيحية عن طريق امه ثم تحوّل الى المانوية، ثم انتابه الشك والحيرة فتحول تارة اخرى الى المسيحية، وانتهى الى قسيس يمتهن الفلسفة.
كذلك سبق تولستوي روسو في "الاعترافات" حيث اعترف على نفسه بأشياء قال عنها بعض النقاد هي ليست حقيقية بل بالغ فيها روسو لأجل الشهرة والمصداقية معا. لكن شتان بين اعترافات اوغسطين واعترافات روسو. والاعترافات عبارة عن سيرة ذاتية تناولها روسو وطرح من خلالها قضايا كثيرة.
وثمة مقولة لبعض المفكرين ترى أن من يبدأ بالشك ينتهي بالإيمان، ومن يبدأ بالإيمان ينتهي بالشك، وهذه المقولة كادت أن تصبح قاعدة كما جرى لكثير من المفكرين، كون العقل والتفكير والتأمل لا تصل بالإنسان الى التصديق بالقضايا الميتافيزيقية، وذلك محال. فالإنسان، حينما يرى الطرق مؤصدة امامه، يتجه الى الغيبيات ويلوذ بشبح الدين، لأنه لم يجد غير ذلك ملاذنا. وهذا ما حدث لتولستوي تماما. فتولستوي رغم أنه ثري ووصل الى شهرة ادبية عالية، لكنه في نهاية الامر صدُم بعقبات نفسية، وذاق ذرعا بأمور فكرية وروحية لم يجد لها حلا في الفكر وفي العلم وفي الفلسفة، ذهب لعله يجد الحلول في الدين، فرأى أنه هو خير من يعطي الحلول للتساؤلات التي لم يجد لها حلا في اروقة العلم والتجارب.
يقول: "بحثت في كل العلوم، ولكني لم أظفر بما أردت، بل اقتنعت بأن كل من كان مثلي يبحث في المعارف الإنسانية عن معنى الحياة لا يجد مثلي شيئًا، لم أظفر بشيء، ولم يكن هذا كل ما في الأمر، ولكني أيقنت يقينًا لا شك فيه أن الأمر الذي دفعني إلى اليأس - وأقصد خلو الحياة من المعنى - هو ذاته الشيء الوحيد الذي لا يعتريه شك والذي يستطيع أن يعرفه الإنسان".
فقد انتابته تساؤلات وتخيلات وشكوك دارت في مخيلته، فأصُيب بحيرة وخذلان فكري لم يسعفه للإجابة عن تلك التساؤلات، حتى كاد أن ينتحر ليضع حدا لتلك التخيلات والشكوك والحيرة القاتلة، كما قال هو بالحرف الواحد في اعترافاته.
"إن سؤالي الذي حفزني إلى حافة الانتحار وأنا في الخمسين من عمري كان أيسر الأسئلة جميعًا، وهو يتردد في صدر كل إنسان من الطفل الغر إلى الراشد الحكيم: هو سؤال لا يستطيع المرء أن يحيا دون أن يجيب عنه — كما تبيَّن لي من تجاربي، ذلك السؤال هو: «ما وراء ما أفعل اليوم أو ما سوف أفعل في غدي — بل ما وراء حياتي كلها؟»".
ومن تلك التساؤلات التي بدأت تلح عليه هو سؤال الحياة الكبير، هو ما هي الجدوى من هذه الحياة التي نحياها بقسوتها وبمرارتها وبآلامها، أي ما هو الهدف؟ وهل تنتظرنا حياة أخرى بعد أن نموت وتفنى اجسادنا؟. وهو سؤال ليس بجديد ولكثير من الفلاسفة والمفكرين اجابوا عليه بإجابات مختلفة.
"ونستطيع أن نعبر بوجه عام عن العلاقة بين العلوم التجريبية ومشكلة الحياة بهذه العبارة؛ السؤال: «لماذا أعيش؟» الجواب: «في الفضاء اللانهائي، وفي الزمان اللانهائي، تتغير أشكال الجزيئات المتناهية في الصغر إلى صور من التعقيد لا نهاية لها، فإن فهمت قوانين تغير الصور أدركت لماذا تعيش فوق الأرض".
تولستوي يعد العلم التجريبي لا يعطي اجابة شافية عن كل الذي نراه شاخصا امامنا في الوجود، أي مادية وغير مادية على حد سواء، بمعنى أن العلم قاصر وادوات العلم مقصرة، فلا يجب أن نعوّل على العلم، فثمة اشياء لا تثبتها التجربة، بحسب رأيه، ناسيا أن الخرافة خرافة، وإن صدّقها ملايين الناس، وخصوصا القضايا الدينية هي الاقرب الى الاساطير والخرفات، والاشياء التي هي بعيدة كل البعد عن العقل والمنطق السليم.
"فالعلم التجريبي إذن لا يعطينا سوى المعرفة الإيجابية، ويعرض عظمة العقل الإنساني حينما لا يتعرض في بحوثه لموضوعِ السبب النهائي، وعلى العكس من ذلك لا يكون العلم المعنوي علمًا يعرض عظمة العقل الإنساني إلا إذا استبعد جانبًا المسائل التي تتعلق بالأسباب والمسببات في ظواهر الكون، ولم ينظر إلى الإنسان إلا من حيث علاقته بالسبب النهائي، هذا هو موقف علوم الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) أو الفلسفة في ميدان العلوم التي يتكون منها أحد قطبي الدائرة، هذا العلم يعرض هذه الأسئلة في وضوح وجلاء «من أنا؟ وما الكون؟ ولماذا وجدت، ولماذا وجد العالم؟» ومذ وجد هذا العلم كان دائمًا يقدم لنا جوابًا واحدًا لا يتغير، وسواء يُسمى الفيلسوف خلاصة الحياة الكائنة في نفسي والكائنة في كل موجود «بالفكرة» أو «المادة» أو «الروح» أو «الإرادة» فهو لا يفتأ يقول إن هذه الخلاصة موجودة، وإني أنا منها، ولكنه لا يعرف لماذا، ولا يقول لماذا، إن كان من المفكرين الدقيقين، وأنا أسأل «لماذا توجد هذه الخلاصة؟ وماذا ينجم عن وجودها الآن ووجودها مستقبلًا؟»… والفلسفة لا تجيب عن هذا السؤال، بل أنها لتسأله هي نفسها، وإن كانت فلسفة حقيقية فإن كل جهدها ينحصر في وضع هذا السؤال في صيغة واضحة، وإن لزمت واجبها لا تستطيع الإجابة عن السؤال «مَن أنا، وما الكون؟» إلا بقولها «كل شيء ولا شيء.» كما تُجيب عن هذا السؤال: «لماذا؟» بقولها «لست أدري»".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟


.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على




.. شهداء جراء قصف إسرائيلي استهدف منزل عائلة الجزار في مدينة غز


.. قوات الاحتلال تقتحم طولكرم ومخيم نور شمس بالضفة الغربية




.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية