الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مجرد إجراءات.. قصة قصيرة

حسن الشامي

2021 / 5 / 12
الادب والفن


كان يجلس مسترخيا..
الوقت عصرا.. والشمس تغمر المكان بالدفء والنور..
وصوت فيروز يأتي من بعيد عبر النافذة تغنى للقدس..
"يا قدس يا مدينة الصلاة"..
............

نهض.. أدار زر الراديو الصغير على عجل..
جاءه صوت فيروز أكثر قربا هذه المرة..
أحس بارتياح كعودة الطائر المتعب بعد طول عناء..
............

نظر إلى سقف الحجرة..
لم يعد يفكر الآن إلا في شئ واحد.. لماذا أحب صوت فيروز إلى حد الجنون ؟!!
"لن يقفل باب مدينتنا..
فأنا ذاهبة لأصلي"..
............

تجول ببصره في أرجاء الحجرة..
لم يعد يشعر بالمرارة الآن..
الحجرة ضيقة.. ولكن مع صوت فيروز لا يحس بضيقها.. بل تصبح أكثر اتساعا..
............

ينسى غربته بعيدا عن أهله بسبب الوظيفة..
ينسى كل متاعب الدنيا..
يحس أن صوت فيروز وهي تغني تذكرة مجانية للسفر إلى الفردوس..
............

انتهت الأغنية.. ولكن أحلامه لم تنتهي..
سرح بفكره قليلا..
جاءه صوت المذيع يقرأ نشرة أخبار الخامسة مساء..
"إسرائيل تواصل البناء فوق جبل أبو غنيم بالقدس الشرقية.. ومظاهرات بالخليل بين الفلسطينيين والشرطة.. واشتباكات بالأيدي بين جماعة "السلام الآن" والشرطة الإسرائيلية.. وتراشق بالحجارة.. والشرطة ترد بالرصاص المطاطي.. والقنابل المسيلة للدموع"..
............

امتعض.. مصمص شفتيه..
ود لو يفعل شيئا.. نهض.. وقام يذرع الحجرة جيئة وذهابا..
وقف.. رفع كوب الماء إلى شفتيه.. أحس بمرارة في طعم الماء.. أول مرة يحس أن طعم الماء يمكن أن يتغير تبعا للحالة النفسية..
............

أحضر ورقا وقلما وجلس إلى المائدة..
كتب رسالة إلى محرر "جريدة الأهرام" للاعتراض على خبر قرأه مذيع نشرة الأخبار "سي إن إن CNN" حول القدس..
............

سرح بفكره قليلا..
وتذكر أن بواب المصلحة أخبره اليوم أن شخصا سأل عنه أمس..
وعندما سأل البواب عنه وهل ترك أسمه ومن يكون وماذا يريد ؟!!
فقال له البواب :
ـ لم يذكر شيئا.. وقال إنه يعرفك..
............

قدح ذهنه..
من يا ترى يسأل عنه في يوم أجازته ؟!!
أصدقاؤه يعرفون يوم أجازته.. ويعرفون عنوان منزله..
وأهله في القرية جميعهم ولا يفكرون في الحضور إلى مقر عمله مهما كانت الظروف والأحوال.. وهو دائم الزيارة للقرية والسؤال عنهم..
فمن إذا يا ترى الذي سأل علي ؟ وماذا يريد ؟!!
ظهر الضجر على وجهه فجأة عندما توصل إلى فكرة سرعان ما أقصاها عن ذهنه..
............

أمسك القلم وحاول الكتابة..
ذهنه مشغول..
لم يجرب الكتابة قط وذهنه مشغول هكذا..
من الصعب على الإنسان أن يفكر في شئ.. ويحاول كتابة شئ أخر تماما !!
رسم عدة خطوط على الورقة.. كانت خطوطا بلا معنى..
وتذكر مقالا قرأه في إحدى الصحف عن مندوبي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.. الذين كانوا يرسمون أشكالا أمامهم حينما كانوا يستمعون إلى كلمات مندوبي الوفود الأخرى.. وجاء في المقال أن بعض الأطباء في علم النفس حاولوا تفسيرها.. وتعجب.. ألا يشغلهم من أمر العالم إلا مثل هذه الأمور التافهة !!!
............

وتساءل والحزن بعصر قليه :
ـ ألم يعلموا أن أمريكا استخدمت حق الاعتراض "الفيتو" مرتين في أسبوعيين متتاليين لمنع مجلس الأمن الدولي من إدانة إسرائيل بسبب بناء المستوطنات في جبل أبو غنيم بالقدس الشرقية ؟!!..
وتساءل بصوت عال وهو حزين :
ـ هل اهتم علماء النفس بتحليل هذه الظاهرة ؟!!
............

أمسك صحيفة الصباح.. كان قد قرأها أثناء العمل.. فهناك متسع من الوقت لذلك..
ولكنه أمسكها الآن ليشغل نفسه.. صافحت عينيه عناوين ضخمة..
"معارك مستمرة في زائير.. وزعيم المتمردين يؤكد سقوط العاصمة خلال ثلاثة أسابيع"..
تعجب.. أبناء الشعب الواحد يتقاتلون بينهم طمعا في السلطة.. وباقي الشعب يتضور جوعا.. وكثيرون منهم لاجئون على الحدود بدون مأوى!!!
............

غمرت وجهه سحابة حزن..
شتان بين الأمس واليوم..
تذكر عناوين الصحف من عشرين عاما :
"الثوار الفيتناميون يقتربون من العاصمة سايجون ويشددون هجماتهم على الطرق المؤدية إليها ويقطعون خطوط التموين عنها"..
كان ذلك ليحرروها من العدو..
غمرت وجهه.. وقتها.. ابتسامة كبيرة..
فالشعب الفيتنامي أجبر أعداءه على الانسحاب ولقنهم دروسا لا تنسى..
وقتها.. كانت أيام الاستعمار الأخيرة تدنو..
الآن.. ماذا تفعل أمريكا..
حروب في كل مكان بين أبناء الوطن الواحد..
حصار وتجويع للشعوب التي لا تسير في ركابها..
شتان بين الأمس واليوم..
............

العجيب.. ما قرأه في الصفحة الأولى لجريدة "الأهرام" صباح اليوم..
"أمريكا تبحث تطوير دورها في الشرق الأوسط من الوساطة إلي التحكيم واقتراح الحلول"..
فبعد أن كانت أمريكا وسيط السلام الوحيد.. وهي في الحقيقة حامي حمى إسرائيل في المنطقة.. الآن تبحث تغيير دورها أو تطويره..
ماذا يحدث ؟!! هل هي حيلة جديدة ؟!!
أم أن ذلك هو النظام العالمي الجديد ؟!!
............

تذكر أن صورة الأسبوع في مجلة "باري ماتش" الفرنسية جاءت تحت عنوان "حجارة الكراهية".. صورت فيها "حرب الحجارة" التي تحدث في الخليل إثر الإفراج عن اثنين من طلبة مدرسة دينية يهودية قتلا فلسطينيا.. فتحولت جنازة الشهيد الفلسطيني إلى تمرد دموي.. حيث قذف الفلسطينيون القوات الإسرائيلية بالحجارة.. فردت القوات الإسرائيلية بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي مما أسفر عن مقتل فلسطيني وإصابة أكثر من عشرة فلسطينيين آخرين"..
تعجب.. يتشدقون بالسلام والتسوية وعلاقات الصداقة والتطبيع وأمور أخرى كثيرة لم يعد لها مكان الآن..
وعندئذ طافت بخاطره أغنية فيروز "يا قدس يا مدينة الصلاة"..
............

الليل بدأ يزحف.. ونسمات هواء منعشة تحوم حول وجهه.. قام يشعل مصباح الكيروسين.. فأمس واليوم تتم إصلاحات في خط الكهرباء بالمنطقة..
مسح الزجاجة بقطعة قماش.. وأشعل عود الكبريت وأضاء المصباح.. غمر الضوء أرجاء الحجرة.. ضوء واهن يساعد على الارتياح..
أشعل سيجارة وبدأ يتلذذ بالتدخين.. نفث دخان السيجارة لأعلى.. تصاعد الدخان وبدأ يشكل حلقات تتسع شيئا فشيئا.. ثم تتبدد..
قام وأحضر كتابا من فوق الرف..
قرأ عدة صفحات.. أحس أن ضوء المصباح ضعيف..
عالج المصباح حتى ازداد ضوء المصباح..
استمر في القراءة..
سمع طرقا على الباب..
ـ من ؟!!
لم يسمع ردا.. فكرر مرة أخرى :
ـ من ؟!!
لم يسمع ردا..
قام.. ثم فتح الباب.. وتجول ببصره في الخارج.. لم يجد أثرا لأحد..
أغلق الباب وعاد إلى مكانه يقرأ في هدوء..
............

رفع عينيه من فوق الكتاب..
أحس برغبة في شرب الشاي..
قام وأعد كوبا من الشاي.. وأشعل سيجارة.. وبدأ يرشف الشاي في تلذذ..
خطر على ذهنه أن الإرادة أهم شيء في هذه الدنيا.. وعندما يملك الإنسان إرادته.. فإن كل شئ يصبح سهلا..
شعر بالإنهاك..
عالج المصباح حتى جعل ضوءه خافتا.. ثم تمدد فوق الفراش ونام..
............

فزع من نومه على صوت طرق شديد على الباب.. فرك عينيه.. ونهض مسرعا نحو الباب..
ـ من ؟!!
جاءه الجواب هذه المرة طرق أشد.. فتح الباب.. وجد أمامه عدة أشخاص.. لم يتبين ملامحهم جيدا.. فالوقت مازال ليلا.. والحي يغط في نوم عميق..
سألهم : هل جئتم قبل ذلك ؟!!
أجابه أحدهم : نعم.. جئناك من قبل..
اندفعوا إلى الداخل جميعا بسرعة..
سألهم : ماذا تريدون في هذا الوقت المتأخر !!
أجابه أحدهم : أنت مطلوب..
سألهم باستغراب : لماذا ؟!!!
أجابه شخص أخر : مجرد إجراءات..
رد وهو في طريقه لحجرة النوم :
ـ لحظة.. حتى أغير ملابسي..
اندفعوا وراءه داخل الحجرة..
لم يمنعهم..
نظر إليه أحدهم وهو يغير ملابسه.. وأنهمك الباقون في التفتيش..
أخذوا عدة كنب والمقال الذي كتبه الليلة.. وبعض المذكرات الشخصية المكتوية بخط يده..
............

وبعد انتهاء التفتيش.. قال له أحدهم :
ـ هيا معنا..
لم يعترض..
ألقى على الحجرة نظرة وداع..
ثم خرج معهم وقد ظهرت على ملامحه علامات الحنق الممزوج بالتحدي..
لا يدري ما الذي جعله في تلك اللحظة بتذكر والدته وأخوته اللذين تركهم في القرية.. ويتذكر والده الذي توفى من عدة سنوات.. ويتذكر أول فتاة أحبها ولم يستطع الزواج منها.. فقد حيل بينه وبين ذلك.. عندما تقدم إلى أهلها شاب أكبر منه سنا وأيسر حالا ويملك تكاليف الزواج منها..
............

لم يستطع أن يفسر ما الذي جعله يمشى معهم في هدوء.. دون أن ينبس بكلمة واحدة..
صعد معهم سيارة كبيرة.. سارت بهم مسافة طويلة..
لم يتبين معالم الطريق.. فالليل لم ينته بعد.. والطريق لم يعرفها من قيل..
وألحت على ذهنه أهمية الأحزاب السياسة والنقابات المهنية والعمالية في الدفاع عن المواطنين الذين يتعرضون لمثل هذه الحالات والتصرفات..
وتساءل : هل تستطيع مؤسسات المجتمع المدني تلك أن تمنع ما يحدث الآن ؟!!
............

وتوقفت السيارة حينما وصلت إلى مكان الاحتجاز.. لم يشعر بالاغتراب.. فطالما كانت حياته اغترابا في اغتراب..
فالمدرسة الإعدادية كانت تبعد مسافة بعيدة عن قريته.. وكان يذهب إليها كل صباح ماشيا على الأقدام.. وبعود كذلك ماشيا.. وكذلك المدرسة الثانوية الزراعية التي ألتحق بها نظرا لمجموعه الصغير وكانت في مدينة أخرى.. عاش فيها وحيدا حتى أتم دراسته..
حتى وظيفته تلك التي نقلته إلى القاهرة.. تبعد عن قريته رحلة طويلة تستغرق عدة ساعات بالقطار..
............

لم يشعر بوحشة ولا غربة.. فمعه هنا أصدقاء له كانوا يلتقون دائما.. وجميل أن يلتقي الإنسان بأصدقائه في أي مكان حتى لو كان هذا المكان هو السجن.. لم يحزن ولم تضطرب أعصابه.. بعكس بعض أصدقائه الذين لم يتعرضوا لذلك من قبل..
قالوا له : سوف نحقق معك حينما يجئ دورك..
دهش.. عن ماذا سوف يحققون معه ؟!
عن حبه لبلده ؟ أم عن حبه للعالم وللإنسانية كلها ؟!!
............

الوقت عصرا.. والشمس تغمر المكان بالدفء والنور..
جلس وحده في الزنزانة يدندن وظل صوت فيروز يرن في أذنيه.. "يا قدس يا مدينة الصلاة".. وكأنه يأتي من بعيد.. نهض يبحث عن الراديو الصغير.. وتذكر أنه في السجن.. وأن الراديو أحد ممنوعات كثيرة هنا..
شتان بين الأمس واليوم..
............

جلس مكانه.. أحس بانقباض.. ولم يعد يشعر إلا بصوت فيروز يجلجل في الزنزانة..
شتان بين الأمس واليوم..
لا يدري.. لماذا أحس بفرح حقيقي حينما تذكر زيارته الأخيرة للقرية.. ووجد أخته المتزوجة حاملا.. وتساءل بينه وبين نفسه : ترى هل وضعت وليدها ؟ وهل أسمته باسمه كما وعدته بذلك ؟!!
نادوا عليه.. نهض وعلامات التحدي ترتسم على وجهه.. ثم تمتم بغيظ : الآن.. جاء دوري.. ولكن متى يجيء دوركم ؟!!
............








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب


.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل




.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال